لا شكّ أن البحث في قضية نظام الحكم السّائد فى تونس اليوم، يكتسب أهميته من حقيقة أساسية وهي أن منطق السّياسة لم يعد يقبل استمرار صيغة “توافقية” (تلفيقية) مفتعلة لواجهة ديمقراطية “وهميّة” ترتكز على شكل من المؤسّسات “الحديثة” المعطّلة والمطعمة ببعض الآليات الدّستورية الشكلية، والمرتكزة فى الوقت نفسه على جذر استبدادى فى صورته الأصلية وسياسات مائعة تفتقد إلى الحد الأدنى من الشرعية الدستورية. إنّنا في حاجة ماسة فى هذا الإطار إلى طرح نوع من “الاستدراك” بشأن عملية تأسيس منظومة “الاستبداد الدّيمقراطي” وتجلياته في تونس.
ولفهم خطورة هذا المسار على مستقبل البلاد سوف أنطلق من طرح عدد من الأسئلة التي تحتاج إلى التعمّق فيها وهي:
1ـ كيف تحوّلت وثيقة سياسية عابرة وارتجالية إلى “قانون” أعلى تفوق مرتبة علوية “الدّستور” ومقامه التشريعي ومجهضة له في الآن نفسه، يستنجد بها رئيس الدّولة من حين لآخر من أجل تجاوز قوانين الدّولة والتغطية على إخفاقات حكومته السياسية في قيادة البلاد؟
2ـ هل يمكن تفعيل المحاور التي وردت فيما تسمّى بـ “إتفاقية قرطاج” في ظلّ غياب الهياكل الدّستورية المكلفة بتنفيذها؟
3ــ إلى أي مدى سيتواصل صمت الأحزاب غير الموقّعة على هذه الوثيقة أو المنسحبة منها ومنظمات المجتمع المدني الأخرى على حالة “الميوعة السياسية” التي باتت تتحكم في هندسة المشهد العام في تونس؟
يبدو أن الأحزاب الحاكمة في تونس قد وضعت مسلمات جديدة، أو هي تسعى لذلك، في اتجاه الدّخول في الانعطافات الحادة في المسار السّياسي والاقتصادي والانزلاقات اللاّمتناهية في حماية مكاسبها “الحزبيّة” على حساب مصلحة الشّعب. ومن أبرز هذه الانزلاقات أو الانحرافات تتجلى في تعاملها مع النصوص القانونية الأساسية وتبخيس معانيها في التجربة وفي إدارة البلاد. فبتنا نعيش في مرحلة احتضار لقوانين الدّولة ( وأوّلها الدّستور) ولمؤسّساتها وهياكلها المختلفة (التشريعية والقضائية والسياسية). لقد بدأنا نشعر في تونس أننا نعيش حالة من “هلامية الدّولة”. وهذه الحالة يصعب فيها بناء نظام سياسي محدّد، ولاسيما في حالة غياب استقلالية الهياكل الدستورية والتشريعية فيها. وازدادت هذه الحالة تعقيدا وخطورة أكثر منذ أن أصبح النّظام يعتمد في سياسته على شرعية “توافقية” ( إتفاقية قرطاج) من خارج مؤسّسات الدّولة الرّسمية وليس من داخلها.
نشير في البداية إلى أن “إتفاقية قرطاج” التي تم توقيعها في 13 جويلية 2016، هي في الأصل “مبادرة” صادرة عن رئيس الدولة، وجاءت في ظرفية سياسية متأزّمة اجتماعيا واقتصاديا من أجل التخفيف من ضغوطات الشارع ومؤسّسات المجتمع المدني بعد حل حكومة “بشير الصيد”، ومن أجل شرْعنة حكومة ” يوسف الشاهد” الأولى. ولم يوقّع عليها إلا تسعة أحزاب وثلاث منظمات وطنية. ثم بعد ذلك انسحبت منها أربعة أحزاب وهي: حزب “آفاق تونس” وحزب “حركة مشروع تونس” وحزب ” حركة الشعب” و”الحزب الجمهوري”. إذاً ماذا بقي؟
أما المحاور الكبرى التي وردت بهذه الوثيقة فهي :
1ـ كسب الحرب على ا لارهاب.
2ـ تسريع نسق النمو والتشغيل.
3ـ مقاومة الفساد وإرساء مقومات الحوكمة الرشيدة.
4ـ التحكم في التوازنات المالية وتنفيذ سياسة اجتماعية ناجعة.
5 ــ إرساء سياسة خاصة بالمدن والجماعات المحلية.
6 ــ دعم نجاعة العمل الحكومي واستكمال تركيز المؤسّسات.
ما يمكن أن نلاحظه ودون تحليل معمّق لها ( ليس هدفنا) أنّ هذه المحاور الستّة التي وردت بهذه الوثيقة لا يمكن أن تتحقّق في ظل غياب آليات تنفيذها على الواقع، ونورد بعض الأمثلة لذلك:
أولا: كيف يمكن مقاومة الفساد وإرساء مقومات الحوكمة الرشيدة في ظل غياب إستقلالية عمل “هيئة الحوكمة الرّشيدة ومكافحة الفساد” التي نص عليها الفصل 130 من الدّستور بدليل اعتراف رئيسها في عديد المناسبات بأنّ ملفات الفساد أصبحت معقّدة ولا يمكن مقاومتها ، وبأنه يتعرض إلى عديد الضغوطات (الاعتداء على سيارته وسرقة بيته) من أجل عدم تتبع أصحاب بعض هذه الملفات.
ثانيا: أكدت وثيقة قرطاج في المحور الرابع على ضرورة التحكم في التوازنات المالية وتنفيذ سياسة اجتماعية ناجعة. هذا الهدف نبيل في المطلق لكنه في التنفيذ يتحول إلى مجرد حديث “لغو” لا تتعدى قيمته قيمة الورق الذي كتب فيه. فكيف يمكن أن نحفظ التوازن المالي في ظل سياسة “الرّيع” والاقتراض الخارجي وفقدان السيادة؟ وكيف يمكن أن تنفذ سياسة اجتماعية ناجعة في ظل غياب الهياكل المكلفة بها والتي أكدت عليها ما تعرف بـ”وثيقة العقد الاجتماعي” التي وقعتها حكومة “حمادي الجبالي” مع “الاتحاد العام التونسي للشغل” و”الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية” في الذكرى الثانية للثورة (14 جانفي 2013)؟
فقد نصت هذه الوثيقة في الفصل الثاني (02) على ضرورة إحداث “المجلس الوطني للحوار الاجتماعي” الذي يتولى تنظيم الحوار الاجتماعي وإدارته في جميع مضامين العقد الاجتماعي وفي المسائل الاجتماعية والاقتصادية. وأكدت في الفصل الثالث ( 03) على أنّ ” يستشار المجلس وجوبا في مشاريع القوانين ومشاريع الأوامر الحكومية ذات العلاقة بالشغل …..”. فهل أنّ الأحزاب الموقّعة على وثيقة “إتفاقية قرطاج” واعية بهذه الاخلالات القانونية والدّستوري أم لا؟ وإذا كانت واعية أو غير واعية بذلك، ألا تعتبر شريكا في اختراق القوانين وإجهاض عمل هذه المؤسّسات الدستورية وتعطيل بعث الأخرى الضّامنة وحدها لهذه المبادئ؟
ثالثا: وردت في المحور السّادس من هذه الوثيقة نقطة مهمة وهي “العمل على دعم عمل الحكومة وتركيز المؤسّسات”. والسؤال هو: إلى أي مدى التزمت الحكومة بهذا الاستحقاق السّياسي في الواقع؟
يبدو أن هذا النص قد قام كله على ما يسمى بـ”فن المغالطات” وسوف أورد بعض الأمثلة للتدليل على ذلك:
1ــ لماذا لم يُفعّل مشروع قانون “التّصريح بالمكاسب والمصالح وبمكافحة الاثراء غير المشروع وتضارب المصالح بالقطاع العام” ولم تتم المصادقة عليه إلى اليوم، بينما تمّت المصادقة على ما سمي بـ”قانون المصالحة الإدارية” الذي وضع بعده؟ أليس في الأمر تعطيلا لعمل الحكومة في محاربة الفساد، علما وأن الفصل الأول من مشروع هذا القانون ينص صراحة على:” دعم الشفافية وترسيخ مبادئ النزاهة والحياد والمساءلة بالقطاع العام!
أليست وثيقة قرطاج هي وثيقة لشرعنة “الميوعة السّياسية” و”فَرْدنة السّلطة” وإجهاض لشرعية “الهياكل الدستورية” في ظل غياب أية شحنة قانونية إلزامية لتنفيذ مبادئها العامة؟
نعتقد أننا نحتاج إلى استعادة الدلالات الأولى لكل المفاهيم التي نسجت محاور هذه الوثيقة والتي تحوّرت وتلوّنت في الواقع وداخل المنظومات والمدونات الفكرية والسياسية والخطابات الاعلامية، وتعرت رهانات استخدامها وأهدافها. وهذا يستدعي منا مجهودا، أو ما يطلق عليه البعض بـ” أركيولوجيا المفاهيم”، أي الحفر في معنى المفهوم وسياقات استعماله وتمثلاته عند الناس.
فباسم “التوافق السّياسي” يتم اجهاض منظومة البناء الدّيمقراطي وآلياتها الدستورية. وعملا بمقولة: ” تثبيت الأنظمة قبل عودة المقاتلين” سعى حزب “نداء تونس” إلى جعل الأحزاب السّياسية سواء من الحلفاء في الحكومة أو في المعارضة يختارون الاذعان إلى الأمر الواقع والانحناء خارج الطريق. لا يوجد للسّياسيين في الدولة أية برامج ورؤى لمواجهة الانهيارات المتتالية. وقد نتجت هذه الحالة على نحو عضوي نتيجة التحالفات بين الأحزاب الحاكمة والرأسمالية الخائنة دون أن يدركوا حقيقة أبعادها ونتائجها التي ستترتب عليها. فالكل تواطؤ من أجل تجريد الشعب من علوية دستوره وشرعية هياكله المنتخبة وسلطاتها والنقابات العمالية من بأسها. وهكذا انسحبت مؤسّسات الدولة الرسمية من الساحة وتركت الأمور لقوى السوق ونزاعاتها وحرب الكل ضد الشعب، فوقعنا في مستنقع العبودية الجديدة، دولةً وشعبًا. ولم يبق شيئا قابلا للمراقبة أو يمكن التحكم فيه أو إخاضعه للعقلنة طالما أنّ السّياسة تحولت إلى لعبة توافقية من أجل إنتاج مسرحية تراجيدية سياسية. لذلك، أصبح الواقع كله مخيفا ومزعجا ومُلغّزًا.
لقد أفرطت شبكات الفساد في تعاظمها وتوسعها أفقيا وعموديا، وبدأت خيبات الأمل في ضبطها والحد من سطوتها على مؤسّسات الدولة تتأكد. وتعددت مسالكها التنويمية ـ الظاهرة منها والخفية ـ التي راهنت أساسا على التكثّر في الحاكمين الصوريين (المرتزقة)، وعلى التبعثر في مناويل السّلطة ومؤسّساتها وآلياتها الزبائنية والعصبية والمحسوبية. فوصلنا إلى مرحلة معاودة إنتاج الاستعمار دون خجل أو حياء!
يبدو أنّ ما أصاب بلادنا من اخفاقات سياسية ـ على مدى سبع سنوات ـ وما اعتراها من عثرات في مسار عملها السّياسي عائد في المقام الأوّل الى عجز قيادات الأحزاب الحاكمة على مغادرة قادتها نزوعاتهم الذاتية، والعمل على مصادرة شرعية هياكل الدولة الدستورية ( مجلس النواب، المجلس الدستوري ـ هيئة الحقيقة والكرامة ـ هيئة الفساد وغيرها) وتهميش دور منظمات المجتمع المدني أو محاولة “توريطها” في التّغطية على إخفاقتها باسم “حكومة الوحدة الوطنية” بصرف النّظر عن مخرجاتها وإمكاناتها وفاعليتها ومدى تأثيرها في المشهد السياسي العام، أي دون النظر إلى مدى امتلاكها قدرات وكفاءات ومؤهلات ومستويات ثقافة القيادة التي تقتضيها احتياجات مسيرة “العمل التشاركي” في الظروف الرّاهنة، وما تفرضه من نمط خاص ومتميز للتعامل من مستجدات الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتحسب لتداعياتها وتفاعلاتها السلبية.
إنّ من يُرهن مستقبل بلاده في الحصول على تحقيق طموح شخصي أو حزبي أو جهوي أو مذهبي لن تتوافر لديه شروط الحصول عليه أو تحقيقه على حساب ثوابته الوطنية لا يصلح أن يكون قائدا أو حتى عاملا في إطار العمل الوطني، وحري به أن يغادر ساحة العمل السّياسي إلى أعمال أخرى قد تقرّبه من إشباع طموحاته الشخصية أو تُرضي غروره وتستجيب لاحتياجاته النّفسية المريضة حتى لا يضيع ما تبقى له من رصيد احترام من بعض النّاس له. ومقابر التاريخ السّياسي للأفراد والأحزاب والأيديولوجيات والأنظمة السّياسية التي تحللّت في مختلف أنحاء العالم واندثرت نتيجة عجزها عن تجديد آلياتها أو تغيير طرق عملها وظلت متمسكة بقوالب حياة قديمة لم تستطع أن تواجه بها التحدّيات الجديدة كثيرة، ومثلما يقول المثل:”لو دامت لغيرك لما آلت إليك.
(قراءة بتاريخ 9 أفريل 2018)