ورد معنى الطّائفة في “لسان العرب” لابن منظور : الطّائفة من الشيء بمعنى جزء منه. فالطّائفة من البشر تعني كلّ جماعة من النّاس يجتمعون حول مذهب أو رأي واحد. أما “الطائفيّة” فهي علاقة انتماء الفرد إلى مجموعة من النّاس تجمعهم رابطة عقدية أو سياسية أو مناطقية قرابية أو غيرها. ومن أسس النزعة الطائفية في المجتمع هو التعصّب لمجموعة دون غيرها، لأنّ طبيعة تشكّلها يقوم على التّمايز الاجتماعي أو السّياسي أو الدّيني الذي يتعارض مع وحدة المجتمع، ويتعارض أيضا مع سنن التطور ومقتضياته. كما تستهدف الطائفية على اختلاف أبعادها الانغلاق وتقديس الانتماء إلى الطائفة وعدم الاعتراف بالتشكيلات الأخرى المختلفة معها؛ باعتبارها تعمل على تحويل الاختلاف معها إلى صراع وتناقض. وهذه النزعة الطائفية عندما تنتقل إلى الحقل السّياسي وتتحوّل إلى “عقيدة أيديولوجية” تؤدّي بالضّرورة إلى تقسيم المجتمع إلى طوائف متعصبّة ومتصارعة في ما بينها بحسب انتماءاتها السّياسية والحزبية، بل يمكن أن تحوّله إلى ذرّات بشرية .
عندما تنتشر “الطائفية السياسية” في المجتمع، وتصبح إحدى ميكانيزمات إشتغال مؤسّسات الدّولة، ويتحوّل مشروعها الأيديولوجي “الطّائفي” إلى سلطة بالضرورة تصبح هذه الدولة “دولة طائفة” أو “شلّة”، لأن هذه الطائفة سوف تكرّس أشكال الولاء السّياسي والاجتماعي لزعمائها السّياسيين فقط على حساب وحدة المجتمع ومعاداة كل من يخالفها الرأي الفكري أو السّياسي. وعادة ما تكون النتيجة لهذه الدّولة الطائفية التفكك والانهيار السّلس مهما رُصدت لها من امكانيات مادية ومن تعبئة بشرية لضمان شرعيّتها. وأكبر خطر تمثّله هذه الظّاهرة “القديمة ــ المُتجدّدة” أنّها خفية ومسكوت عنها، أي لا ينطق بها أصحابها، بل تنتشر هذه النزعة وتمدّ أذرعتها مثل الأخطبوط في مختلف أنسجة المجتمع ومؤسّساته، وتُستبطن تمثّلاتها عند الأفراد والمجموعات عبر الممارسة اليومية، أي تنتقل قيمها وتحقّق أهدافها وتتركّز مخاييلها الذهنية عبر ما يسميه بورديو بـ”الدّوكسا”(Le doxa) أي من خلال جملة التصوّرات والمعايير والقناعات التي تتحوّل بالممارسة والاستخدام النّفعي شبه العفوي )غير العقلاني) إلى حالة ذهنية عامّة متحكّمة في ممارسات الأفراد والمجموعات في المجتمع.
على الرّغم من أنّ “الطائفية السياسية” في وطننا العربي والإسلامي تعدّ ظاهرة قديمة تعود إلى “الفتنة الكبرى” ( 35ــ 41ه / 656 ــ661م ) التي كانت سببًا في انشغال المسلمين لأوّل مرة عن الفتوحات بقتال بعضهم البعض، وكانت سببًا مباشرًا في هزائمنا عبر التاريخ القديم والحديث، فإنّ بعضنا مازال لم يستوعب هذا الدّرس التاريخي المهمّ. بل لقد انخرط زعماء الطائفية السياسية في كل أشكال التعصب وتفرعاته، العقائديّة الدّينيّة والسياسية الأيديولوجية والمناطقية الجهوية وغيرها بعد ظهور جائحة كورونا في تونس، فكانت نتائجها سيّئة وسلبيّة جدا على المجتمع، حيث ساهمت في انتشار الكراهيّة بين التّونسيين. ونتيجة لهذه الظّاهرة غابت العقلانية والرّشد السّياسي في تسيير هياكل الدّولة، وفشلت في تحقيق الحد الأدنى من المَأْسَسة السّياسية الحديثة، وتصدّعت فيها انسجامية الهُويّة المُواطنية الجامعة لعموم النّاس، لذلك نلاحظ تراجعا لافتًا وخطيرا في الولاء إلى مؤسّسات الدّولة وهياكلها الرّسمية، خاصّة بالنّسبة إلى حركة النّضهة الإخوانيّة ) مثلا في تعيين أعضاء مكتب مجلس نواب الشّعب لم يخرج عن الطائفة الإخوانيّة)، وهي إحدى أسباب تراجع الشّباب في الحياة السياسيّة وفي مختلف أشكال المشاركة في إدارة الشّأن العام.
غالبًا ما تكون “الطائفية السياسية” مُثقلة بمحاميل سياسية وأيديولوجية واجتماعية تتعارض مع مصلحة الوطن وما يجمع أبناءه من عوامل مشتركة دينية وثقافية ولغوية ومصيرية. وعمل أعداؤنا وخاصّة الإستعمار الغربي على إثارة هذه النّزعة من جديد، ودعمها تحت عناوين نشر “الحداثة” والديمقراطية” و”حقوق الإنسان” لكن نتيجتها كانت عكس انتظارات النّاس، إذ أدّت إلى تفكيك منظومة “الدّولة الوطنيّة”، لأنّ الأحزاب السياسية لم تتعامل مع المجتمع باعتباره توليفة من المواطنين الذين تجمعهم وحدة الانتماء إلى الوطن، وينبغي تحقيق المساواة بينهم في الحقوق والواجبات في ظلّ مؤسّسات الدّولة الرّسميّة التي تسيّرها القوانين، بل تتعامل معهم باعتبارهم أفرادًا ذوي مقامات ووضعيات اجتماعية وسياسية متمايزة بحسب منطق التّمايز الاجتماعي والجهوي والطائفي ــ السّياسي الحزبي الذي فاق كل التوقّعات، وهو ما كشفت عنه بعض الأحداث المتعلّقة بجائحة كورونا خاصّة في مستوى توزيع الإعانات ومقاومة لوبيات الفساد.
بل إنّ كثيرًا من الهيئات الحقوقية والمنظّمات المدنية التي تنشط خارج الإطار السّياسي، تأثّرت بهذه الظّاهرة، وبدأت تشتغل بذات منطق “الطائفية السّياسية” القائم في المجتمع. فنجد أنّ أغلب الجمعيات المدنية والمؤسّسات العمومية والخدماتية والاتحادات النّقابيّة وغيرها التي تعمل على تعزيز المنطق الطائفي في تحالفاتها. وتجلّت هذه الظّاهرة كذلك في مستوى معايير إسداء الخدمات أو ضوابط التّسميات في بعض الخطط الوزاريّة في الدّولة التي اعتمدتها حكومات “ملأ الفراغ” (Filling the blanks)في مساراتها السياسيّة خلال السّنوات الماضية. فكل شاغلي المناصب العليا في الدّولة مازالوا، مثلما كانوا، أفرادًا محدّدين يتمّ اختيارهم بحسب موالاتهم لإحدى الطّوائف السّياسية الحاكمة أو إرضاء لذوي النّفوذ المالي والاقتصادي في البلاد أو بأمر من السفارات الأجنبية، والتي اعتقدنا أنّه بعد 2011 قد ولّت هذه المنظومة السياسيّة بلا رجعة. ونتيجة للطائفيّة السّياسية بدأ الوعي الجمعي يتطبّع مع روحيّة “مجتمع القهر” والغبن السّياسي، حيث باتت ثقافته التفكيكيّة، المستبطنة اجتماعيا وثقافيا ورمزيا، هي المهيمنة على المشهد العام في البلاد والضّابطة لديناميّة اشتغال مؤسّسات الدّولة والمجتمع معًا.
لقد تحوّلت بلادنا إلى سوق لترويج “الطائفيّة السّياسية”، على حساب اللّحمة المجتمعيّة، والتي كشفتها بعض الأحداث الأخيرة مع أزمة كورونا، وعرّتها سياسات الدّولة التمييزيّة في التّنمية بين المناطق منذ الاستقلال، ومازالت قائمة إلى اليوم في غياب العدالة وتكافؤ الفرص في التمتّع بالعناية الصحيّة والوقاية من انتشار هذا الوباء. فكانت هذه الجائحة بالنّسبة إلى البعض فرصة لتصريف فائض خيانتهم الوطنية و”قدْسَنة”(sacralisation) ولاءاتهم السّياسية الحزبيّة والمناطقيّة الضيّقة وتبعيتهم لأسيادهم في الخارج على حساب مصلحة المواطنين التّونسيين )مثلا قضية تهريب المواد الغذائية والطبيّة إلى خارج البلاد وغيرها). حتّى أصبحت تونس، بعد2011، من أكثر دول المنطقة العربيّة خصوبة لـ”نبْتة” الخيانة الوطنيّة وداعمة للإرهاب ولتبييض الفساد بكل أشكاله وأبعاده، الأفقية والعموديّة؛ فلم يسلم من تأثيراتها أحدٌ سواء من النُخْبةً أو العامّة. وما يدلّل على خطورتها أيضا، في علاقة بجائحة كورنا، ما تعيشه بلادنا من حالة صراع وتجاذبات سياسيّة يوميّة عبر مختلف الفضاءات الاعلامية وفي مجلس نواب الشّعب على حساب معالجة القضايا الحياتيّة للشّعب، وهذه المعارك السياسيويّة تؤشّر إلى خطورة هذه الظّاهرة سواء في تصدّع روحيّة المجتمع الأخلاقية والاجتماعية، أو في مستوى تخلّفه السّياسي الذي أصاب الضّمير الجمعي وبات يهدّد وحدتنا الوطنيّة.