بقلم: د. مصباح الشيباني |
اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في جلستها العامة رقم 2400 في 10 نوفمبر 1975 قرارا تحت عدد 3379 ينص على “أنّ الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”. وطالب هذا القرار جميع دول العالم بمقاومة الأيديولوجية الصهيونية التي تشكل خطرا على الأمن والسلم الدوليين. وقد كانت كل الدول العربية، ومنها تونس،موافقة على هذا القرار. ولكن كما هو معروف، ونتيجة تغير موازين القوى في العالم نتيجة تفكك “الاتحاد السوفياتي” وتفرّد أمريكا بالهيمنة على قرارات منظمة الأمم المتّحدة، تم إلغاء هذا القرار في 16 ديسمبر 1991 بعد انطلاق ما تسمى بـ”مفاوضات السلام” مع العدو الصهيوني في مؤتمر مدريد في أكتوبر 1991. وبعد مضي أكثر من 26 سنة على الغاء هذا القرار يكاد لا يختلف اثنان من أنّ صفة العنصرية و”الارهابية” و”الاستيطانية” مازالت ملازمة للحركة الصهيونية العالمية ولدولتها إسرائيل في فلسطين المحتلة. فما الذي يدفع بعض العرب من تغيير مواقفهم؟ أليس الاحتلال الصهيوني لفلسطين مازال قائما؟ ألا تمارس دولة العصابات الصهيونية في فلسطين وخارجها أبشع أنواع الارهاب والقتل بالاغتيالات والحصار والتّهجير، وهي تعدّ كلّها من أخطر الجرائم العنصرية التي عرفتها الإنسانية في تاريخنا المعاصر؟
يبدو أنّ بعض العرب الصهاينة قد أصيبوا بفقدان الذاكرة وبمرض “الاعتام العقلي” ــ الجزئي والكلي ــ (فقدان البصيرة) عن هذه الحقائق التاريخية، وعن ملاحظة الظواهر والأشياء على حقيقتها رغم وضوحها أمامهم في كل يوم وليلة. وهذه الحالة المرضية تنطبق على حكومتنا في تونس وبعض المسؤولين عن سياسات التطبيع الثقافي والرياضي و”البريدي”( إصدار طابع بريدي فيه صورة معبد الغريبة” بجربة بدعوى معلم تراثي) استبلاها لعقول التونسيين، واختراقا لكل القوانين التي تمنع هذه الأشكال التطبيعية السرية وغير المباشرة الخسيسة؛ وهي في كل الأحوال تندرج ضمن التعدّي غير القانوني وغير المسؤول، في ظل غياب المحاسبة والمراقبة، على مشاعر التونسيين الذين حاربوا في فلسطين في كل الحروب العربية منذ عام 1948 وكان منهم من استشهد فيها.
نعتقد أن الأحداث الأخيرة التي تواترت في اتجاه “التّطبيع السّلس”، التي قد يراها البعض بسيطة من حيث الشكل، فإنّها عميقة على مستوى المضمون والأبعاد:
1ـــ فمن حيث المضمون؛ تعبّر هذه الأحداث والأنشطة ( وكان آخرها مشاركة جمعيات شبابية تونسية في احتفال دولة الاحتلال بتأسيسها منذ 71 عاما) عن انخراط تونس في نقلة جديدة وحلقة خطيرة في سلسلة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وبدأت تتجه من السر إلى العلن، والعمل على تجييش الناس (العامة) وتغيير عمق “ذاكرتهم الجماعية” وتمثلاتهم للعدو، من خلال تكثيف حملات الدّعاية في كل المناسبات وعبر مختلف الوسائل. وتعبّر أيضا عن بلوغ التّطبيع منتهاه في محاولة لتحريف الحقائق التاريخية لعلّ من أهمّها: أن “إسرائيل” دولة “عنصرية” مغتصبة لأرض عربية، ليست إلا أداة “للحركة الصهيونية العالمية”، وهي أكبر منظمة إرهابية في العالم اليوم. فمن خلال هذه الأنشطة : الإعلامية، والسياحية، والثقافية، والتجارية وغيرها، يسعى العدو الصهيوني وعملائه في تونس،وفي الوطن العربي عمومًا، إلى أن يغيّروا إحدى أهمّ معادلات قوّة المقاومة العربية في الاشتباك مع هذا العدو، في محاولة للسّطو على “الذاكرة الجماعية” المناهضة للتطبيع، بشكل ناعم ومرحلي، من أجل تفكيك ثوابت الأمة التاريخية ( لا صلح لا اعتراف لا تفاوض) تحت عناوين مختلفة مثل: التّسامح وقبول الآخر وغيرها من المفاهيم لتبييض سياسات التطبيع وشرعنتها.
2ـــ أما بالنّسبة إلى الأبعاد، فإنّها تعبّر عن أن أمّتنا العربية تمر بمرحلة من أحلك مراحل تاريخها منذ اغتصاب الأرض العربية وقيام دولة إسرائيل في فلسطين عام 1948. لقد عملت الحركة الصهيونية في ظل الاحتلال البريطاني لفلسطين منذ ثورة 15 أفريل 1936 التي كانت نقطة تحول في “تعريب” و” قومية” القضية الفلسطينية بزعامة الأب الروحي للمقاومة العربية في فلسطين “عزالدّين القسّام ( سوري) ، أنّه لا يمكنهم أن يحقّقوا أهدافهم وينشئوا دولتهم وأن يخفّفوا من ضغط الشّعب العربي ورفضه لمشروعهم، إلا عبر إقامة تحالفات بينهم وبين الزعماء العرب ومع بعض الطوائف العربية والحركات الانفصالية ( مثل الأكراد في العراق، وبعض المرتزقة “الأمازيغ” خاصة ذوي الجنسية الفرنسية في المغرب العربي) وكل من يعادي أمتنا. وكان مبدؤهم، في ذلك، هو اعتماد كل وسائل العنف والخديعة. ويبدو أن السادة المسؤولين عن هذه الأنشطة، لم يقدّروا مشاعر التونسيين، وانخرطوا في التّطبيع “علنًا” واختراقا للدستور وللقوانين والأعراف الديبلوماسية، في محاولة للتأثير في أفكار الناس ومواقفهم، وخدمة للعدو في محاولة لـ”صهينة”العقل العربي، أي إنّ كلّ هذه الأنشطة تتنزل كلها في إطار الدّعاية وتعبئة الأصوات العربية المتصهينة بهدف التّخفيف من عزلة “دولة إسرائيل” إقليميا وضمن أهداف مشروع “الشرق الأوسط الجديد” ، ولو كان باعتماد كل أشكال الكذب والخداع.
كما تعبّر هذه الأحداث عن مؤشّر خطير في مستوى دينامية تاريخ أمتنا العربية في علاقتها بالاستعمار الغربي، وإن كانت هذه الدينامية ذات أبعاد سلبية ومأساوية منذ العشرينات من القرن الماضي، عبر طرح عديد المشروعات والمبادرات للتّفويت في الأرض العربية،انطلاقا من قبول هجرة اليهود إلى فلسطين، مرورًا بالتطبيل والتهليل والدعاية لإمكانية التعايش السلمي مع العدو الغاصب(إتفاقيات أوسلو)، وصولا إلى التحالف مع الأعداء للقضاء على المقاومة العربية في فلسطين ولبنان والعمل على تقزيم دورها ونعتها بشتى النّعوت (الارهاب)، وصولا إلى ما تسمى بـ”صفقة القرن”.
ولأنّ الأمر، وبكل بساطة، ليس في عهدة الأنظمة العربية ، ولا في عهدة رؤساء حكوماتها أو ملوكها و لا شيوخها، ولا في عهدة جامعة الدول العربية، ولا في عهدة منظمة الأمم المتحدة، ولكنّه في عهدة الشعب العربي الذي قال كلمته: ” لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض” مع العدو. وقد أعاد قول كلمته في كل المعارك، أهمها في لبنان منذ عام 2006 وفي فلسطين منذ أيام، أنّه “من رحم السّقوط يخرج النهوض”، وأنّ أيّة جهة رسمية أو غير رسمية، عربية كانت أو فلسطينية، تتواطؤ مع العدو وتقبل التطبيع معه، لن تُمثل إلا ذواتها ولا يمكنها مهما ادّعت من “شرعية” أن تتنازل عن حق ليس من حقها التصرّف فيه، ويصدق فيها قول الشّاعر:
وينبحُون النبح كالكلاب***طريقهم ليس على الصّواب
وليس فيهم من فتى مُطِيع***فلعْنة الله على الجميع.
الوسوممصباح الشيباني
شاهد أيضاً
“جَرَسِيّة الارهاب” في تونس وإيقاعاته على أوتار الأحداث الوطنية !…بقلم: د. مصباح الشيباني
لم يعد الفساد في تونس ظاهرة شاذّة أو مخفية، كما لم يعد فشل الحكومة …