بقلم د. مصباح الشيباني |
إنّ سقوط الدّول جوهريا يسبق اضمحلالها شكليا، باعتباره النقطة التي تفشل عندها في الاستجابة إلى التحديات الداخلية والخارجية، ولأنّ بناءاتها السّياسية وهياكلها المؤسساتية لا تتفكّك في لحظة واحدة، بل تتحلّل بالتدريج، ويستغرق تحلّلها أحيانا عقودا من الزّمن( ولنا في ذلك أمثلة كثيرة في منطقتنا العربية). فمن أسباب انهيار الدّول كما في حضارة أي شعب أو أمّة يعود إلى الفشل في تغيير نظمها الثقافية والاجتماعية والسياسية وفق متطلّبات المراحل التاريخيّة الجديدة، بحيث يخفق الشّعب ودولته في التعامل بنجاح مع التحديات المستحدثة، وبذلك يصاب المجتمع ونخبه بالتيبّس والجمود، ويكون عرضة للهيمنة من قبل القوى الخارجية التي تسرّع في عمليّة تهميشه وانهيار دولته.
وقد بدت تجليات هذه الحالة في تونس، خاصة بعد انتخابات 2019، تتصاعد بوتيرة كبيرة نتيجة عجز الحكومات المتتالية عن الاستجابة إلى مطالب مختلف أشكال الحراك الشعبي وعناوينه السّياسية والاجتماعية والاقتصادية، لأنّ غطاءات شرعيتها استمدها منذ 2011 من سفراء بعض الدّول الغربيّة. هذه الحكومات التي شكّلتها السّفارات الأجنبية وضعت المصلحة الوطنية في قائمة آخر اهتماماتها، حيث تمكنت، وبمساعدة “حكومة الظلّ”، من السّطو “غير الشّرعي” على الهياكل القضائية والدستورية والتشريعية، وتحكّمت في توجيه الرأي العام بحسب ما يخدم مصالح هؤلاء السّماسرة وموكّليهم في الخارج، وعطلت أشغال الهيئات الدستورية ( دائرة المحاسبات، المحكمة الدستورية..) من أجل تهيئة المناخ العام لإقامة نظام حكم فردي بتزكية خارجية أوروبية وأمريكية ــ صهيونية بشكل مباشر ويومي وعلني. ووضعت الشعب التونسي بين فكي كمّاشة “الفرجة” (البهتة) أو”التمرّد” ( الفوضى)من أجل تغيير ظروف لم تكن من صنعه ولم تكن نتائجها من انتظاراته.
فلا يوجد لدى المتحكّمين الفعليين في أجهزة الدّولة في تونس أيّة برامج ورؤى لمواجهة الانهيارات “السّيادية” المتتالية، نتيجة انخراطهم في اللّعبة وتحالفهم مع الرأسمالية الخائنة في التّفويت في مؤسّسات الدّولة السّياسية والدّستوريّة والأمنيّة لرجال المافيا دون أن يدركوا حقيقة أبعادها ونتائجها التخريبيّة. فتواطؤ الإخوان الارهابيين وحلفائها في السّلطة منذ 2011 كان من أجل منع الشّعب من الوحدة ومن بناء قوّته للتخلّص من إستبداد “دولة النّظام” النوفمبرية، وتجريد النقابات العمالية من بأسها ومقامها الرّمزي، وتفكيك مؤسّسات الدولة الرّسمية، وإقصاء من القوى الوطنية والقومية المعبّرة عن مطالب الشّعب من المشهد السّياسي، لتسلّم الأمور لقوى السّوق و”رجال الظلّ” الذين كانوا سببا في فقر الشّعب التونسي ونهب ثرواته، فوجدنا أنفسنا من جديد نسبح في مستنقع نظام العبودية دولةً وشعبًا.
هذه الحالة الانتكاسوية العامّة للبلاد في ظلّ الانهيارات المتتالية لمؤسّسات ” دولة النّظام” والانتقال نحو “دولة المافيا” الممزوجة بسياسة التوافقات المخادعة تحت عناوين “الانتقال الديمقراطي” و”الشرعية الانتخابية” وغيرها، لم يعد يخفى على عاقل، ولا يحتاج إلى بيان أو برهان بأنّ هؤلاء هم أعداء تونس الحقيقيون المتواطئون مع أعدائها في الخارج الذين ليس لهم أي اعتراض على بناء نظام داخلي، مهما كانت تشكيلاته الحزبيّة أو نعوته أو مواصفاته الشكليّة، المهم أن تكون فيه هي حاضرة في السّياسة والأمن والثقافة والتّطبيع مع الصهيونيّة، ويكون فيه دور هذه الأحزاب لا يتعدّى “النائبة للفاعل” في تمرير المشاريع والبرامج والاتفاقيات في الاعتراف بالحالة الإستعمارية المؤبّدة لسطح الأرض التونسية وباطنها.
لقد تفكّكت مع هؤلاء كلّ قواعد ومعايير سيادة الدولة عبر السّياسات الاقتصادية والمالية والتربوية والثقافية والإعلامية التي تشرف عليها بشكل مباشر المنظمات الأوروبية والأمريكيّة والصهيونيّة، فتحلّلت مؤسّسات الدّولة بشكل ناعم وفقدت شرعيتها لصالح سطوة شبكات المافيا والفساد وسماسرة المال وبائعي الأوطان. وتحت أقنعة الصّور الإعلامية المخادعة والسطحيّة، تمكّن السّياسيون الفاسدون من التّلاعب بعقول الناس وعواطفهم، ونجحوا في الاحتراف في مهنة الكذب ونشر جميع أشكال الخدع والسّفاهة بلبوس”الانتقال الدّيمقراطي”، وتمكّنوا من النّجاح في ممارسة جميع أشكال “المغالطات” من أجل التّسلية بمصالح الشّعب الذي انتقلت حاله من السّيئ نحو الأسوأ، ونجحوا في تجهيل نخب المجتمع وتحقيق غفوتهم عن تصحيح مسارات تاريخ بلادهم والاهتمام في كتاباتهم ونقاشاتهم وندواتهم بالتّفاهات وتغييب جوهر الأشياء.
لقد وصلت الأزمة في تونس إلى حالة من تقديس الانتهاك للسّيادة الوطنيّة والتّباهي بها في السر والعلن من قبل الإخوان وحلفائها في “دولة المافيا”، فزادت شبكات الفساد في تعاظمها وتوسعها أفقيا وعموديا، وبدأت خيبات الأمل في ضبطها والحد من سطوتها على مؤسّسات الدولة تتأكّد يوما بعد يوم، سواء عبر مسرحة الأحداث الإرهابية أو عبر السّطو على المؤسّسات الدّستورية والتشريعية. لقد تعدّدت مسالكها التنويمية ـ الظاهرة والخفية ـ التي راهنت أساسا على منطق “التّكاثر” والتعدّد في الحاكمين الصّوريين، وعلى بعثرة مناويل السّلطة ومؤسّساتها وتعبئة آلياتها الزبائنية والعصبية والشعبويّة، فوصلت بالبلاد إلى مرحلة القابليّة للإستعمار المباشر دون خجل أو حياء. وفي الأخير، نجحت الدولة المافيوزيّة في جلب كل العملاء وسماسرة المال والسّياسة وفرضتهم في المواقع السّيادية في الدّولة لكي يقوموا بدور “كلاب حراسة” لمصالحها؛ يأتمرون بأوامرها ويدافعون عنها، وباتت الصّورة قاتمة والمشهد العام مخجلاً تنطق فيه الأحداث وتعبّر عن نفسها بنفسها ولا تحتاج إلى خبراء أو محلّلين أو فلاسفة أو منجّمين!