قبل الثورة كنا نعيش تحت ظل دكتاتورية قاسية دجنت الشعب وطأطأت رؤوس النخب، باستثناء من أعلن ولاءه ومشى في ركب الخضوع، فانه ظاهرا مستثنى من حالة المذلة، لكنه في قرارة نفسه ذليل أيما ذل، مسلوب القرار، ومن آثر الانزواء توقيا بعيدا عن السياسة، أمن شر بن علي وجلاوزته، لكنه بعد (الثورة)، انفتحت على تونس باب من الفوضى، رتع فيه كل من كان كالنعامة، لا يجرؤ عن رفع رأسه من تحت حاجز الرهبة، فانخرط فيها الحابل بالنابل، ومن تتوأم مع البطالة ومعه شهادة، يرى فيها مبررا للبقاء عاطلا عن العمل، الى ان يستقيم حظه، وياتي دوره البعيد كل البعد عن متناوله.
غالبية الشعب استغل عشرية ما بعد الثورة أسوا استغلال، فلا الموظف الحكومي قنع بوضعه المهني وما يتقاضاه، ولا بقية مكون المجتمع، من تعليم وصحة وامن وجيش، ووصل الامر الى القضاء، كل هذا ووضع البلاد الاقتصادي يزداد سوء يوما بعد يوم، كل المحصّل أن الغني بقي في غناه لم يتأثر بالتغيير السياسي، والفقير ازداد فقرا، رغم أنه كان فاعلا في الإنتقال الثوري، من الوضع الدكتاتوري للبلاد الى وضع ديمقراطي هشّ.
أسلوب الضغط بالوظيفة الذي مورس في حق الوطن، ستكون له نتائج سلبية على المدى القريب، ذلك أن من ضمن مستقبله، ليس كمن لم يضمنه، وان مئات آلاف المعطلين عن العمل، فيهم بقي يحمل أمل الحصول على وظيفة، وكثير منهم نفضوا أيدهم من المستقبل، فلم يعد لديهم أي أمل في نيل شيء من ذلك، ومن فقد الأمل في مستقبل يحميه من صروف الدهر، فمن المتوقع أن يصدر منه أي شيء، كرد فعل كان محسوبا أو غير محسوب.
العدالة الإجتماعية التي حلُم بتحقيقها الشعب، وخصوصا هذا الجيل من الشباب المنكوب، بفعل سياسة المحاباة والرشوة في العهد السابق، والمتواصلة الى اليوم بأسليب مختلفة، لم تترك لها الصراعات الحزبية مجالا لتُقيم صرحها في مؤسسات البلاد الحكومية خصوصا، فلم تتغير بيرقراطيتها من نمطها القديم الزائغ عن العدالة، الى نمط أكثر ملاءمة لعيش مشترك تتقاسم فيه جميع فئات الشعب حظوظها بالتساوي، مع اعطاء الأولوية للمهمّشين كي يلتحقوا بركب العيش الكريم.
عاملين مهمين سقطا من حسابات حركة شعبنا قمّة وقاعدة، الوطن والتضحية من أجله، امّا الوطن فقد انحسر في عقول المنتفعين الى درجة اصبح يقاس بالمنفعة الشخصية، والوطن عند هؤلاء هو ما سيجره اليهم من منفعة، صفقات بحجم السيطرة على المجال الإقتصادي، وان كانت عديمة الجدوى، المهم ما سيجنيه المصفق من أرباح، انتهازية متأصًّلة في أعماق من ركب دابة السياسة، لتوصله وحده إلى علياء الاستفادة منها، بما يتيح له التحكم في دواليب السلطة، فيأمن بها من غائلة التتبع والمحاسبة.
أما التضحية، فقد غابت عن الجميع سوى قليل من الوطنيين الأوفياء، الذين أصبحوا يعدون استثناء، في خضمّ أغلبية قد طغت عليها الأنانية وحب الذات، فلم يعد لها مكان تقريبا في معاملاتهم، وكأني بالوطنية والتضحية من أجلها، أصبحت عندهم في خبر كان، أو هي مثالية تقرأ في المدارس، من باب الأدبيات الرّمزية، التي دخلت غياهب التاريخ فلم تخرج منه.
ويبدو أن عامة الشعب – وهم الأكثر ضررا – لم يستوعبوا الدرس إلى اليوم، فلا هم فهموا أن واجبهم استعادة زمام البادرة، فينخرطوا في مجال السياسة، بوعي يسمح لهم حسن اختيار ممثليهم، دون أن ينخدعوا مجددا بهؤلاء الذين ركبوا ظهر طموحاتهم، وتبيّن بعد ذلك أن من اختارهم في الدّورات السابقة، لم يكن أغلبهم في مستوى آماله وتطلعاته، وعليه مستقبلا، بعد أن وصلت الأمور بالبلاد الى حافة الإفلاس والإنهيار الاقتصادي، أن يكون أكثر وعيا والتزاما وتضحية، بما يستنقذ ما تبقى من أمل في الإصلاح وتقويم المسار، لإعادة البلاد إلى صفّ الدول السائرة في طريق النّموّ، ولن يكون ذلك إلا بالتضحيات الإخلاص.
أما المكونات السياسية من أحزاب خصوصا، فهي الطرف الذي يجب أن يكون أكثر وعيا ووطنية وتضحية، سواء أكانت مشكلة للحكومة أو في المعارضة، ما يعاب على قسم منها، أنها تأسست على أطماع وغايات شخصية، لا علاقة بها بالوطنية والتضحية من أجلها، فسيفساء السياسة في تونس سيئة البناء وغير متجانسة، وبحاجة إلى إعادة ترتيب لبيتها بإسقاط دخلاء عالمها، حتى لا يكونوا عامل عرقلة وإفساد، وفضح الفاسدين وحده لا يكفي، بل يجب ايجاد ارادة شجاعة في محاسبة الفاسدين والضرب على ايديهم بقوة القانون وعدالته، وهنا يجب أن تنتفي المحاباة، ليكون كافة التونسيين سواسية أمام القضاء، الذي يجب أن يراجع أشخاصا وهياكل لتطهير ساحته من أصحاب المصالح ومن تحوم حولهم شبهات فساد، والوطن لا يزال بحاجة الى مزيد من المراجعة والتطهير، حتى تصبح البلاد بخير وتسير الى الأفضل .