بقلم د. نعمان المغربي (باحث في علوم الأديان المقارنة، تونس)
مَحَاوِرُ السّورة: 1. ﴿لَن يَنَالَ اللَّـهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَـكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾(الحج،37) 2. ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب﴾(الحج، 32) 3. «العُبُودِيَّةُ بَذْلُ الكُلِّ»(الإمام الصادق (ع)). |
موضوع السورة الكريمة:
من خلال مقدمة السورة وخاتمتها نتبيّن أن موضوع السورة المباركة هو السُّبل العَملية والرمزية للتقوى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ (الحج،1)، وذلك حتى لا نكون من الذين لم يتقوا الله: ﴿مَا قَدَرُوا اللَّـهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّـهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(الحج،74). وتَعْتَبِر السورة أن الحج إلى مكة من أهم تمارين الحج إلى الله تعالى. فما هي الوسائل العملية التي تفترضها هذه السورة المباركة من اجل المجاهدة (في الله)، كُبْرى وصُغرى،﴿حَقَّ جِهَادِهِ﴾(الحج، الخاتمة، الآية الأخيرة). |
السور الشقيقات: سورة البقرة (مقطع الحج…) + سورة الصافات(المقطع الإبراهيمي ــ الإسماعيلي). |
-
ما هي التقوى؟
يرى أهل الذكر، عليهم السلام، أن «التقوى» على ثلاثة أوجه:
«-تقوى بالله تعالى: وهو ترى الخلاف، فضلا عن الشبهة وهو تقوى خاص الخاص.
- وتقوى من الله تعالى: وهو ترك الشبهات، فضلا عن الحرام، وهو تقوى الخاص.
- وتقوى من خوف النار والعقاب: وهو تقوى العام.
وَمَثَلُ التقوى كماء يجري في النهر.
ومثل هذه الطبقات الثلاث في معنى التقوى كأشجار مغروسة على حافة ذلك النهر، من كل لون وجنس. وكل شجرة منها تمتص الماء من ذلك النهر على قدر جوهره وطعمه ولطافته وكثافته. ثم منافع الخلق من تلك الأشجار والثمار على قدرها وقيمتها»[1].
ويرى الإمام الصادق، عليه السلام، أن «التقوى للطاعات كالماء للأشجار. ومثل طبائع الأشجار والثمار في لونها وطعمها مثل مقادير الإيمان.فمن كان أعلى درجة في الإيمان وأصفى جوهره بالروح كان أتقى. ومن كان التقيّ كانت عبادته أخلص وأطهر ومن كان كذلك كان إلى الله أقرب. وكل عبادة مؤسسة على غير التقوى، فهي هباء منثور»[2].
وبعد هذه العملية الاستقرائية في التقوى، يَخْلص الإمام الصادق عليه السلام إلى تعريف جامع للتقوى بأنها: « ترك ما ليس يأخذه بأس حذرا مما به البأس. وهو في الحقيقة طاعة بلا عصيان، وذكر بلا نسيان، وعلم بلا جهل، مقبول غير مردود»[3].
ويبدأ سيدنا الحاج التقيّ، روح الله الموسوي، رضوان الله عليه، باللغة، فيقول إن التقوى من الوقاية «بمعنى المحافظة»[4]، ثم يمرّ إلى الاصطلاح الإسلامي ليقول إنها «وقاية النفس من عصيان أوامر الله ونواهيه وما يمنع رضاه. وكثيرا ما عرّفت بأنها حفظ الناس حفظا تاما عن الوقوع في المحظورات بترك الشبهات»[5]. وقد استشهد الحاج التقيّ بأحاديث أهل الذكر عليهم السلام لنقارب مقولة التقوى أكثر: «ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يَعْلم»، «فمن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه»[6]. وهو يؤكد أن التقوى ضرورة إسلامية «لا يمكن بدونها بلوغ أي مقام. وذلك لأن النفس ما دامت ملوثة بالمحرمات، لا تكون داخلة في الإنسانية، ولا سالكة طريقها»[7]. فدون عقل اللذائذ النفسية لا يمكن الوصول إلى أول مقام في الكمال الإنساني وعَدم عَقل حب الدنيا لا يمكن الوصول إلى مقام المتوسطين والزاهدين، ودون عقل حب الذات لا يمكن نوال مقام المخلصين والمحبين، ودون عقل الكثرة المُلكية والملكُوتية في تمثل القلب لا يمكن نوَال مقام المنجذبين؛ «ومادامت كثرة الأسماء متجلية في باطنه، لن يصل إلى الفناء الكلي؛ ومادام القلب يلتفت إلى المقامات، لن يبلغ مقام كمال الفناء؛ ومادام هناك تلوين لن يصل إلى مقام التمكين»[8].
ويرى الحاج التقي روح الله الموسوي، رضوان الله عليه أن «تقوى العامة تكون إذًا من المحرّمات، وتقوى الخاصة من المشتَهَيَات، وتقوى الزاهدين من حب الدنيا وتقوى المخلصين من حب الذات، وتقوى المنجذبين من كثرة ظهور الأفعال، وتقوى الفانين من كثرة الأسماء، وتقوى الواصلين من التوجه إلى الفناء، وتقوى المتمكنين من التلوينات: ﴿فَاستَقِم كَما أُمِرتَ﴾(هود،112).[9]
-
التقوى هي الصحة النَّعَامِيَّة[10] واتقاء المرض النفسي:
«النّعامُ» (اسم جنس) هو النَّفْس، ومفردها «النّعامة» والجمع «أنعام».
وقد جاء تمثيل القرآن الكريم النّعام والنّعامة والأنعام بالنِّعَمِ (وجمعه الأنعام أيضا)، وهي «المال الراعية»، أي «الإبل والبقر والغنم»[11]، من أجل الاستعبار: ﴿وَإِنَّ لَكُم فِي الأَنعامِ لَعِبرَةً نُسقيكُم مِمّا في بُطونِهِ مِن بَينِ فَرثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خالِصًا سائِغًا لِلشّارِبينَ﴾(النحل،66).فالأنعام /الحيوانات ﴿لَعِبرَةً﴾، أي للتعبير عن (الأنعام) / النفوس الإنسانية، مقاماتٍ ومراتبَ. فالأولى ينبغي أن تكون مَشْعَرا للثانية ومَعْبَرا لها.فالأنعام الحيوانية الثلاثة(البقر، الإبل والغنم) ليست مقصودة لذاتها في الذكر القرآني الحكيم، بل لِنَعْبُرَمن المشار به الحيواني إلى المشار إليه، النفسي/الإنساني. فالألف التي بين «النّعم»و«النّعام» هي ألف العبور إلى الإنسان.
إنّ غاية «الكسْب» الإنساني الإيماني هي رفع درجات النّعام من أجل جعلها ذاكرة لاسم الله تعالى ﴿فَكُلوا مِمّا ذُكِرَ اسمُ اللَّـهِ عَلَيهِ إِن كُنتُم بِآياتِهِ مُؤمِنينَ﴾(الأنعام، 118). والأكل هو الاسترزاق[12]، المادي والروحي، أي التنمية والكسبُ واتخاذ أسباب الحياة.
فالنَّعَامُ ينبغي أن نحصّل تعليمه على ما ينبغي بنيّة ومشيئة[13]إيمانيّة تؤدي إلى كمال الإنسان حتى لا تنزو النعامة على العُرْف[14]، فالنعامة ينبغي أن تقصد الصورة الإنسانية الكاملة[15].
إن إسم الكائن هو ما يُعْرف به. وقد ثبت أن «كلّ دار التحقق، من الغاية القصوى للعقول (=الأعراف) المهيمنة القابسة إلى منتهى النهاية لحذاء العالم الهيوليّ والطبيعة، هو إسم الله الأعظم، ومظهر تجلّي المشيئة المطلقة، وهي أم الأسماء الفعليّة، كما قالوا: (ظهر الوجود ببسم الله الرحمان الرحيم). فإذا لاحظت كثرة المظاهر والتعينات، فإنّ كل إسم عبارة عن ظهور ذلك الفعل أو القول الذي يقع بعده»[16].
وأوّل خطوة لدرجات كدْح النعامة وتصفية الإنسان لها هي أن يُفهمها «أن جميع التعينات ظاهرة باسم الله»[17]، أي «مقام المشيئة المطلقة»[18].
إن استرزاق النعامة باسم الله تعالى هي أننا نجعلها تتذكر أنها لا تملك استقلالية عن الله تعالى، فهي لا شيء وليس في العالم موجود له استقلال عن الله عز وجل أو له حد الوجود، فهي ممكنة ككل كائن، ولا واجب إلا هو[19]. فأنانية النعامة تجعلها «معرضة عن الحق» (الأنعام، 4)، و«جميع الحروب في هذا العالم من هذه الأنانية. فما من حرب ونزاع بين المؤمنين، فإذا نشبت حرب بين المؤمنين فليعلموا أنهم ليسوا مؤمنين»[20]، في تلك اللحظة.
إن غاية أكل النعامة باسم الله، عز وجل، جعل الإنسان «شائياً» لها، بأن يطابق مشيئته مع مشيئة الله تعالى، فيصبح «مالكا لها»:﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾(يس، 71).
ولا يكون ذلك إلا «برعاية النعام»، أي مراقبته بالرياضات الدينية والمجاهدات الرّبّانية: ﴿الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ مَهدًا وَسَلَكَ لَكُم فيها سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخرَجنا بِهِ أَزواجًا مِن نَباتٍ شَتّى﴾(طه، 53). فالأكل (أي الاسترزاق والاستهلاك الإنسانيان) لا يكون إلا برعاية الأنعام. فهنالك تكون الدرجة النعامية آية من آيات النهي، أي درجة من درجات العقل.
إنّ«“الأكل» بما هو الاغتذاء والتقوى بما يختص بالإنسان «من الأحوال والأخلاق والأمداد والمواهب كالرضا والصبر وعلم الأسماء والخواص والأعداد وسائر الإدراكات والإرادات والمقامات»[21]، يتطلب «رعاية» القوى النعامية سَوْقا تربويّا. إنه سَوْقٌ يشرف عليه نجومُه الهُداة، الدائرين في فلكه الجميل القويم (الأنعام، 97)، (النحل، 16)، وأفلامهم من أولي النّهي، أي أرباب العقل الإنساني.
لقد خلقنا الله تعالى من هذا النعام، وفيه «يُعيدنا»، إذ هي أنعامٌ، أي درجات نفسية، «بالإماتة عند الرياضة، حتى يلازم كل محله، ويندس فيه، لا حَرَاك به، ولا يتطلب التجاوز عن حده، والاستيلاء على غيره بمحو صفات (النعامة) حتى الفناء»[22].
ومن تلك الدرجة النعامية، يخرجنا الله تعالى إن اعتصمنا بحبليه الممدودين بين السماء والأرض (كتاب الله وعترة النبي)[23]، لندخل درجة نعامية أخرى.
فإذا كانت درجات الاستخلاف النعامية الثلاث (البقرية، فالإبلية، فالغنمية)، عَبر الإنسان إلى الإنسانية الحقة. فالله تعالى، هو الذي جعل لنا ليل ظلمة النعامة لباسًا يغشانا «بالاستيلاء، عن مشاهدة الحق وصفاته والذات ظلالها»[24]؛ فنحتجب، غافلين، مُسْبتين عن الحياة الحقيقية السرمدية، وجعل «نهار نور الروح» تحيا به قلوبنا فننتشر في الدرجة النعامية السفلية[25]. وذلك قول الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا﴾ (الفرقان، 47).
وقد أرسل الله تعالى «رياح النفحات الربانية ناشرة، مُحْيية، أو مبشرة، بين يدي رحمة الكمال بتجلي الصفات»[26]. وأنزل «من سماء الروح، ماء العلم»[27] يطهّرنا من الرجس على يد من طهّرهم الله تطهيرا. وبذلك الماء يسْقى الدرجات النعامية، الارتياضية، ليصبغ البشر «أناسيّ» فعلا. وذلك قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ﴿٤٨﴾ لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا[القلب الميت والأمة الميتة] وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ﴿٤٩﴾﴾(الفرقان، 48-49).
تكون«الأنعام»«من القوى النفسانية، بالعلوم النافعة العملية»، وأمّا «الأناسي»فيكونون«من القوى الروحانية (…) بالعلوم النظرية»[28]. وبذلك يكون الارتقاء من الحال النعامية إلى الحال الروحانية الإنسانية، بالدرجة الغنميّة، وهناك يكون الفلاح والغُنْم. فينبغي أنلا يبقى أكلنا في الدرجات النعامية السفلى، بل ينبغي أن نمرّ إلى مقامات الطعام والاغتذاء الروحانية العليا.
فالهداية، تعني استمرارها، بل تكاملها من درجة إلى أخرى، وإلا يكون «النكوص على الأعقاب» (سورة الأنفال، 48): ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّـهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَح صَدرَهُ لِلإِسلامِ وَمَن يُرِد أَن يُضِلَّهُ يَجعَل صَدرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجعَلُ اللَّـهُ الرِّجسَ عَلَى الَّذينَ لا يُؤمِنونَ﴾ (الأنعام، 125). فالقوى النعامية تنْقاد للعُرف(=العقل)، فيكون «الصّدر» أي الوجه الذي يلي القلب «ذا نتوء وسَعَة لقبول نوره (= النور الإلهي) ومُمكنًا من استسلامه له»،[29] فيُسهل له الله عز وجل الصراط أكثر. أما الذي اختار طريق الظلال يكون الصراط عليه عسيرًا، فيعجز عنه، ويكون صدره «ذا ظلمة وقصور استعدادٍ عن قبول النور»[30]. وكذلك يجعل الله تعالى «رجْس التلوث بلوث التعلقات المادية أو رجس التعذب بالهيئات البَدَنية»[31]. وذلك قوله تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّـهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَح صَدرَهُ لِلإِسلامِ وَمَن يُرِد أَن يُضِلَّهُ يَجعَل صَدرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجعَلُ اللَّـهُ الرِّجسَ عَلَى الَّذينَ لا يُؤمِنونَ﴾(الأنعام، 125).
ولا بد من ماءٍ يطهّر الأرجاس، من يد الذين طهّرهم الله تطهيرا، نطلبه دائما لا مرّة أو بضع مرّات ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ [أي التي لم يصبها مطر الدين وليس فيها نبات التربة المعصومية] فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا [زرعًا ماديًا وزرعًا روحيًا] تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ [الحيوانية] وَأَنفُسُهُمْ [أنعامهم الإنسانية] أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾ (السجدة، 27)؛ وهي (تسقى بماء واحد)، ولكن ﴿وَفِي الأَرضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنّاتٌ مِن أَعنابٍ وَزَرعٌ وَنَخيلٌ صِنوانٌ وَغَيرُ صِنوانٍ يُسقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعضَها عَلى بَعضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَومٍ يَعقِلونَ﴾(الرعد، 4)، أي في «أُكْل الإدراكات والمَلكات، كتفضيل مدركات العقل على الحس والبصر على اللمس، وملكة الحكمة على العفة وأمثالها»[32].
فمن سماء روح القدس ينزل ماء العلم والتقوى ﴿أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَت أَودِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحتَمَلَ السَّيلُ زَبَدًا رابِيًا وَمِمّا يوقِدونَ عَلَيهِ فِي النّارِ ابتِغاءَ حِليَةٍ أَو مَتاعٍ زَبَدٌ مِثلُهُ كَذلِكَ يَضرِبُ اللَّـهُ الحَقَّ وَالباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفاءً وَأَمّا ما يَنفَعُ النّاسَ فَيَمكُثُ فِي الأَرضِ كَذلِكَ يَضرِبُ اللَّـهُ الأَمثالَ﴾ (الرعد،17). و«الأودية» هي الأوعية، أي القلوب تتسع للماء الطهاريّ الإلهي المحمدي بقدر استعداداتها، وتستقبل “الزرع[33] التربوي المحمّدي – الأسباطي بقدر مشيئتها وقدرتها على العزم[34].
إن النعامات تفصيلا ثمانيةٌ ﴿خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّـهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَـهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ (الزمر،6)، ذلك لكي يجعلنا أكمل وأناسيٍّ فعلا. وذلك ما يتطلب من أهل علم النفس جهدا علميًّا شرحيًّا ومفهميّا عميقا جدا. فمن النفس الواحدة، كانت تلك الأنعام الثمانية مزدوجةً.
إنّما الدرجات الأنعامية هي ثلاث.فالنعامة الثالثة (الغنْمية) تحوي مرتبتين (المعْزية فالضانية)، لتكون هناك ثمانية أزواج: ﴿ثَمانِيَةَ أَزواجٍ مِنَ الضَّأنِ اثنَينِ وَمِنَ المَعزِ اثنَينِ قُل آلذَّكَرَينِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَينِ أَمَّا اشتَمَلَت عَلَيهِ أَرحامُ الأُنثَيَينِ نَبِّئوني بِعِلمٍ إِن كُنتُم صادِقينَ (143) وَمِنَ الإِبِلِ اثنَينِ وَمِنَ البَقَرِ اثنَينِ قُل آلذَّكَرَينِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَينِ أَمَّا اشتَمَلَت عَلَيهِ أَرحامُ الأُنثَيَينِ أَم كُنتُم شُهَداءَ إِذ وَصّاكُمُ اللَّـهُ بِهـذا فَمَن أَظلَمُ مِمَّنِ افتَرى عَلَى اللَّـهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النّاسَ بِغَيرِ عِلمٍ إِنَّ اللَّـهَ لا يَهدِي القَومَ الظّالِمينَ (144)﴾ (سورة الأنغام).
لقد خلق الله تعالى الإنسان من نفس واحدة، ولكنه جعل النفْس النعامي الذكري مختلفا نسبيا عن النفْس النعامية الأنثوية:﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾(آل عمران، 36). وذلك لا يعني تفضيلا جوهريا: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(آل عمران،37)، بل اصطفاها الله تعالى على رجال زمانها ونسائها جميعا: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ﴾(آل عمران، 42) وقد عابت سورة الأنعام خطل الجاهلية في التعامل مع الذكورة والأنوثة، إذ لا تعلم ما يجمع بينهما بدقة وما يفرّق بينهما، مما قد يفسد على السالك والسالكة في كل درجة نعامية، وقد يهدّدهما بالتراجع النعامي:﴿ثَمانِيَةَ أَزواجٍ مِنَ الضَّأنِ اثنَينِ وَمِنَ المَعزِ اثنَينِ قُل آلذَّكَرَينِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَينِ أَمَّا اشتَمَلَت عَلَيهِ أَرحامُ الأُنثَيَينِ نَبِّئوني بِعِلمٍ إِن كُنتُم صادِقينَ ﴾(الأنعام، 143)، ﴿مِنَ الإِبِلِ اثنَينِ وَمِنَ البَقَرِ اثنَينِ قُل آلذَّكَرَينِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَينِ أَمَّا اشتَمَلَت عَلَيهِ أَرحامُ الأُنثَيَينِ أَم كُنتُم شُهَداءَ إِذ وَصّاكُمُ اللَّـهُ بِهـذا فَمَن أَظلَمُ مِمَّنِ افتَرى عَلَى اللَّـهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النّاسَ بِغَيرِ عِلمٍ إِنَّ اللَّـهَ لا يَهدِي القَومَ الظّالِمينَ﴾(الأنعام، 144). فذلك قد يعني «الفسق» (أي الانحراف بعد الإيمان)، باتجاه «المَيْتَة» (أي الجاهلية الجريرية التي أمانها الرسول) أو «الدم المسفوح» (أي قتل ما سنّه الرسول من حكمة وعرف وعدل)، أو «لحم خنزير» (أي دخول لجحر الضبّ الرومي):﴿قُل لا أَجِدُ في ما أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطعَمُهُ إِلّا أَن يَكونَ مَيتَةً أَو دَمًا مَسفوحًا أَو لَحمَ خِنزيرٍ فَإِنَّهُ رِجسٌ أَو فِسقًا أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّـهِ بِهِ فَمَنِ اضطُرَّ غَيرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾(الأنعام، 145).
إن﴿ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (الحج، 32)، هي أن تكون للناس ﴿قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾(الحج، 46)، فتكون بتلك القلوب ﴿آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ (الحج، 46). ذلك حتى يتجنبوا أنْيكون ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾(الحج،53)، ولا يكونون من﴿الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ (الحج،53)، وهنالك ﴿تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾(الحج، 46)، فتكون وعاءا سلبيا متقبلا لكل يكون ﴿مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً﴾ (الحج،53).
إن صحة النعامة وسلامتها بمعنى «الاعتدال في طريق الإنسانية، ومرضهما وسقمها هما الاعوجاج والانحراف عن طريق الإنسانية»[35]. وإذا كانت النعامة ذات أمراض قلْب، وفارقت الروح البَدن، وتوجّهت النعامة إلى ملكوتها الخاص، ظهرت الآلام والأسقام، وكانت الفضيحة.وفي هذه الحالة، ينبغي أن تبقي النعامة«آلاف السنين تحت الضغط والعناء والنار والاحتراق قبل أن تزول، فآخر الدواء الكيّ»[36]، قال الله تعالى:﴿قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)﴾(الحج).
إن الخلاص من عذاب الحريق تنحصر في أمرين «الأول: الإتيان بما يصلح النفس ويجعلها سليمة، والآخر: هو الامتناع عن كل ما يضرها ويؤلمها»[37]. إن ضرر المحرمات أكثر تأثيرا سلبيا في الأنعام من أيّ أمر آخر، ولذلك كانت محرّمات: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّـهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ﴾(الحج،30). وحرمات الله تعالي هي «ما لا يحل هتكه»[38]، وذلك ما يجعل النعامة في حضرة ربّها ومقعد قُرْبها.
إن مطلوب الرحمان الرحيم من الناس أن يَتْلوا على أنعامهم اسم الله تعالى دائما، وبذلك تكون حالة في الرضى الإلهي: ﴿وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾(الحج، 30)، أي تكون الأنعام التي يتلو عليها أصحابها اسم الله تعالى ذات قلوب سليمة، فيكون بالإمكان الانتفاع «بأخلاقها وأعمالها في الطريقة والتمتع بالحقوق دون الحظوظ»[39]، فهي مُتجَنبة لما يتلوه الله تعالي «من الرذائل المشتبهة بالفضائل»[40].
واسم الله تعالى هو «تمام المشيئة حسب مقام الظهور»[41]، وهو «مقام الفيض الأقدس حسب تجلي الأحد، ومقام جمع أسماء الأحد حسب مقام الواحد»[42] وهو «جميع العالم، حسب اعتبار أحدية الجمع الذي هو الكون الجامع، وهو مراتب الوجودية في السلسة الطولية: الصعودية والنزولية؛ وهو كل واحد من الهويات العينية في السلسلة العرضية»[43].
إن البَسْمَلة ترتبط بالعمل الخاص والفعل المعيّن الذي يبتدئه المسلم. وهو يرى كل «الأفعال والأعمال والأعيان والأعراض ظاهرة ومتحققة بالإسم الشريف الأعظم، وبمقام المشيئة المطلقة. وعند إنجازه فعلا وعملا وإيجاده لهما يتذكر العارف بقلبه هذا المعنى، فيسري به متنازلا حتى مرتبة مُلكه وطبيعته، ثم يقول: (بسم الله)، أي: (بسبب مقام المشيئة المطلقة، لصاحب مقام الرحمانية الذي هو بسط الوجود، ومقام الرحيمية الذي هو بسط كمال الوجود، أو: بسبب مقام المشيئة المطلقة لصاحب مقام الرحمانية الذي هو مقام التجلي بالظهور وبسط الوجود، ومقام الرحيمية الذي هو مقام التجلي بالباطن وقبض الوجود»[44].
إن السالك إلى الله تعالي يرى المشيئة المطلقة في جميع الأفعال والكائنات، فيرى بذلك «هيمنة سلطان الوحدة، فيكون لديه معنى (بسم الله) في جميع السور القرآنية والأعمال والأفعال بمعنى واحد. ومن جهة أخرى عندما يلتفت إلى عالم الفَرْق، أي الكثرة والتمايز، وفَرْق الفرْق، يرى لكل واحد من (بسم الله) في أول كل سورة وبدء كل عمل، معنى يغاير المعنى الآخر»[45].
وأما اسم (الله)، فهو الاسم الجامع الأعظم، المشير للرب المطلق، بما هو ﴿نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾(النور،35)، أي مُظهرها وجاعلها في التعيّن، وقد كان سبحانه وتعالي «الرحمان بجميع خلقه، والرحيم بالمؤمنين خاصة»[46] و«رحمان الدنيا ورحيم الآخرة »[47]، وقد «سبقت رحمته غضبه»[48].
إن تلاوة اسم الله تعالي على النعامة إنما يجعلها متآلفة مع كل الوجود، غير مغتربة عنه، وغير مَهِينة فيه:﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ﴾(الحج، 18).
كما أن اسم الله تعالى على النعامة يجعلها من ﴿مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ﴾ (الحج،28 و34)، و«البَهِيمُ» هو ذو اللون الصافي، فهي نعامة صافية مُصفاة، ذات لون واحد، هو لون الإسلام والإيمان، غير مختلفة المكوّنات، وغير متناقضتِها، دائنة لإله واحد أحد:﴿لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا﴾(الحج،34).فهم متوجّهون إلى التوحيد ﴿عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن﴾الكمال، بواسطة ﴿بَهِيمَة﴾نعامتهم. «فوحّدوه بالتوجّه نحوه، من غير التفات إلى غيره، وخصصوه بالانقياد والطاعة»[49]. وأمْرُ﴿فَلَهُ أَسْلِمُوا﴾ يعني: «ولا تنقادوا إلا له»[50]. وبذلك تكون بُشرى الإنسان: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ (الحج، 34)، أي «المنكسرين، المتذللين القابلين لفيضه»[51].
يُخْبِتُ سيّد المخبتين/الساجدين، سيدنا الإمام زين العابدين، عليه السلام، فيناجي ربه في دعاء التذلل، متمثلا[52] موقفنا النَّعَامِيَّ المتدنيَ جدا: «ربّ أفحمتني ذنوبي، وانقطعت مقالتي، فلا حجة لي. فأنا الأسير ببليتي المُرْتهنُ بعملي، المتردّد في خطيئتي، المتحيّرُ عن قصدي، المُنقطعُ بي. قد أوْقفتُ نفسي موْقفَ الأذلاء المذنبين، موقف الأشقياء المتجرئين عليك، المستخفين بوعدك. سُبحانك! أيَّ جرأة تجرأت عليك، وأي تغرير غرّرت بنفسي.
مولاي! ارحم كبوتي لحَرّ وجهي وزلة قدمي! وعُدْ بحلمك على جهلي، وبإحسانك على إساءتي! فأنا المقرّ بذنبي، المعترف بخطيئتي. وهذه يديّ وناصيتي استكينُ بالقودَ من نفسي.
ارحم شيبي، ونفاد أيامي، واقتراب أجلي، وضعفي ومَسْكنتي، وقلة حيلتي!
مولاي، وارحمني إذا انقطع من الدنيا أثري، وامّحى من المخلوقين ذكري، وكنتُ في المَنسِيّين، كمَنْ قد نُسِي!
مولاي، وارحمني عند تغيّر صُوري، وحَالي إذا بليَ جسمي، وتفرّقت أعضائي، وتقطعت أوصالي! يا غفلتي عمّا يُرَاد بي!
مولاي، وارحمني في حشري ونشري، واجعل في ذلك اليوم مع أوليائك موقفي، وفي أحِبَّائك مَصْدَري، وفي جوارك مَسْكني! يا رب العالمين!»[53].
ويَخْبِتُ سيدنا الإمام الحسين، سيّد المنكسرين لله تعالى وحده بدعاء المخبت الأعظم[54]، محمد، صلى الله عليه واله، في الطائف، فيشرحه ويوسّعه بالمناجاة: «إلى من تكلني؟ إلى قريب فيقطعني[55]، أم إلى بعيد يتجهمني[56]. أم إلى المستضعفين لي[57] وأنت ربي ومليك أمري؟! أشكو إليك غربتي وبُعْدَ داري وهوَانِي على مَنْ ملكته أمري(…) فإن لم تكن غضبت عليّ فلا أبالي سواك سبحانك، غير أن عافيتك أوسع لي (…) لك العُتبَى حتى ترضى قبل ذلك!».
إن الصحة الاتقائية (أو: التقوى)، تتجلى حسب سورة الحج في: تجنب الرجس بالتعلق بالطهارة والمطهَّرِين تطهيرا، وبتجنب المحرّمات، وفي تجنب المجادلة في الله تعالي بغير علم وفي تجنب قول الزور.
. تجنب الرجس والتشبث بالمناسك:
ضمن هذا السَّوْق الاتِقائي يقول الله تعالى إننا إذا أردنا أن تحِلّ لنا أنعامنا فهناك شرط أساسي: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾(الحج،30). فالرجس هو من الأوثان، ولكنه أعظمها وأخطرها، لأنه في داخلنا، شربناه وألفناه حتى أصبحنا نظن أن حياتنا ودَوامنا بدونه لا يكونان، فهو يجمع «أوثان الشهوات المتعبّدة والأهواء المتبعة، كقوله تعالى ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـهَهُ هَوَاهُ﴾(الجاثية،23)»[58] .
إن الله تعالى إذ يُنزل علينا من السماء ماءا إنما يريد أن يذكّرنا الماء الرمزي والسماء الرمزية، وإذ يَمْسح عنا بماء المطر تراب السفر الدنيوي والقتالي إنما يريد أن يذكرنا ضرورة التطهّر من رجز الشيطان العالق بنا، خاصة وأننا لم نذهب إلى بَدْر الوجود بنيّة القتال إنما بنيّة الهجوم السهل على قافلة تجارية: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيكُم مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذهِبَ عَنكُم رِجزَ الشَّيطانِ وَلِيَربِطَ عَلى قُلوبِكُم وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقدامَ﴾ (الأنفال، 11).
كانت بَدْر بإرادة من الله تعالى، وكان الانتصار فيها منّة من الله تعالى، حتى يعتمد المسلمون على أنفسهم في المرة القادمة اعتمادا على الله تعالي، إذ رأوا بأعينهم أن الله تعالي يريد صادقا انتصارَهم. هذه المرة، لم ﴿تَقتُلوهُم وَلـكِنَّ اللَّـهَ قَتَلَهُم﴾ (الأنفال،17)، ولكن في المرة القادمة: ﴿أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِذا لَقيتُمُ الَّذينَ كَفَروا زَحفًا فَلا تُوَلّوهُمُ الأَدبارَ(15) وَمَن يُوَلِّهِم يَومَئِذٍ دُبُرَهُ إِلّا مُتَحَرِّفًا لِقِتالٍ أَو مُتَحَيِّزًا إِلى فِئَةٍ فَقَد باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّـهِ وَمَأواهُ جَهَنَّمُ وَبِئسَ المَصيرُ(16)﴾ (الأنفال). وبعْد شهود المسلمين حقيقة الله تعالي في بدر، عليهم أن يعوا الأمر الإلهي:﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا أَطيعُوا اللَّـهَ وَرَسولَهُ وَلا تَوَلَّوا عَنهُ [كما فعل بعضهم في احد وحنين والسقيفة]وَأَنتُم تَسمَعونَ﴾(الأنفال، 20).
فالماء المطلوب الذي وراء الماء المادي هو «علم اليقين»[59] بنزّله الله علينا من «سماء الروح»[60] إن شئنا، ﴿لِيُطَهِّرَكُم بِهِ﴾ «من خبث أحاديث النفس وهواجس الوهم»[61]، وبذلك يُذهب عنا ﴿رِجزَ﴾ وسوسة الشيطان وتخويفه، فيربط على قلوبنا بأن يقوّيها «بقوّة اليقين»[62].
ولا يكون تجنب الرجس/ الرجز، إلا بالاقتداء، أي بأن يكون أمامنا نماذج للطهارة تطهيرًا، حتى نصل إلى الطهارة «البسيطة» التي تراها سورة الأنفال، وقد كانت في بدْر متجسدة في سيّد المطهّرين تطهيرًا، سيدنا محمد، صلى الله عليه وآله، وسيدنا علي عليه السلام، الذي قتل أهل الرجس من جيش العدوان القُرَشِي حتى قالت سماءُ السماءِ: «لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلاّ علي»[63].
فلمّا تزوّج المطهّر تطهيرًا من المطهّرة تطهيرًا عليهما السلام كان أهل الكساء الخمسة: محمد، صلى الله عليه وآله، وعلي وفاطمة والحسن والحسين، عليهم السلام، الذين اتفق المسلمون على أن آية الطهارة نزلت فيهم: ﴿يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب،33).
وقد اقتضت الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء، أن لا تُحْرم الإنسانية من المطهّرين تطهيرًا بعد استشهاد آخر أهل الكساء، عليه السلام، فاستمرّوا في تسعة مطهّرين تطهيرًا «بعدهم». قال اللهتعالى:﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾(الحج، 34). فالمَنْسَك ليس المحجّات الوثنيّة، بينما أمرنا الله بتجنب الرجس:﴿مِنَالْأَوْثَانِ﴾(الحج، 30)، لتصبح سورة الحج محلِّلَة لتلك المحجّات «البرهمية» و«البوذية»و«الأشِنْتَاوية» وغيرها: ففي الأصل أن «النَّسْك: التطهير»[64] ويُقال: «نَسَكَت الثوب أي غسلته وطهّرَتهُ»[65]، وإنّما هي تتناول «مَنَاسِكَ» بشرية مطهَّرة تطهرًا جعلها الله تعالى للبشريّة محجّا منذ آدم إلى نهاية الدّنيا.
فكل جيل(=﴿أُمَّة﴾) من أجيال الأمة الإسلامية الواسعة من البعثة إلى يوم القيامة، جعل الله تعالى لنا ﴿مَنسَكًا﴾(الحج،34)، أي مَجْلى للنُسك،أي الطهارة المطلقة، أي بالمفعولية المطلقة. فإذا أردنا إرادة الله تعالى بالتطهير، المشروطة في سورة الأنفال، علينا أن نقبل بقلوب مؤمنة المَنْسَك المعاصر لنا، وهو أحد الذين طهّرهم الله ﴿تَطْهِيرًا﴾ وأبعد عنهم﴿الرِّجْسَ﴾(الأحزاب،33).فبهذا المنسك، عليه السلام، نستعين على تلقين نعامتنا بتلاوة اسم الله تعالى عليها حتى تصبح ﴿مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾(الحج،34). فقد قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ﴾(آل عمران، 31)، وذلك المَنْسَك المقدّس استمرارٌ تاريخي وضروري للمَنْسَك الأقدس، سيدنا محمد، صلى الله عليه وآله، فهو﴿لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾(الحج،67) و﴿المُؤمِنونَ حَقًّا﴾(الأنفال،4)، نتعلم منهم أن نكون ﴿حُنَفَاءَ لِلَّـهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهٍِ﴾ (الحج، 31). وتلك المناسك هي مِنْ أَهمّ شعائر الله تعالى،وتعظيمها يقوّي صحّتنا الإتقائية: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾(الحج. 32).
فالرسول، صلى الله عليه وآله﴿نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ (الحج، 49)، وهو ﴿مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَومٍ هادٍ﴾(الرعد، 7)، أي لكل أمة تَتْرى بعد أمّة، داخل أمّته المستمرة حتى يوم القيامة، مَنْسَك. فكما اصطفى الله تعالى﴿مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً﴾، اصطفى كذلك﴿رُسُلاً﴾﴿مِنَ النَّاسِ﴾(الحج،75). وإذا كان عدد مُرْسَلي المسيح عليه السلام إلى أنطاكية ثلاثة (يس، 14)، فإن عدد مُرْسلي محمد، صلى الله عليه وآله، إلى البشرية حتى يوم القيامة إثنى عشر عليهم سلام الله تعالى، ووفقنا لأن نطيعهم، كما أكد علينا، سبحانه وتعالى، في عديد الآيات الشريفة:﴿اللَّـهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّـهِ[بهؤلاء المُرْسلين]تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)﴾(الحج)، أي ترجع الأمور كما بدأت مع سيدنا آدم عليه السلام عندما صافح الأرض: «إنّ الزّمان قد استدار لهيئته يوم خلق الله آدم»[66].
ومن صفات المهدي (ع) حسب وعد النبي (ص): «يقوم بالدين في آخر الزمان كما قمت به»[67].
إن«المرء مع مَن أحَبّ» كما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله، فإذا كنا مع المناسك، رُسل رسول الله صلى الله عليه وآله، كنا معهم يوم القيامة.
ولذلك كان التطابق العجيب بين سورة الحج التي تؤكد على طاعة مَنْسَكِ كل أمة من أمم رسول الله صلى الله عليه وآله، وبين سورة الإنسان التي نزلت في مدْح علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، علاوة على أستاذهم سيّدنا محمد، صلى الله عليه وآله. ففي سورة الحج نجد ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾(الحج،23) وفي سورة الإنسان نجد ﴿الأَبْرَارَ﴾، عليهم السلام (الإنسان،5) والرسول مُطَاَلب بأن﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾(الإنسان، 25)، والمسلمون مطالبون: ﴿لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾(الحج، 34) وأهل البيت عليهم السلام ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾(الإنسان، 8)، والمسلمون أمرهم تعالى: ﴿وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾ (الحج، 36). ﴿الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾(الحج،28). والخاتمة السعيدة لأهل البيت عليهم السلام: ﴿وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ﴾،(الإنسان،21)، ولدانهم المخلدون كانوا ﴿لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا﴾(الإنسان، 19)، ولبسوا ﴿حَرِيرًا﴾ (الإنسان،12) وكذلك المسلمون حقًّا معهم: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ (الحج، 23).
إننا إذا أخذنا مِن﴿الأَبْرَار﴾(الإنسان، 5)، عليهم السلام، و﴿الأَبْرَار﴾ شَرَابَهُم الطهور (الإنسان،21)، الذي رماه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى يوم القيامة وجعلهم، بأمر الله تعالى سُقاته: ﴿وَما رَمَيتَ إِذ رَمَيتَ وَلـكِنَّ اللَّـهَ رَمى﴾(الأنفال،17). فإننا سنحْيا، ونَنْسُك من الرّجز/الرجس: ﴿وَتَرَى [أرض النعامة] هَامِدَةً﴾، أي «ميّتة بالجهل، لا نبات فيها من الفضائل والكمالات»[68]، فإذا أنزلنا عليها «ماء العلم من سماء الروح»[69] اهْتزتْ «بالحياة الحقيقية»[70] ورَبتْ «بالترقي في المقامات والمراتب»[71]، ﴿وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ﴾ صنف ﴿بَهِيجٍ﴾ «من الكمالات والفضائل المزيّنة لها»[72].﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى﴾(الحج، 6) فهو يحيي «موتى الجهل بفيض العلم»[73] لأنهم استعدوا لذلك وجاهدوا أنفسهم في سبيل ذلك فذبحوا نعاماتهم حتى أصبحت من بهيمتها.
. جدول مقارن بين سورتي الحج والإنسان:
سورة الحج | سورة الإنسان |
﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ﴾(23) | ﴿وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ﴾(21) |
﴿وَلُؤْلُؤًا﴾(23) | ﴿وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ﴾(19) |
﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾(23) | ﴿جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾ (12) |
﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّـهُ مَن يَنصُرُهُ﴾(40) | ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾(07) |
﴿وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾ (36)
﴿وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ (28) |
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ[74] عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾(08) |
﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ﴾(05) | ﴿شَيْئًا مَّذْكُورًا ﴾(01) |
﴿ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ﴾(05) | ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾(02) |
﴿ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ﴾ (05) | ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾(02) |
﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ (34) | ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾(03) |
﴿لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ﴾(34)،
﴿فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ﴾ (36) |
﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ (25) |
﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ﴾(66) | ﴿وَإِمَّا كَفُورًا﴾ (03) |
﴿خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ (45) | ﴿وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾(31)
﴿وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾ (28) |
﴿وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ﴾(35) | ﴿بِمَا صَبَرُوا﴾ (12)
﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾(24) |
﴿ لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ﴾(67)
﴿اللَّـهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ (75) ﴿لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (78) ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (32) |
﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ﴾(05) |
﴿إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾ (67) | ﴿لِوَجْهِ اللَّـهِ﴾ (09) |
﴿وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾ (36)
﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ ………….. الْأُمُورِ﴾ (41) |
﴿رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرً﴾ (20) |
-
تجنب المجادلة في الله بغير علم وقول الزور:
تذم سورة الحج عبادة الله تعالى دون «سُلطان» أي دون العقل، ودون «عِلم»، أي دون استدلال استقرائي واستنباطي. فأشباه العلماء، يتشبثون بالظالمين طمعا في مالهم ودعمهم، فيُزوّرون لهم آيات الله تعالى ودينه. ولكن الظالمين لن يجدوا نصيرا يوم الحساب، وهنالك يندم «العبادلة»، أشباه العابدين:﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾(الحج، 71).
إن العبادة دون سلطان العقل واستدلال العلم، تؤدي حتما إلى القضاء على شعارية الدين ومَشعَرِيَّة الحج، وضياع الدين، بل إلى النكوص إلى الشرك نفسه باسم التوحيد:﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَـكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج، 46). إن هناك ﴿مِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّـهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ (08) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (09) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّـهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (…) يَدْعُو مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ (12﴾ (الحج).
وهؤلاء المجادلون في الله ودينه، هم «العبادلة» الذين لا يعرفون العبودية، و«بَذْلَ الكل» في تعريف الإمام الصادق عليه السلام[75]. وهم من﴿المُقتَسِمينَ﴾ ﴿ الَّذينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضينَ ﴾(الحجر،90-91)، فيجزِّئون النص الديني المقدّس ويوجّهونه مُتعضِّيًا لما يريدون من أهواء وآلهة أهوائية. وقد أُمِروا ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ (الحج، 30)، وبطاعة الله ورسوله وأولياء الأمر (النساء، 55) أي «الشهداء» (الحج، 78)، ولكنهم خَطَّؤوا «الشهيد» «الحسين عليه السلام، وخذلوه «ناصحين»، كما نصح الشيطان آدم (الأعراف 21)، بالتخلي عن الجهاد.
فعبد الله ابن عباس «ينصح» الحسين(ع) بالفرار إلى اليمن فيردّ عليه بأنهم سيقتلونه حتى لو كان هناك، ثم يقول له «إن رسول الله(ص) قد أمرني بأمر وأنا ماض فيه»، ولكن عبد الله بن عباس لم يطع النبي في ذلك[76]. و«نصحه» عبد الله بن عمر فقال له عليه السلام: «اتق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعنّ نصرتي!»[77]، ولكنه لم ينصره، فهو ليس بتقيّ/تقيّ. فالذي قتل الحسين(ع) أوّلا، ليس بني أمية والشاميين، ولا عوامّ العراقيين، بل المكيين والمدنيين، بل صغار «صحابةٍ» لرسول الله يدّعون صحبته دون نصرة المصحوب، بلهم«علماء» يدّعون «العلم»، فيزوّرونه أو لا يعملون به، أي لا يحوّلونه إلى عمل.
لما مرّ الإمام علي عليه السلام بكربلاء أنبأ عبد الله بن عباس بيوم الحسين عليه السلام الحاسم، التاريخي، ولكنه يوم الامتحان/الابتلاء، كان عبد الله بن عباس فارّا من الساحة التاريخية. فكان علمه، بلا عمل، وبلا ثمر، بل «أوَّلَ» ابتغاء الفتنة الفردية. ولذلك كان مِنْهُ بنو العبّاس، ولم نسمع بوَلدٍ منه كان شِعَاريا- جهاديّا، بل سمعنا بعائلةٍ مِنْهُ تربصت بالاصطفائية وأنصارها أكثر من تربص العائلة الأموية: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّـهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّـهِ. أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ (الجاثية، 23). قال رسول الله (ص): «من سمع مسلما يستصرخ، ولم ينصره كان حقا على الله أن يُدخِلهُ مدخله». ويْل «للعلماء» إذا لم يكن لهم سمع وقلوب، فسيحملون وزرهم ووزر العوامّ الأشقياء من قبيل الشمر ومالك بن النسر وهاني بن ثبيت وحرْملة (قاتل عبد الله الرضيع، عليه السلام) وعمر بن سعد بن أبي وقاص وابن زياد!!
ويل «للعلماء»المزوّرين سيُعاقبهم الله تعالى أكثر من هؤلاء الأشقياء، فما بالك إذا كانوا وُلاّة للطغاة على المدينة المنورة!!!
-
شعارية الحج:
حسب سورة الحج، ليس الحج طقوسًا بلهاء بلا معنى، بل هي غنيّة بكل معاني الإسلام؛ وبدون تمثل تلك المعاني، لا يمكن تحقق الحج.
إن أعمال الحج كانت ﴿شَعَائِرَ﴾ (الحج،32). و«الشعيرة» هي «كالشعار»[78]، وهو«العلامة»[79]. فأعمال الحج يجب أن تكون علامات لمدلولات ومعانٍ إنسانية عميقة، وإلا فإنها لن تكون أعمال حج، وأماكنه يجب أن تكون «مشاعر» (البقرة، 198)، أي مَعَالم، وإلا لن تتحقق الحَجِّيَّةُ لله تعالي أي القَصْدية التقويّة.
وكل تلك الشعائر الحجّية، وغيرها من علامات الدين، كالنبي صلى الله عليه وآله، والإمام عليه السلام، وعالم الدين والولي والإنسان التقي، وأيامِ اللهِ من ولادات ووفيات وأحداث، ينبغي تعظيمها، لكي نكون أتقياء. وكذلك تعاملنا مع مشاعر الدين كمكة المكرمة والمدينة المنورة والنجف وكربلاء وبيت المقدس وسامراء، ينبغي أن يكوم تعظيمًا، لكي ننمّي أكثر، بتلك العلامات، تقوى قلوبنا: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾(الحج،32).
إن الإمام زين العابدين بن الحسين، عليه السلام، يسائلنا إن كنا إشعَارِيّين في أعمال حجنا: «…فحين نزلت الميقات نويت انك خلعت ثياب المعصية، ولبست ثوب الطاعة؟(..) فحين تجرّدت عن مخيط ثيابك، نويت أنك تجرّدت عن الرياء والنفاق والدخول في الشبهات؟ (…) فحين اغتسلت نويت أنك اغتسلت من الخطايا والذنوب؟(…) حين تنظفت وأحرمت وعقدت الحج، نويت أنك تنظفت بنور التوبة الخالصة لله تعالي(…) فحين أحرمت نويت أنك حرّمت على نفسك كل محرّم حرّمه الله عز وجل (…) فحين عقدت الحج، نويت أنك قد حللت كل عَقْد لغير الله؟ (…) فحين صلّيت الركعتين نويت أنك تقربت إلى الله بخير الأعمال من الصلاة؟ (…) فحين دخلت الحرم، نويت أنك حرّمت على نفسك كل غيبة تستغيبها المسلمين من أهل ملة الإسلام؟ (…) فحين سعيت نويت أنك هربت إلى الله وعرف ذلك منك علام الغيوب، (…) منْ صافح الحجر الأسود فقد صافح الله تعالى[80]، فانظر يا مسكين ولا تضيّع أي مائلين عن الطرق الفاسدة، والعلوم الباطلة، معرضين عن كل ما يغيره من الكمالات والأعمال»[81].
يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ﴾«أي إن صفاء وجود القلب ومَرْوَة وجود النفس﴿مِن شَعَائِرِاللَّـهِ﴾من أعلام دينه ومناسكه القلبية كاليقين والرضا والإخلاص والتوكل والقابلية، كالصلاة والصيام وسائر العبادات البدنية ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ﴾أي بلغ مقام الوحدة الذاتية ودخل الحضرة الإلهية بالفناء[82] الذاتي الكلي ﴿أَوِ اعْتَمَرَ﴾نار الحضرة بتوحيد الصفات والفناء في أنوار تجليات الجمال والجلال ﴿فَلاَجُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ حينئذ في ﴿أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ أي يرجع إلى مقامهما، ويتردد بينهما، لا بوجودهما التكويني، فإنه جناح وذنب، بل بالوجود الموهوب بعد الفناء عند التمكين، ولهذا نُفي الحرج، فإن في هذا الوجود سعة بخلاف الأول»[83].
فعدم إضفاء «الإشعارية» الحجّية على الصفاء والمروة هو جُنَاح وذنبٌ في حق ذاتي وخسارة جُهد. (وَمَنْ تطَوَّعَ خيْرًا)، «أي: ومن تبرّع خيرا من باب التعاليم وشفقة الخُلق والنصيحة ومحبّة أهل الخير والصلاح بوجود القلب، ومن باب الأخلاق، وطرق البِرّ والتقوى، ومعاونة الضعفاء والمساكين، فالبُدْنُ (أي العظيم البَدَن من الجمل والبقر[84])لا قيمة لها إذا كانت مجرّد لحوم ودماء، أما إذا كانت ﴿شَعَائِرِ اللَّـهِ﴾(الحج، 36)، أي إذا أضفينا عليها إشعَارِيّتَهَا الإلهية-الإنسانية، فآنئذ فقط تصبح ذات قيمة، إذ أصبحت ذات مدلول: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّـهِ(…) لَن يَنَالَ اللَّـهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَـكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ (…)﴾ (الحج، 36-37).
وتلك العلامات العظيمة، لا قيمة لها إذا حملت دلالة لحظة تلك الأعمال ولم تكن لها آثار على ما بعد لحظة «الحج. فإذا استوعبت أعمال الإنسان بعد «الحج»، كان الإنسان حاجّا لله تعالى، طيلة حياته، سواءً كان في مكة المكرّمة أو في القطب الشمالي، في ما يُسمى «عِبادات» حَصْرًا، أو في عمله المهني أو السياسي أو الفني، أو العائلي: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّـهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (الحج، 35).
فالمطلوب من الحجّ وغيره من الشعائر هو إجمالا هو بُهْمَة النعامة الإنسانية:﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾(الحج، 34).
فباكتناه إشعَارِيّة الحج نصبح ﴿حُنَفَاءَ لِلَّـهِ﴾ (الحج، 31)،إلا أن «أجر ما عظم حرمته، وتنقض المصافحة بالمخالفة وقبض الحرام، نظير أهلالآثام (…) فحديث صليت ركعتين نويت أنك بصلاة إبراهيم عليه السلام وأرغمت بصوتك أنف الشيطان»[85]. ويسألنا زين العابدين: «أأشرفتَ على بئر زمزم وشربتَ من مائها؟» فإن قلنا نعم، قال: «نويت أنك أشرفت على الطاعة وغضضت طرفك عن المعصية؟». فإن قلنا: لا قال عليه السلام: «فما أشرفت عليها ولا شربت من مائها»[86].
ولما نكون على الصفاء والمروة يسألنا زين العابدين: «نويت أنك بين الرجاء والخوف؟». ولما نكون بمنى يقول: «نويتأنك أمّنت الناس من لسانك وقلبك ويدك؟». ولما نكون بعرفة يقول لنا: «هل عرفت بموقفك بعرفة معرفة الله سبحانه، أمر المعارف والعلوم، وعرفت قبض الله على صحيفتك، وإطلاعك على سريرتك وقلبك؟ (…) نويتَ بطلوعك جبل الرحمة أن الله يرحم كل مؤمن ومؤمنة، ويتولى كل مسلم ومسلمة؟ (…) فنويت عند النمرة أنك لا تأتمر حتى تأتمر، ولا تزجر حتى تنزجر؟ (…) فحين وقفت عند العلم نويت أنها شاهدة لك على الطاعات، حافظة لك مع الحفظة بأمر رب السماوات؟ (…) (…) فعندما مشيت بين العلمين، ولم تعدل عنهما يمينا وشمالا، نويت أن لا تعدل عن دين الحق يمينا وشمالا، لا بقلبك ولا بلسانك ولا بجوارحك؟ (…) فعندما مشيت بمزدلفة، ولقطت منها الحصى نويت أنك رفعت عنك وثبَّتّ كل معصية وجهل؟ (…) فعندما مررت بالمشعر الحرام نويت أنك أشعرتَ أشعَارَ أهل التقوى[87] والخوف لله عز وجل؟ (…) فنويت عندما وصلت منى، ورميت الجمار، أنك بلغت إلى مطلبك، وقد قضى ربك كل حاجتك؟ (…) فعندما رميت الجمار نويت أنك رميت عدوك إبليس، وعصيته بتمام حجك النفيس؟ (…) فعندما حلقت رأسك نويت أنك تطهرت من الأدناس، ومن تبعة بني آدم، وخرجت من الذنوب كما ولدتك أمك؟ (…) أفعندما صليت في مسجد الحنيف نويت أنك لا تخاف إلا الله عز وجل وذنبك، ولا ترجو إلا رحمة الله تعالي؟ (…) فعندما ذبحت هديك نويت أنك ذبحت حنجرة الطمع بما تمسكت بحقيقة الورع[88]، وأنك اتبعت سنة إبراهيم، عليه السلام، بذبح ولده وريحانة قلبه وحاجة سنته لمن بعده، وقربه إلى الله تعالى لمن خلفه؟ (…)»[89].
وفي ذلك يَصْدُرُ الإمام عن سورة الحج: ﴿لَن يَنَالَ اللَّـهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَـكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾(الحج،37).
فقهيا ليس المطلوب في الذبائح بالحج أن تكون بدينة، وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو مبيّنُ حكمِ الله تعالى. ولكن الله عز وجل، في سورة الحج يشترط أن تكون تلك الذبائح رمزًا شِعَاريًّا، و«بَدينة» أي ذات دلالة عبودية عظيمة: ﴿وَالْبُدْنَ [ج. بُدْنة] جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّـهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (الحج، 36). فيجب أنلا ننسى، أن الذبيحة هي أيضا «شعِيرة»، أي شِعَارٌ وعلامة ورمز، إذ ينبغي أن نستشعره ونفهمه، فينبغي أن تكون “بَدِينةً” رمزيّا، لا أن تكون في تمثلنا عجفاء، مجرد ممارسة ببّغائية لا معنى لها ولا مدلول. فتصبح هي نُفوسُنا الباطنية نذبحها لكي تُصبح بَدينَة، غنية، مكتملة، متكاملة، تشعر بعجزها ونقصها فتتقى وتطلب الله تعالى الغنى المتعال، لكي تصبح ﴿صَوَافَّ﴾[90] أي: «قائمات بما فرض الله عليها، مقيدات بقيود الشريعة، وآداب الطريقة، واقفات عن حركاتها واضطراباتها»[91]. «فإذا وجبت جُنوبُها، أي وقعت على الأرض»[92]، بمعنى أنها«سقطت عن هواها، الذي هو حياتها وقوتها التي بها تستقل وتضطرب بقتلها في الله»[93].
وذلك ما فعله، صاحب دعاء عرفة، سيدنا الإمام الحسين عليه السلام، إذ ذبح نَفْسَهُ البريئة، المعصومة، مرّات ومرات، أي قدّمها لله تعالى في عرفة مستعدّة للقتل الجسدي في سبيل الله تعالى، أي من أجل خير الإنسان. قال الله تعالى:﴿وَالْبُدْنَ[كالنّعَامة البدينة للإمام الحسين عليه السلام[ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّـهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ. كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (الحج، 36). إنّ بُدْنَ ذلك الإمام من شعائر الله تعالى، لنذكر إسمهُ عليها وندافع عن معاش إطعام الطعام، أي «الاقتصاد الاجتماعي-العدالي». فلا حج لمن «حج» ولم يفكر في اقتلاع ظاهرة «البائس» و«المعترّ» و«الفقير» من العالم:﴿الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾. وذلك لا يكون إلاّ بإطعام الطعام: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَام﴾(سورة الإنسان)، أي توفير ظروف إكرام بني آدم من أجل الطعام الكريم. فهو ليس من إحسان، بني أمية للفقير الذي يبقيه ذليلا، مهينا، في كل إطعام أموي، فيبقى فقيرا دائما.
وهل هناك خير من الإمام الحسين عليه السلام، وهو من الرسول، صلى الله عليه وآله، وهو منه، وقد خرج لله تعالى ليُحْيِيَ ما مات من أمة جده[94]، صلى الله عليه وآله. وقد استعدّ، عليه السلام، أحسن الاستعداد بعرفة في عديد المواسم، ليمرّإلى الجهاد والتضحية بالجسد والروح من أجل خير الإنسان. إنه يقول، عاشقا: ” إلهي حققني بحقائق أهل القرب وأسلك بي مسلك أهل الجذب! إلهي أغنني بتدبيرك عن تدبيري، وباختبارك عن اختياري!”[95] وهو يعده بأن يجعل نفسه خادما لخير الإنسان في كل مكان، فيصبح الله تعالى في شعاريته في كل مكان، أي يصبح كل مكان هو عرفة وهو مكة وهو الكعبة، لأن كل مكان سيكون مكان الاستعداد للقتل الجسدي في سبيل المعشوق، وهل هناك ما أغلىعلى الإنسان من كل كيانه (جسدا وروحا) يقدمه للمعشوق الأعظم، عز وجل: «إلهي تردّدي في الآثار يُوجبُ بُعد المَزار، فاجْمعني عليك بخدمة توصلني إليك!»[96]. تلك هي أعلى درجات حب الله تعالى، أن يَخدِم المؤمن كل خير الإنسانية دون حسابات أنانية!
ها هو، معجزة الرسول صلى الله عليه وآله، سيدنا الإمام الحسين عليه السلام، يدعو بأعلى درجات صدق العاشق لإطلاق أسْر أمة محمد صلى الله عليه وآله وأسْر كل البشرية من الاستبداد والفقر والمرض والضعف: «سبحانك لا إله إلا أنت! اللهم إنك تجيب المضطر وتكشف السوء، وتغيث المكروب، وتشفي السقيم، وتغني الفقير، وتجبر الكسير، وترحم الصغير، وتعين الكبير(…) يا مُطلق المكبّل الأسير! يا رازق الطفل الصغير! يا عصمة الخائف المستجير!»[97]. «أنت مؤيدي بالنصر على أعدائي، ولولا نصرك إياي لكنت من المغلوبين»[98]، فقد كان مؤمنا بالانتصار على الشر، ولذلك انتصر. ومازال انتصاره يتعاظم ويتعاظم حتى يشمل كل الأرض وكل الإنسانية.
كان عندما يناجي الله تعالى في الفقير، والأمة المكبلة/الأسيرة الخائفة من الطغاة، وفي الطفولة المهدّدة بالجوع أو الضعف أو المرض أو الطلاق أو التفكك العائلي،إنما يَصْدُرُ عن سورة الحج، عليها السلام. فقد ذكر اسم الله تعالى على نَعَامَته، الشريفة، البَدِينة، فأصبحت من النفوس«الصّواف»، أي كامل الانضباط بشريعة الله تعالى التي كلها « رِسْليّة»[99]، وقد أوجب جُنُوبَها، أي جَعَلَها مُسْلمة لله تعالى، شديدة العشق له، مستعدة لكل أنواع التضحيات له حتى القتل الجسدي. فهي من أعظم مصاديق: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّـهِ. لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ. فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا، وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ. كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (الحج، 36). فهو يطلب من الله تعالى أن يغنيه عن تدبيره بتدبيره – تعالى- ، ويقول له: « أنت الآمر»[100]، ويلتفت إلى جدّه مبتهجا بلذة عشقه: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّـهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ (الصافات، 102). فلقد طلب منه جده منامًا صادقا أن يكمل حجه بالسفر إلى كربلاء بناء مشروع العدل الإنساني.
تقول أخته العظيمة، عليها السلام، زينب: «ربّنا تقبّل منّا هذا القربان!». فقد سمعته، يقول في محراب العشق، «إنْ كان دين محمد لا يستقيم إلا بقتلي، فيا سيوف خذيني!»، ليكون « بُدْنًا» من أجل خير الإنسانية الدائم.
تلك كانت بُدْنِيّةُ الحسينِ، عليه السلام، وأسرته وأصحابه رضوان الله عليهم، وهم موجودون في كل مكان وفي كل زمان ويتكاثرون، بُدنيّةٌ قدّموها كيْ يعلموا البشرية كيف يجعلون إجمَاعَهُّم حَاجًّا إلى الله تعالى.
إن هدف تِلك البُدنيّة/القربان أن يأكل منها المستقبل الإنساني من اجل القضاء على ” الاعترار” (الفقر المعاشي والروحي والفكري) و« القنوع»[101] (أي الخضوع السياسي): ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا، وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ. كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ [سخرنا لكم نعاماتكم إذ أصبحت بدينة سليمة] لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (الحج، 36). وشُكر الله تعالى هو خدمة الآخرين.
ولذلك يقول الله تعالى في الآية الموالية: ﴿وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الحج، 37) أي: وبَشِّر الذين كانوا إشعاريين في حجهم لله تعالى مثل الحسين عليه السلام، معجزة رسول الله صلى الله عليه وآله، أي بشرهم بالانتصار، أي بتأسيس دولة ظهور الدين والعدل على البشرية كلها بإمامة المحسن/الحسيني الأعظم، سيدِنا الإمام المهدي عليه السلام.
إن الإمام الحسين عليه السلام في دعاء عرفات وفي كربلائهِ التي مازلنا نأكل من خيرها الإنساني العظيم نحن القانعون المعترّون يؤكد على التلازم الشِّعاري بين الحج الشِّعاريّ والجهاد بالسلاح من اجل الديار التي نخرج منها، والجهاد من أجل القضاء على « الاعترار» و« القنوع». فالإمام الحسين عليه السلام فهم العلاقة بين مقطع الآيات 27 حتى 37 التي تتناول شِعَارية الحج وبين المقطع الذي يتلوها (الآيات 38 – 41) التي تتناول الجهاد بالسلاح المادي والمعنوي والتنظيمي.
فما هي العلاقة بين المقطعين؟ أي : ما العلاقة بين الحج الشعاري والجهاد المسلح في سبيل المستضعفين، كالفلسطينيين؟
-
الجهاد هو الحج بالروح والجسد ضد الطغيان:
لقد شرح الإمام الحسين عليه السلام في دعاء عرفات العلاقة بين الحج إلى البيت الحرام والحج إلى الإنسانية العادلة دون ظلم. ولقد أكد رسول الله صلى الله عليه واله أن « نفس المؤمن أقدس عند الله تعالى من الكعبة». فالكعبة المعظمة هي شعيرة للطهر أي علامة لتلفين النعامات المؤمنة ضرورة مقاومة الظلم و« الاعترار» و« القنوع» والفقر داخل نفوسنا وفي بنياناتنا السياسية والاجتماعية صباحا ومساءا حتى تصبح كل الأرض بيتا لله عز وجل وحتى تصبح كل نفس إنسانية كعبة دون رجس من عمل الشيطان الرجيم. يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّـهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ (المائدة، 2).
و«الإحلال» هو «النزول» وجعل المكان محلة محدودة. فينبغي أن لا تكون مكة بحدودها المعروفة بل يجب أن تمتد و تمتد لكي تصبح في دولة المتقين/الصالحين/المحسنين/المهديين كل الأرض، بل كل العالم، وينبغي أن لا يكون الحج الشِّعَاريّ والهدي الشعاري وقلائده الشِّعَارية والبيت الحرام محدودون بذي الحجة، بل يجب أن لا يكونوا بمحلة ولا بإحلال زماني بل يجب أن يكونوا في كل حياتنا من لحظة إتمامنا لحجنا الشّعاريّ المحلي أي بمحلة مكة المكرمة. ولذلك انطلق الإمام الحسين عليه السلام من عرفات العظيم إلى كربلاء العظيمة، ولذلك كانت كربلاءُ «عَرَفَاتٍ» بل كانت كل الأرض تدريجيا «عَرَفَاتٍ» كربلائيةً.
ها هو أَمامَنا الحسين عليه السلام يدعونا بدعائه الله تعالى لعدم إحلال حجنا الشعاريّ: « إلهي ترددي في الآثار يوجب بُعْدُ المَزَار، فاجمعني عليك بخدمة تُوصلني إليك!»، أي: «يا الهي بلغتُ ذروة عشقك في زيارتك بمكة، وترددي بين الأماكن التي هي آثار دون قيمة مَكَّتِكَ يجعلني أحس بالبعد عنك، فعالج وِحْشة عاشقِكَ بأن تجعلني قربك، بأن تجعل كلَّ مكانٍ مَكَّتَكَ، وذلك بان تُسَخِّرَ نِعْمَاتِي (كما قالت الآية 35 من سورة الحج) للإنسانية، إذْ أُصْبِحُ خادما للمُعْتَرّ والقانع والطفل والمظلوم!». فالحج الشعاري لا يكون إذا لم نسنده بالحج الجهادي، الجهاد المسلح بسلاح الفكر أو سلاح المرابطين المعسكرين أو سلاح الجمعيات الأهلية المقاومة للفقر وتهديد الطفولة والاستبداد والإعلام الشيطاني، في خدمة الحق والفضيلة والسيادة الوطنية…
إن الحج هو عرفة. والعرفة هو الهدي. والهدي أن تقدم روحك وجسدها هَدِيَّةً بهيمةً لله تعالى والهدية لا تكون لا بدينة والبدنية لا تكون إلا بتقديمها قربانا لله تعالى. وهنا أعلى درجات التقوى والقربان لله تعالى لا تكون إذا لم تكن قربانا لخير الإنسانية أي مُسَخَّرَة للقانع والمعترّ والمظلوم والطفل والعجوز والمريض والسلام: ﴿إِنَّ اللَّـهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [بِهِمْ إذا كانوا محسنين كما في الآية السابقة] إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ (الحج، 38). فسيحفظ الله المؤمنين المحسنين الذي حجوا إلى الله تعالى وشعائره وشعاراته ومشاعره، وبواسطتها إليها، ليحفظهم من الذين خانوا بيعة الشهر المعصوم بعد أن بخبخوه أو خانوا جيل العفو النبوي، ولينصرهم على الطغيان الذي اغتصب وطنهم: ﴿ِإِنَّ اللَّـهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا (…)(38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّـهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّـهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّـهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّـهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّـهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّـهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ. وَلِلَّـهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)﴾ (سورة الحج).
فتراكم التضحيات البُدْنِيَّة على الساحات الجهادية، الاجتماعية والمعاشية والسياسية والعسكرية والصّحيّة والبيئيّة والجمعوية والفكرية والفنية، ستؤدي بإذن الله المنتصر، المنتقم، الجبار، إلى «الدُّولَة التمكينية»، فعاقبة الأمور هي و﴿أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء، 105) و﴿إِنَّ العاقِبَةَ لِلمُتَّقينَ﴾ (هود، 49).
ويبين مقطع الآيات (42-72) أن الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل، مستمر، فلن ينقرض أهل الحق، بل سيبقون حتى يؤسسوا ملكا يكون كله لله عز وجل ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّـهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ (الحج، 56)، ف«المُلْك العظيم»، «مُلْكِ آل إبراهيم الأعظم»، وهو محمد صلى الله عليه وآله: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا﴾ (النساء،54)، سيكون ملك ﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ (الحج، 28)، فيها ينقذ المحسنون، القانع، الفقير(الحج، 28). ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ (الحج، 29) فقد نذروا نفوسهم لله تعالى، حتى يكون الملك على الأرض كلها لله تعالى، حتى يكون الملك على الأرض كلها لله تعالى، «بُهْمَةً» كاملةً، وفي تلك اللحظة ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ (الحج، 29) كما فعل رسول الله، صلى الله عليه وآله، في اللحظة الأصعب، لحظة تأسيس الشوق الجهادي باتجاه «الملك العظيم»، يوم فتح محلة مكة وشعاريتها ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّـهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّـهِ أَفْوَاجًا(2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)﴾ (سورة النصر). ففتح مكة فتح الطريق نحو فتح كل عالَم الاستكبار والاستعباد.
وعند يوم المُلْك العظيم لله تعالى، ستكون كل أماكن الأرض جنات،أما الكفرة الذين قتلوا المناسك وحاولوا قتل الشعائر الإسلامية والإنسانية العظيمة، ﴿فَأُولَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ (الحج، 57)، ﴿قاتِلوهُم يُعَذِّبهُمُ اللَّـهُ بِأَيديكُم﴾ (التوبة، 14) فالإمام المهدي عليه السلام، وأنصاره الصالحون المتقون المحسنون، سيعاقب قتلة المنسك العظيم، الحسين، عليه السلام، وقتلة كل المحسنين الذين جاهدوا ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد، 25)، ﴿ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ ﴿اللَّـهُ إِنَّ اللَّـهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ (الحج، 60).
وهنالك، سيدخل «المحسنون»، أنصار الإمام المهدي عليهم السلام المدخل الذي يرضونه، وهو الانتصار الشامل للحق على الأرض: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّـهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الصف، 13) و﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ [في كل زمان ومكان] ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّـهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّـهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ (الحج، 58)، فهم أحياء برزخيا بل بإمكان القدير،الحي، عز وجل أن يدخلهم.
وإذا لم نكن « محسنين»، أي حسينيين في الإصطلاح القرآني، فإن حجنا إلى مكة وثنية فالطريق إلى مكة المكرمة لن يكون دون المرور بكربلاء، بما هي عقيدة وتقوى وجهاد، وستكون مكة ضيقة، أي «عَبَادِلِيَّة» (أي دون عبودية لله تعالى)، بدون مراغم كربلاء وسعتها، فهنالك فقط تكون مكة مراغما وسعة، بل كل العالم. ذلك لأن كل ﴿قَرْيَةٍ﴾ ظالمة سيسقط ﴿عَرْشهَا﴾ أي بنيانها السياسي المخيم عليها. وآخر قرية ظالمة هي «القرية» العالمية: « روميَة» أي القرية المعولمة عولمةً روميّةً، ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [وعلى] بِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ (بئر نفط، بئر غاز طبيعي، بئر حديد….) [وعلى] قَصْرٍ مَّشِيدٍ (قصر ماليّ، قصر استخبارات، قصر بنتاغون، قصر تعذيب)﴾ (الحج، 45). وذلك بفضل الشوق المُحْسِني-الصالحي، الذي سيسقط، بإذن الله تعالى، تلك العروش، لتأسيس «عرش الله»، أي «العرش» المتعبد لله وحده، الذي يؤم فيه «المجتبى» المهديُّ، عليه السلام، «المستضعفين»، أي ليس عرش «السيطرة» ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ )الغاشية، 22)[102]، وليس «عرش» التسلطن بالمال والقوة الولائية-السياسية الذي ينادي يوم الحساب :﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ(29)﴾ (سورة الحاقة). ثم يكون «مُلْك» آل محمد والصالحين(«المُلك العظيم»)[103]، أي ﴿وَإِلَى اللَّـهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ (الحج، 76)، أي رجوع الأمور إلى العمل والقسط نهائيا.
5 _ مقطع الحج في سورة البقرة:
بقرت سورة البقرة كل المعارف الدينية. وقد خصصت مقطعا وبضع آيات منها للحج، بينما ركز المقطع الإبراهيمي في سورة الصافات على النواة الإِمِّية من الحج[104].
﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ في كل الرسالات، ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾، كالصيام[105] (البقرة، الآية 183). وقد أصبح الحج في الطَّوْر المحمدي في شهر ذي الحجة. وقد جعل الله تعالى ﴿الْأَهِلَّةِ﴾ (التقويم القمري) مبدأً للزمن المقدس: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [في أمورهم الدنيوية والقداسية] والحج﴾ (سورة البقرة، الآية189)، ولكنه فرض الاستئناس بالتقويم الشمسي في الآن نفسه: ﴿وَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ (يونس، الآية 5).
﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [من السالكين في كل الرسالات على نفسه بالعزيمة على الحج]، فَلَا رَفَثَ [أي: «فاحشة ظهور القوة الشهوانية»]، وَلَا فُسُوقَ [أي أسباب «خروج القوة الغضبية عن طاعة القلب»]، وَلَا جِدَالَ [أي: «تعدي القوى النطقية بالشيطنة»] فِي الْحَجِّ [ أي: «في قصد بيت القلب»]. وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ [«مِن فضيلةٍ مِن أفعال هذه القوى الثلاث بأمر الشرع والعقل دون رذائلها»] يَعْلَمْهُ اللَّهُ [«ويثيبكم عليه»]. [فالدورة السلوكية بالحج إنما هي مساحة زمنية للتربية على الأمة الواحدة وتأكيد «الكلمة السواء»]. وَتَزَوَّدُوا [«من فضائلها التي يلزمها الاجتناب عن رذائلها»] فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ [منها]. وَاتَّقُونِ [«في أعمالكم ونياتكم»] يَا أُولِي الْأَلْبَاب [«فإن قضية اللب أي: العقل الخالص من شوب الوهم وقشر المادة اتقائي»[106]]﴾ (البقرة، الآية197). تماما كغرض الصيام: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة، الآية 183).
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ﴾. إنها مكان «التَّبَكْبُك»، أي الاجتماع والتوحد الكثيف[107] للعالَمين، وليس للمسلمين فقط.
﴿مِن شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ : «الصفا»، وهو الفضاء القصديُّ ـــ الإراديّ لتصفية النفس من الكدورات الفِسْقية والشيطانية؛ وكذلك «المَرْوَة»، فضاء المجاهدة الحَجِّية للتروية، أي للتزود بـ«الماء» الوجودي الفِطري: «كان رسول الله يفرغنا ويملؤنا». فإذا كان الارتواء لكيان السالك الحاج، القاصد لله تعالى، كانت «الإفاضة» لمائه الوجودي، حبا و«خدمة مستديمة» لكل المسلمين، بل لكل الناس، مهما كانت مذاهبهم وأديانهم: ﴿ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ[سماء النبوة المحمدية] مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ﴾:﴿ أَنزَلَ﴾ «من سماء روح القدس ماء العلم»، ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ ﴾ «القلوب بقدر استعداداتها» [108]. إنه «التكوثر» الذي لا حد له[109]. وقال تعالى:﴿… ويُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً، لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ﴾ الأنفال، الآية 11). ﴿… ويُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن﴾ «سماء الروح»، ﴿مَآءً﴾ «علم اليقين»، ﴿لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ﴾ « من خبث أحاديث النفس وهواجس الوهم»، ﴿وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْز﴾، «وسوسة» ﴿ٱلشَّيْطَانِ﴾ «وتخويفه»، ﴿ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ ﴾ «أي: ليقوي قلوبكم بقوة اليقين ويسكن جأشكم»، ﴿وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ ﴾« إذ الشجاعة وثبات القدم في المخاوف والمهالك لا تكون إلا بقوة اليقين»[110].
﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ﴾ «القلب» ﴿مَثَابَةً﴾ «أي: مرجعا ومبوأ» ﴿لِّلنَّاسِ﴾، لكل المسلمين، بل لكل الشعوب:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾، مع كل المخلوقات من ناس ونبات وحيوان وتراب وصخور. وكان ﴿أَمْنًا﴾ أي «سبب أمن وسلامة لهم، يأمنون بالوصول إليه والسكون فيه شر غوائل صفات النفس وفتك فتاك القوى الطبيعية وإفسادها، وتخييل شياطين الوهم والخيال، وإغوائهم ومكائدهم».
حج الحلاج ـــ رضوان الله عليه ــــ فرأى رشا مكة الجميل كثيرا، آمنا، فتذكر أن النبي (ص) أنقذه من ﴿ٱلصَّرِيمِ﴾ (=الانقراض) إذ حرّم صيده حتى يسترجع أمنه الوجودي. تذكر الرحمة لكل العالمين، ففاض قلبه العاشق للنبي شعرا، أجاد الشعور به موسيقيّا مرسال خليفة، هداه الله تعالى:
يا نَسيمَ الريح قولي لِلرَشا *** لَم يَزِدني الوِردُ إلا عَطشا
لي حَبيبٌ حُبُّهُ وَسطَ الحَشا *** إِن يَشَأ يَمشي عَلى خَدّي مَشى
روحُهُ روحي وَروحي روحُهُ *** إِن يَشَأ شِئتُ وَإِن شِئتُ يَشا
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا﴾ «الصدر الذي هو حرم القلب» ﴿بَلَدًا آمِنًا﴾ «من استيلاء صفات النفس واغتيال العدو اللعين، وتخطف جن القوى البدنية»، ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ ﴾ «من ثمرات معارف الروح أو حكمه وأنواره».
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ[أي في التاريخ الإنساني] لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾، أي بمركز التوحد والتجمع العالمي. ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ من البيت﴾ وإنما جدده إبراهيم بن تارح (ع) ليلبي مطالب العصر ومشكِلاته.
«إن وضع البيت في زمان آدم (ع) إشارة إلى ظهور القلب في زمانه بوجوده عليه. وكونه ذا بابين شرقي وغربي إشارة إلى ظهور علم المبدأ والمَعاد، ومعرفة عالم النور، وعالم الظلمة في زمانه دون علم التوحيد. وقصده زيارتها من أرض الهند، إشارة إلى توجهه بالتكوين والاعتدال من عالم الطبيعية الجسمانية المظلمة إلى مقام القلب، واستقبال الملائكة إشارة إلى تعلق القوى الحيوانية والنباتية بالبدن وظهور آثارها فيه، قبل أثار القلب في الأربعين التي تكونت فيها بنيته، وتخمرت طينته أو توجهه بالسير والسلوك من عالم النفس الظلماني إلى مقام القلب. واستقبال الملائكة تلقي القوى النفسانية والبدنية إياه بقبول الإذعان والأخلاق الجميلة والملكات الفاضلة والتمرن فيها والتنقل في المقامات»[111].
ورفع إبراهيم بن تارح و كلِّ «إب ــ راهيم» قواعدَه وجعلَه ذا باب واحد «إشارة إلى تلقي القلب بسلوكه ـــ عليه السلام ــــ من مقامه إلى مقام الروح الذي هو السر وارتفاع مراتبه ووصوله إلى مقام التوحيد». كما قال عليه السلام: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام، الآية 79)، بينما قال سيده محمد(ص) في نفس الدعاء: ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾. «والحجر الأسود إشارة إلى الروح. وتمخض أبي قبيس وانشقاقه عنه إشارة إلى ظهوره بالرياضة وتحرك آلات البدن باستعمالها بالتفكر والتبعد في طلب ظهوره». وكذلك إسماعيل وكلُّ «إسماع ـــ إيل» (=مطيع لله تعالى باللغة العربية ـــ السريانية)، كالإمام علي (ع) الذي ساعد إبراهيمَه الأعظم(ص) في رفع قواعد البيت الإيماني من جديد في قلب البشرية: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ﴾.
﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ « أي: لا تكلنا إلى أنفسنا فنُسْلم بأنفسنا، بل بك وبِجَعْلك». ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا ﴾ «هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ولهذا قال صلى الله عليه وآله سلم:(أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي عليها السلام)». وقد رأت أمنة بنت وهب ـــ عليهما السلام ـــ في المنام أن نورا خرج منها فأضاءت لها قصور الشام، أي إنها بُشِّرت وبَشَّرت بمقامات زينب الدمشقية(ع) والمجاهدين الذين سيحررون بيت المقدس من الروم وأزلامهم الصهاينة حتى يظهر دين ابنها(ص) إلى الأبد.
﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ﴾: أي لن تتعبوا بمدد الله تعالى في ابتغاء التزود بالتقوى بدورة السلوك الحجي، فمن طلب عرفةً واحدةً سهَّل الله له ذلك، ومن طلب عرفاتٍ عديدةً متتالية، سيجد الله تعالى ميسرا، لأنهم ضيوف وهو «الصمد» المعطاء. و«العرفة» هي المقام المعرفي الواحد في مدارج السائرين.
﴿ فَإِذَا أَفَضْتُم﴾ «أي: دفعتم أنفسكم من مقام المعرفة التامة الذي هو نهاية مناسك الحج وأمُّها كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “الحج عرفة”». و «الفيض» هو الامتلاء من الماء الوجودي العشقي بتسهيلٍ من مربٍّ (النبي أو الخليفة أو العالِم الوريث…). ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ «أي: شاهدوا جمال الله عند السرّ الروحي المسمى بالخفي، فإن الذكر في هذا المقام هو المشاهدة. والمشعر هو محل الشعور بالجمال» الذي يجعل السالكَ آمنا، حراما، على شياطين الإنس والجن.
﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ «إلى ذكره في المراتب. فإنه تعالى هدى أولا إلى الذكر باللسان، وهو ذكر النفس. ثم إلى الذكر بالقلب، وهو ذكر الأفعال الذي تصدر نعماء الله/ «آلاؤه» منه. ثم ذكر السرّ، وهو معاينة الأفعال ومكاشفة علوم تجليات الصفات. ثم ذكر الروح، وهو مشاهدة أنوار تجليات الصفات مع ملاحظة نور الذات. ثم الذكر الخفي، وهو مشاهدة جمال الذات مع بقاء الإثنينية. ثم ذكر الذات، وهو الشهود الذاتي بارتفاع البقية». ﴿وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ [أي: من قبل الوصول إلى عرفات المعرفة والوقوف بها] (لَمِنَ الضَّالِّينَ ) [عن هذه الأذكار]﴾.
﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾: «ثم أفيضوا إلى ظواهر العبادات والطاعات وسائر وظائف الشرعيات والمعاملات»، «أي: من مقام إفاضة سائر الناس فيها، وكونوا كأحدهم. قيل للجنيد رحمة الله عليه: ما النهاية؟ قال: الرجوع إلى البداية». فيجب الابتعاد عن «الجدال» حتى إن كان علميا في دورة «السير» الحجي، إذ من الأهداف الرئيسة لهذه الدورة تأكيد «التعارف» بين الناس وتأكيد «الأمة» الواحدة وتجاوز الاختلافات: ﴿إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾. ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّه﴾ «من ظهور النفس وتبرمها بالحال وطغيانها». فنحن مطالبون بالإفاضة بأمتنا دون صدمة ولا تكفير ولا تكبر ولا تحقير لوعي الناس، بل بتوليد سقراطي ـــ بِهَشْتِيّ[112] انطلاقا من وعي الناس.
﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ [إذا أتممتم مدارج جميع العرفات]، فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾، أي: فلا تكونوا كأهل العادة مشغولين بذكر الأنساب والمفاخرات القومية والوطنية والعرقية وسائر أحوال الدنيا، «فإن ذلك يكدر وقتكم، ويقسي قلوبكم، بل كونوا مشتغلين بأنواع الذكر والمذاكرة مع الإخوان، مثل ما كنتم تذكرون أحوال الأنساب وسائر أحوال الدنيا» قبل دورة السلوك الحجي، «أو كما يذكر الناس هذه الأحوال بالعادة وأبلغ أو أقوى وأكثر ذكرا منها»، ليبقى صفاؤكم الوحدوي ويهتدي بكم الناس، أي كل الشعوب حتى غير الإسلامية، وبذلك تصبح مكة ﴿بَكَّةَ﴾، ويكون «تَبَكْبُك» العالم انطلاقا منها بإعلان سيدنا الإمام المهدي(ع) [113].
6_ المقطع الابراهيمي ـــــ الإسماعيلي في سورة الصافات:
هذا المقطع هو عصارة نصوص الحج في القرآن الكريم. إنه يعتبر حجَّ أبوّة الإب ـــ راهيمِ (للعائلة والجماعة الصغيرة والأمة:﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ، وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾) يبدأ بـ«سعي» تربوي ذاتي من أجل أن يجيء ربه ﴿بِقَلْبٍۢ سَلِيمٍ﴾، حاملا للمجاهدات الباطنية و الاجتماعية التي تحتوي «رؤيا»/رؤية تقوم لـ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، في الصبر على الاضطهاد. هنالك يبدأ الحج قبل «الميقات»: ﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ [إني حاج، سالك، قاصد] إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾.
ويتحقق الحج بتصديق «الرؤيا»/الرؤية التغييرية. فقلبه هو بناء النفس «الحِلمية» و تربية الذوات «الحِلمية». فابن تارح (ع) «حليم»(سورة هود، الآية75) و ابنه كذلك. وعلاقته به ليست «إكراهية»، بل «تحاورية»، «تعاقلية»، «تحالمية»: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ (…). فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ﴾، من أجل بلوغ «السعي»:﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾، أي بلوغ ذروة المشروع التربوي الحاجِّ لله تعالى. ونلاحظ هنا تضايف «الأبوة الرحيمية» بما هي سعي تربوي باسم «الرحمان» «الرحيم»[114] مع «البنوة»، فلا وجود للواحدة دون الأخرى، إذ «لولا المربي ما عرفت ربي»: ﴿أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ[ معيدَي ولادتك الوجودية: محمد(ص) وعلي(ع)]. إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ﴾(لقمان، الآية 14)، ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ﴾(التحريم، الآية 6).
إننا مطالبون باتخاذ «إِب ــــ راهيمِ» زمانِنا (محمد(ص) والمهدي عليه السلام): ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهيم [= مأموميةً] ، أي من مقام «الأبوة الرحمانية ــ الرحيمية» المتجسد في الإمام الرسول (ص) أو خليفته (ع) أو العالم الرباني أو مقلده الواعي، ﴿مُصَلّىً﴾ موطنا للصلاة أي للمأمومية السلوكية، بصيرةً تجعل السالك أوثق بالوصول في آخر سعيه المجاهَدي.
﴿وَعَهِدْنَآ إِلَىٰٓ إِبْرَٰهيم وَإِسْمَٰعِيلَ﴾: إسماعيل هو الوريث الوجودي ـــ التربوي للإب ــ راهيم: «يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة». «أمرناهما بتطهير بيت القلب من قاذورات أحاديث النفس، ونجاسات وساوس الشيطان، وأرجاس دواعي الهوى، وأدناس صفات القوى». ﴿لِلطَّآئِفِينَ﴾ «أي: للسالكين المشتاقين الذين يدورون حول الرسول(ص) والإمام المهدي( ع ) في سيرهم، ﴿وَٱلْعَٰكِفِينَ﴾ «الواصلين إلى مقام القلب بالتوكل الذي هو توحيد الأفعال المقيمين فيه بلا تلوينات النفس وإزعاجها منه»، ﴿وَٱلرُّكَّعِ﴾ «أي: الخاضعين الذين بلغوا إلى مقام تجلي الصفات، وكمال مرتبة الرضا»، و﴿السّجود﴾ «الفانين في الوحدة».
ويحدد الله تعالى في هذا المقطع الشريف خصائص مربي السالكين: ﴿وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ أي: «بمراتب الروحانيات، كالقلب والسر والروح والخفاء والوحدة والأحوال والمقامات، التي يعبر بها على تلك المراتب كالتسليم والتوكل والرضا وعلومها»، ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ «بالسلوك إلى الله وفي الله حتى الفناء» ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾، «بالبقاء بعد الفناء، والرجوع إلى الخلق من الحق تؤمهم وتهديهم سلوك سبيلي ويقتدون بك فيهتدون». وكل مرب للسائرين هو «إمام» بقدر حجمه الوجودي: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ، وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾.
الحج الحقيقي هو مجاهدات في «ذبح» النفس ذبحا بعد ذبح، أي ذبح الأنانيات والرغبة في الإكراه والكبرياء و﴿الأغلال﴾ وزرع خلق الصبر حتى الوصول للاستسلام للحكيم الأحكم: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾، أي ساعَدَهُ على «الانتلال» للعقل وعزة الإنسان (= «الجبين») بالارتفاع عن الهوى والإخلاد إلى الأرض: ﴿فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ. ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، بالانتهاء إلى مرتبة الصديقين أو في شفاعتهم: ﴿وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِين﴾ صدقا وقصدا.
و«الذَّبح العظيم» هو أعلى مراتب الذبح النفسي، أي أكمل مراتب الحج /السلوك. إنه أرقى «ذبح» وهو فداء النفس بالاطمئنان وذروة مقامات «القلب السليم».
أما «الإبقاء» عليه ﴿في الآخرين﴾، فهو «الإبقاء» على هذا المقام بكيفية عظيمة في أمة محمد(ص)، آخر الأمم، إذ سيتجلى «الذبح العظيم» للإب ـــ راهيم، للأب الرحيم الأعظم: محمد بن عبد الله (ص) في ابنه الصالح: الحسين (ع):﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ﴾. فقد أعده منذ صغره لتلك اللحظة الإفاضية التي أفاضت على وعي الإنسانية، فخرجت الإسماعيلية من الغيبة عن الشهود التاريخي مع إسماع= الإيلِ بن إبراهيم بن تارح إلى التحقق والمعاينة التاريخيتين: ﴿إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾، أي نجزي المقتدين باحسان الحسين(ع) بما هو ﴿ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾.
ولقد ذكَّر الإمام الحسن(ع) أخاه الإمام الحسين(ع) بوعد جده(ص)، فأجابه مُسْلِما:﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾. فالحسين(ع) هو الأب الرحيم لأمة جده، الإبراهيمِ الأولِ والأعظمِ(ص)، مجددا إياها بعد سقوطها: «حسين مني، وأنا من حسين».
7_ خطبة الوداع قمة الحج :
« الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير. أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا – ألا هل بلغت اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. وإن ربا الجاهلية موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وقضى الله أنه لا ربا. وإن أول ربا أبدأ به عمي العباس بن عبد المطلب. وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية والعمد قود وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية – ألا هل بلغت اللهم فاشهد. أما بعد أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحرقون من أعمالكم فاحذروه على دينكم.أيها الناس إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليوطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله. وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق الله السماوات والأرض، منها أربعة حرم ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان – ألا هل بلغت اللهم فاشهد. أما بعد أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهن حق. لكم أن لا يواطئن فرشهم غيركم، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم ولا يأتين بفاحشة ، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيراً – ألا هل بلغت….اللهم فاشهد. أيها الناس إنما المؤمنون إخوة ولا يحل لامرئ مال لأخيه إلا عن طيب نفس منه – ألا هل بلغت اللهم فاشهد. فلا ترجعن بعدى كافراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله وسنة نبيه، ألا هل بلغت … اللهم فاشهد. أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله اتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى – ألا هل بلغت….اللهم فاشهد. [قالوا نعم – قال] فليبلغ الشاهد الغائب. أيها الناس إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ولا يجوز لوارث وصية، ولا يجوز وصية في أكثر من ثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر. من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل. والسلام عليكم ». |
8_ بعض من خطبة الرسول بغدير خم بعد نهاية حجة الوداع:
قال النبي(صلى الله عليه وآله) : «إني قد دعيت ويوشك أن أجيب ، وقد حان مني خفوق من بين أظهركم وإني مخلف فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض. ثم نادى بأعلى صوته : ألست أولى بكم منكم بأنفسكم؟ قالوا : اللهم بلى فقال : فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله» وقال النبي( صلى الله عليه وآله وسلم) : ألا وإني أشهدكم أني أشهد أنّ الله مولاي وأنا مولى كلّ مسلم وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فهل تقرّون لي بذلك وتشهدون لي به؟ فقالوا : نعم ، نشهد لك بذلك فقال : ألا من كنت مولاه فإنّ عليّاً مولاه ، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره وأخذل من خذله»[115]. |
خاتمة:
تلخص سورة الحج أغراضها في خاتمتها، التي يمكن اعتبارها من الآية 78.
فهي تؤكد على «الشعارية» في كل أعمال الإسلام، وتؤكد أن هذه الشعارية سيمكن إدراكها بالعلم أَوَّلاً (الآية71) وبنُسْك المنسك (الآية 67) أي الامتداد بالمجتبى المعاصر للمكلف. فذلك النسك/الاقتداء هو الذي لا يجعل ﴿فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحج، 78) ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ [أيتها المناسك، يا أهل البيت والمقتدين بهم]، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحج، 78).
إن «ملة» أبيكم إبراهيم (الحج، 78) قامت أساسا على أمرين: الشعارية، والاصطفاء/الاجتباء (الحج، 75 و78). والحج بشعاريته الإبراهيمية، تأسيسا، هو حج إلى الله تعالى (هجرة إلى الله تعالى: سورة النساء، 100). فإذا عشنا الحج شعاريًّا، عرفنا الكعبة التي هي باطن الكعبة، وهي الرسول صلى الله عليه وآله، تطوف حول مثله أفئدة من الناس، ومن تلك الكعبة المشعرة بنا نحو الله تعالى، نحج إليه تعالى فنكون عبيدا له، عز وجل، بـ«بذل الكل»، كما قال الإمام الصادق عليه السلام.
تخاطب الخاتمة «المجتبين» «المصطفين» من ناحية، وتخاطب «الناس» من ناحية أخرى.
ففي «ملة» إبراهيم، دائما هنالك سنة «الإب ــ راهيم» أي «الأب الرحيم»، أي إن هنالك دائما ﴿أبيكم﴾. و أرحم «أب» في العالم هو الذي بعثه الله ﴿رحمة للعالمين﴾ (سورة النساء، 107)، أي رحمةً لإبراهيم بن تارح العراقي نفسه، تلك السُّنَّة تتمثل في وجود مصطفى/مجتبى في كل أمد.
فلما أصبح إبراهيم بن تارح ﴿إماما﴾ (البقرة، 124)، في آخر مراحل حجه نحو الله تعالى، سأل الله تعالى إن كانت هذه الدرجة مستمرة في ذريته، كما كانت سنة الله تعالى في الأئمة من قبله، قال له تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾(البقرة، 124)، فهي ليست في كل ذريته، بل في جماعة مصطفين/مجتبين منهم، لا يبدر منهم الظلم للنفس وللآخرين قط. هنالك رفع إبراهيم والإمام إسماعيل، عليهما السلام قواعد شعارية الحج العميقة (البقرة، 127)، وأسسا العبودية تاريخا، أي «الإسلام» لله عز وجل ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾(البقرة،128) ودعيا الله تعالى أن ينجح مسعاهما في تربية «أمة»، أي جماعة من ذريتهم تكون أمة له، ويكون قلبهم المحوري رسولا أعظم للعالمين، ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ، وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [أي سم لنا مناسك تلك الأمة/الجماعة/المصطفاة](…) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ [و«هم» أي «المناسك»] (…) يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ (…)﴾(البقرة، 128-129). وتمر الآية الموالية من سورة البقرة إلى بيان الناس تجاه هذه الملة الإبراهيمية التي أسست للمناسك ورسولهم ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾(البقرة، 130)، أي علينا أن نكون مسلمين لله تعالى، مؤتمِّين بهؤلاء المسلمين «المجتبين» عليهم السلام.
ثم تمرّ الآيات (132-143) إلى الأمة المسلمة المصطفاة من بني إسحاق (أي إلى عيسى عليهم السلام) لتطلب من الأمة المصطفاة الجديد جماعة أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، أن تأخذ من تلك الأمة المجتباة السابقة شعاريتها، التي يجب أن تكون شِعَارِيَّة الدين الإلهي في كل زمان ومكان، ولكن عليها أن تفهم زمانها ومكانها الجديدين وتقرأ ما يجب أن تفعل من أعمال، لأن نجاحها يعني نجاح الإنسان، أما إخفاقها لا قدر الله، فيعني إخفاق الإنسان، لأنهم أمة الخاتم صلى الله عليه وآله: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ، وَلَا تُسْأَلُونَ [مرة أخرى] عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(البقرة، 134 و141. ولذلك كان تغيير القبلة، من القبلة الإسحاقية، إلى القبلة الإسماعيلية، فأمة إسحاق المصطفاة بأسباطها كانت هي نفسها مؤتمة بالإمام إسماعيل، ولذلك سبَّقت الآية 133 إسم إسماعيل على إسم إسحاق. وذلك من حسن حظ الإنسان، ولطف الخالق به.
إن الأمة المسلمة المصطفاة، لطف من الله تعالى بالإنسان، وذلك ليرفع عنه الحرج، فيجد أمامه نموذجا واضحا، طريقا مستقيما (الحج، 67) يهديه في حجه إلى الله تعالى. ولكي تستطيع الأمة المسلمة المصطفاة صنع الأمة المسلمة من الناس عليها أن تكسب أكمل الأعمال، وتجتهد في أن تكون هي الأفضل في الإيمان والركوع والسجود والعبودية وفعل الخير لكي تفلح في إمامة العالمين بأعظم إنجاز تاريخي على الإطلاق في آخر المطاف، حيث ﴿وَإِلَى اللَّـهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ (الحج، 76) في دولتهم العَدْلية. فعليهم أثقل المسؤوليات والمطالب، وهم الذين يجب أن يكونوا المؤمنين/المؤمنين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّـهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ. وَفِي هَـذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ. فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّـهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(87)﴾ (سورة الحج). إن الاصطفاء طبيعي، وسيستمر دائما، لأنه طبيعي، وهو الذي يرفع الحرج عن المكلفين: ﴿اللَّـهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ (الحج، 75)، أي يعرف طبيعة الناس ومصلحة البشر، ولذلك اصطفى لهم. وإن تقدير الله حق قدره لن يكون إلا بالتواؤم مع الطبيعة (الحج، 73-74).
﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا ﴾[116] يريدون السطو على الناس وإبعادهم على الرسول وأسباطه، كما هي ملة إبراهيم مع “الأمة” /الجماعة المصطفاة الإسحاقية. والناس إذا اتبعوهم رغم أنهم من دون الله (الحج، 73) وليسوا من الله تعالى، الذين أمر الله بطاعتهم (النساء، 59) ستؤدي بهم إلى النار التي وعد هؤلاء «الكافرون»، أي المغطون للحق و المحاربون له (الحج، 72). وتشبث الناس بالذين كفروا لا بالرسول والشهداء الذين يلونه منه إنما يتشبثون بعاجزين: ﴿لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ. وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ (الحج،73).
فمن الضروري، حسب ملة تجدد «الإبراهيم»، وسنة الله تعالى الطبيعية في الذين خلوا من قبل، الائتمام بالرسول وشهدائه، الذين يجتهدون في عبودية الله تعالى وفعل الخير للناس: ﴿وَفِي هَـذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ [أيها الشهداء الأئمة] وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (الحج، 78)، فتشهدون على أعمالهم، فتقيّمونها وتقوّمونها وإن اكتشافنا لهم، إذا تسلحنا بالعلم (الحج، 71) وتحررنا من السطو الذي يريد «الذين كفروا» تسليطه علينا (الحج، 72)، سنرى بسهولة من هو المجتبى، أي الأفضل ويمارس حق جهاده (الحج،78) أي أرقى درجات جهاد النفس وجهاد الظلم. وهل نحتاج لمعين أو دليل لنرى أن الشمس هي الأعلى!
إن الله تعالى في خاتمة سورة الحج ينبهنا إلى أن قادتنا قد يكونون مدّعين توحيد الله تعالى، ولكنهم ما قدروا الله حق قدره (الحج، 74)، بينما هم في الحقيقة يعبدون من دون الله ما لم ينزل به ﴿سُلْطَانًا﴾ [أي معرفة عقلية] ﴿مَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ﴾ (الحج، 71). فيجعلون الله تعالى جسما، بتعلة أن السلف «لم يذموا أحدا بأنه مجسم، وذموا من لم يكن مجسما»[117]، وأن «الموصوف باليد والوجه لا يكون إلا جسما، فيد الله ووجهه كذلك. وأي محذور في ذلك وليس في كتاب الله وسنة رسوله أنه ليس بجسم»[118]، مدلِّسين أن تجسيم الله تعالى ليس «اختصاص للحنابلة بذلك، بل هم مذهب جماهير أهل الإسلام، بل سائر أهل الملل»[119]، ومتعللين: «إن كان يلزم رؤية الله تعالى أن يكون جسما فليكن كذلك»[120] «وقد يراد بالجسم ما يشار إليه أو ما يرى، أو ما تقوم به الصفات، والله تعالى يرى عند الآخرة وله صفات و يشار إليه بالأيدي»[121]. وإذا كان هذا التجسيم، الموهن لقدر الله تعالى، صادرا من حِمَوِيَّة مكة والمدينة، فإن ذلك موهن لشعارية الحج، بل لقواعد الملة الإبراهيمية التي ارتفعت بالنبي صلى الله عليه وآله وشهدائه الذين تلوه منه، عليهم السلام.
وإذا انهار التوحيد، واعتبر الله تعالى جسما في أجلِّ حمًى إسلامي، وهو مكة والمدينة، وفي أجلّ عباداته (الحج)، كان انهيار الإسلام كله، لأنه بُنِي على قَهَّارِية الله تعالى، أي على كونه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ (الشورى، 11)، فقد أراد الملأ الأموي أن يجعلوا من الذهن الشامي ذهنا مُقَدِّسا لصاحب السلطان المسيطر بالمال (الحاقة، 28 و29). وقد بقيت براثينه في العقل الحراني/السوري إذ جعلت السلطان الرومي متوائما مع السلطان الأموي، رغم أن هذا العقل استطاع أن يكون متحررا في نظرته للمادة (المفكرون والعلماء السريان في الحضارة الإسلامية) وفي نظرته للإسلام أحيانا كثيرة (ابن شعبة الحرّاني في القرن الرابع الهجري مثلا). وما على العقل الحرّاني (أي عقل النخبة السورية) اليوم إلاّ تثبيت ابن شعبة الذي تجسد فيه سلطان العقل والعلم (الحج، 71)، واجتثاث ابن تيمية نهائيا. وعلى المسلمين، إن أرادوا أن يكونوا مسلمين، إلا الاقتداء بالشهداء الذين كان الرسول شاهدا عليهم، وأن يقتدوا بالأمة /الجماعة المسلمة/المصطفاة إن أرادوا أن يكونوا أمة إسلامية.
فسورة الحج، في خاتمتها، إنما تعيدنا إلى القرن الخامس عشر هجريًّا، أي حَجِّيًّا، أي تعيدنا إلى مكة التي سطا عليها التجسيم، فلا بد من توحيد مكة لضمان توحيد العالم. وحَرّان لابد منها لمكة، ولكن في وجه ابن شعبة الذي قدر الله حق قدره واقتدى بالمجتبين. فبتطهير الشام، يكون تطهير مكة والعالم، إذ على الشام كان الصراع بين حضور زينب الحاجّة إلى الله تعالى وحضور يزيد الحاجّ إلى الشيطان لعنه الله، وكان الصراع بين ابن شعبة الحرَّاني وأحمد بن عبد السلام الحراني، وبين أبي ذر ومعاوية، بين القسّام والصهيونية، و بين قائد تحرير الشام ومصر مالك الأشتر والروم، بالأمس واليوم وغدا. فالشام ينبغي أن تكون ظهر العراق، والعراق ينبغي أن تكون ظهر مكة والمدينة، لكي يستقيم كل العالم على الرحمة للعالمين: ﴿إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾ (الحج، 67).
ملخص:
لكي يكون الحاجّ « إِبْـ -راهيمًا» (أي « أبا رحيمًا» باللغة المُضَريّة) او على طريق الابوة الرحيمية المحمدية ، ينبغي قي توصيات الحاجِّ عليّ شريعتي أن يفعل ما يلي:
« – اجعل أرضك حرمًا آمنًا. إنك في الأرض الحرام.
- بدّل زمانك، واجعله كالأشهر الحرام، كأنك دائما في مقام إبراهيم.
- اجعل الأرض مسجدًا حراما. فلقد جُعِلت الأرض كلها مسجدا لله. وانظر هل الأمر كذلك، فالأمر ليس كذلك!»[122].
- اركان الحج: النية والترتيب والتلبية والإحرام والطواف والوقوف في عرفات والوقوف في المشعر والسعي بين الصفا والمروة. أما «النية» فهي استجماع «الرؤيا» التغييرية و«الإرادة» في سياق ترتيبي، سلوكي، تصاعدي حتى أقصى «العرفات» عبر «تلبية» «النداء» الفطري، المحمدي ــ العلوي، وجعل الذات الفردية والجماعية «حرما» لله الحكيم الودود، وحده، شعورا من «الفجاج العميقة» للذات و سعيا مجاهديا بين التصفية والارتواء بالحب الإلهي بمساعدة ممثل الأبوة الرحيمية المحمدية الذي هو ﴿من أنفسكم﴾.
- وحج الحجِّ إنما هو أن أجعل من كياني الفردي بلدا ﴿حراما﴾ على الشياطين، ومن «قريتي» (=اجتماعي) كذلك، حتى يصبح كل العالم بلدا حراما «آمنا» «آمينا»، كما جاء في خطبة الرسول(ص) في حجة الوداع.
لقد قطع الحاج الأعظم في عصره: الإمام الحسين، حجَّه الظاهري، ليُكْمِلَه بحجه الحقيقي: الثورة على الاستبداد والمترفين. لم «يُكمل» ظاهريًّا مَرَاسم الحج الظّاهري، ليُعَلِّم كل حجاج التاريخ أن الحج الظاهري حج وثني إن لم يرتق إلى حجٍّ إلى الله تعالى وحجٍّ إلى الناس وحجٍّ إلى الفقراء وحجٍّ إلى العدالة والإصلاح. وقد علّمهم أن «الطواف حول بيت الله سيكون كالطواف حول بيت الأصنام إذا لم تقم الإمامة ولم يكن القائد، وضاع الهدف [ المحمَّدي]، وافتُقِد حسين [المرحلةِ]، وكان يزيد»[123].
فكل من استمرّ في الحج الظاهري، لما أعلن الحسين(ع) قطعه، وطالب حُجَاجَهُ بإتمام الحج الظاهري بالحج الواقعي: حج الثورة، كان حجه الظاهري حجًّا باطلاً. «ففي اللّحظة التي قطع فيها الحسين حجه وتوجّه نحو كربلاء، كان كل من استمر بالطواف في غيابه كمن كان يطوف حول القصر الأخضر لمعاوية»[124]. إنه حاجّ وثنيّ، يضحي بالإنسان بذبح إسماعيل الزمان، لا يطوف حول قِبلةِ الله تعالى، بينما الحسين(ع) يطوف حول قِيَمِ الله تعالى ولذلك كان على القِبْلة.
[1]الصادق (جعفر بن محمد)، مصباح الشريعة،دار التعارف، بيروت، 1954، ص 38.
[2] الصادق (جعفر بن محمد)، م. س ،ص 39.
[3] م. س، ص 39.
[4] الموسوي (روح الله)، الأربعون حديثا، ص 252.
[5] الموسوي (روح الله) م. س، ص 252.
[6] الموسوي (روح الله)، م. س، ص 252 أيضا.
[7] الموسوي (روح الله)، م. س، ص 252 أيضا.
[8] الموسوي (روح الله)، م. س، ص 253.
[9] الموسوي (روح الله)، م. س، ص 253 أيضا.
[10] انظر مدلول «النعام» و«الأنعام» في القرآن الكريم في تدبّر سورة الأنعام، نعمان المغربي.
[11] ابن منظور، لسان العرب، المجلد 12، ص 585.
[12] الطريحي، م.س، ص307، ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا[يسترزقون من الربا] لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾(البقرة، 275).
[13] «المشيئة» ليست الحرية، بل أوسع منها. إنها الهيمنة على كل الكيان، بل كل الكون، بفناء في الله تعالى. لها مظاهر اجتماعية وسياسية و«اقتصادية» و«ثقافية».
[14] أنظر التدبّر في سورة الأعراف، لنعمان المغربي متوسعا في مفهوم المشيئة.
[15] قارن بإبن عربي، م. س، ج1، ص192.
[16] الموسوي (روح الله)، سر الصلاة: صلاة العارفين، دار التعارف، بيروت، 2001، ص141.
[17] الموسوي (روح الله)، م. س، ص141.
[18]م.س، ص142.
[19] الموسوي (روح الله)، تفسير آية البسملة، محاضرات معرفية، دار الهادي، بيروت، 2000، ص24.
[20] الموسوي (روح الله)، تفسير آية البسملة،دار الهادي، بيروت، 2000، ص46.
[21] ابن عربي، م.س، ج2، ص22.
[22] ابن عربي، م.س، ج2، ص22 أيضا.
[23] «تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي» (حديث صحيح، متواتر، مشهور).
[24] ابن عربي، م. س، ج2، ص81.
[25] م. س، ج2، ص81 أيضا.
[26] م. س، ج2، ص81 أيضا.
[27] م. س، ج2، ص81 أيضا.
[28] ابن عربي،م.س، ج2، ص82.
[29] ابن عربي، م. س، ج1، ص241.
[30] ابن عربي، م. س، ج1، ص241.
[31] ابن عربي، م. س.
[34] العزم: Decision.
[35] الموسوي (روح الله)، م. س،ص 253.
[36] الموسوي (روح الله)، م. س، ص 254.
[37] الموسوي (روح الله)، م. س، ص 255.
[38] ابن عربي، تفسير القران الكريم، المجلد 2، ص 52.
[39] ابن عربي، م. س، ص 52.
[40] ابن عربي، م. س، ص 52.
[41] الموسوي (روح الله)، م. س، ص 727.
[42] الموسوي (روح الله)، م. س، ص 727.
[43] الموسوي (روح الله)، م. س، ص 727 أيضا.
[44] م. س، ص 728.
[45] الموسوي (روح الله)، م. س، ص 228.
[46] حديث رواه الموسوي (روح الله)، في: آداب الصلاة، مؤسسة تنظيم تراث الإمام الخميني، طهران، 2002، ص 354.
[47] من حديث رواه الموسوي (روح الله)، م. س، ص 354 أيضا.
[48] من حديث رواه الموسوي (روح الله)، م. س، ص 354 أيضا. ويقول قدّس سره:«فإسما “الله” و”الرحمان” لإحاطتهما ، يكون التجلي لسائر الأسماء بتوسطهما، وهذا من أسرار سبق الرحمة الغضب» الموسوي (روح الله)، شرح دعاء السحر، مؤسسة تنظيم تراث الإمام ونشرها، 1381هـ. ش ، ص 354.
[49] ابن عربي، م. س، ص 53.
[50] م. س، ص 53 أيضا.
[51] م. س، ص 53 أيضا.
[52] … ذلك لأن مُرْسلي الله تعالى مَدْعوون لـ: ﴿فَاستَقِم كَما أُمِرتَوَمَن تابَ مَعَكَ﴾(هود، 112).
[53] الإمام زين العابدين، الصحيفة السجادية، الأعلمي، بيروت، 2002، ص 252-253.
[54] دعاؤه، صلي الله عليه وآله، لمّا اضطهده أهل الطائف، بأبي هو وأمي ونفسي! [انظر: الحسني (هاشم معروف)، سيرة المصطفى، دار التعارف، بيروت، 1986، ص220].
[55] «القريب» مع الرسول، صلي الله عليه وآله، هو قريش وأبو لهب والعباس. ومع الإمام الحسين عليه السلام، هو ابن عمر وابن الزبير وابن العباس والأنصار وأبناؤهم.
[56] «البعيد» مع الرسول، صلى الله عليه وآله، هو الطائف مثلا. ومع الإمام الحسين هو الشاميّون والعراقيون.
[57] «المستضعِفون» مع الرسول هم قريش عموما، ومع الإمام هم بنو أمية.
[58] ابن عربي، م. س، المجلد الثاني، ص 52.
[59] ابن عربي، م. س، المجلد 1 ص 275.
[60] ابن عربي، م. س، ص 275 أيضا.
[61] ابن عربي، م. س، ص275 أيضا.
[62] ابن عربي، م. س، ص275 أيضا.
[63] ابن هشام، السيرة النبوية، دار التراث العربي، بيروت، 1973، ج2، ص74.
[64] الطريحي، م. س، المجلد الخامس، ص 295.
[65] م. س، ص 296.
[66] ابن هشام، خطبة حجة الوداع.
[67] رواه أبو نعيم الأصفهاني في الأربعون حديثا في المهدي، مؤسسة إحياء التراث، بيروت، 2011، ص46.
[68] ابن عربي، م. س، المجلد الثاني ص 49.
[69] ابن عربي، م. س، المجلد الثاني ص 49.
[70] ابن عربي، م. س، المجلد الثاني ص 49.
[71] ابن عربي، م. س، المجلد الثاني ص 49.
[72] ابن عربي، م. س، المجلد الثاني ص 49.
[73] م. س، ص 49 أيضا.
[74] إطعام الطعام ليس هو مجرد الإطعام. فإطعام الطعام هو توفير ظروف إكرام بني آدم من أجل الطعام الكريم.
[75] الإمام الصادق، مصباح الشريعة، دار الأعلمي، 1992، ص7.
[76] الأمين (محسن)، لواعج الأشجار في مقتل الحسين عليه السلام، دار الأمير، بيروت 1996، ص57.
[77] م.س، ص 57-ص58. ولقد تصاهر ابن عمر مع يزيد.
[78] ابن منظور، م. س، المجلد الرابع، ص414.
[79] ابن عربي، ص 413.
[80] … بمعنى مبايعته بالقلب والصدق.
[81] ابن عربي، م. س، المجلد الثاني، ص52.
[82] «الفناء» هو بتعريف محمد الغروي بذيل تعريبه الأربعون حديثا«زوال شعور السالك من جراء استيلاء الحق سبحانه على باطنه»، أو «زوال الأوصاف المذمومة من الإنسان وظهور أوصاف ممدوحة وحسنة فيه». وله مراتب ثلاثة: «فناء المريد في المراد، وهو تحول صفات المريد إلى صفات المراد وتأثره التام بشيخه ومراده»، و«الفناء في الرسول، وهو التحلي بصفات النبي والرسول»، و«الفناء في الله، وهو تبديل صفات الإنسان إلى صفات الله» فلا يرى في الوجود إلا واحدا ولا يرى نفسه [الأربعون حديثا لروح الله الموسوي)، م.س، ص746-ص747].
[83] ابن عربي، م. س.
[84]الطريحي(فخر الدين)، المجلد 6، ص212.
[85] لجنة التأليف، الحج عبادة وتربية، دار الوعي، الكويت، 1978.
[86] م. س.
[87] “أشعَارُ”، جمع “شِعَاُر”، أي العلامة أو الرمز، بها يُعْرَف الفرد أو الجماعة.
[88] “التقوى” في الآية 37 من سورة الحج.
[89] م. س.
[90] صَوَافّ: «قائمات قد صفّفت أيديهنّ وأرجلهنّ»، (الزمخشري، الكشاف، دار المصحف، القاهرة، 1977، الجزء الثالث، ص84)، ذلك هو المعنى الأول، معنى الممارسة الأولية، الذي يدعونا للمرور إلى المعنى الشّعاري/الشعيري، أي العلامي.
[91] ابن عربي، م. س، المجلد الثاني، ص53.
[92] الزمخشري، م. س، ص84.
ابن عربي، م. س، المجلد الثاني، ص54.[93]
[94] «(…) خرجت لأطلب الإصلاح في أمة جدي».
[95] نقلا عن الجعفري(محمد تقي): تجليات روحانية: دعاء الإمام الحسين في صحراء عرفات، مؤسسة الهدى، طهران، 2007، ص130.
[96] نقلا عن: الجعفري (محمد تقي)، م.س، ص 104.
[97] م. س، ص75.
[98] م. س، ص61.
[99] راجع مقولة “الرِّسْلِية” في سورة الأعراف.
الجعفري (محمد تقي)، م. س، ص 104[100]
[101] القانع «إذا خضع و سأل » ( الطريحي، مجمع البحرين، 1985، المجلد 4، ص 384).
[102] … إذا كُنا ندّعي « التمكين» ونحن «مسيطرون»، فنحن نكذب على القرآن الكريم. إذا كان هناك ﴿مَالِيَهْ﴾ وكان ﴿سُلْطَانِيَهْ﴾، كان هناك ﴿مُصَيْطِر﴾، فلا وجود في هذه الحالة « تمكين» للمستضعفين في الأرض.
[103] انظر تدبرنا في سورة المائدة.
[104] راجع تدبرنا في سورة الصافات.
[105] نلاحظ تشابه بِنْية مقطع الصيام في سورة البقرة مع بِنْية مقطع الحج في السورة نفسها.
[106] انظر: ابن عربي، م.م، سورة البقرة .
[107] ابن منظور، م.م، مادة «بكك».
[108] انظر تفسير ابن عربي لهذه الآية.
[109] راجع تدبرنا في سورة الكوثر.
[110] انظر تفسير ابن عربي لهذه الآية.
[111] ابن عربي، التفسير، سورة آل عمران.
[112] كان سيدنا الفيلسوف المصلح محمد الحسيني البِهَشتي أول فيلسوف سقراطي ـــ توليدي في الإسلام(راجع كل كتبه).
[113] انظر تدبرنا في سورة طور الكتاب المسطور.
[114] راجع : الموسوي(روح الله)، تفسير آية البسملة.
[115] انظر مثلا البخاري ومسلم والحاكم وغيرهم، وانظر أيضا تدبرنا في سورة المائدة.
[116] «الكافر» قرآنيا- ليس «غير المسلم» إنما الذين يحاربون المسلمين في دينهم ويخرجوهم من ديارهم: ﴿لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ …… الْمُقْسِطِينَ﴾. فالكثير من الأديان الأخرى مؤمنون (أي غير كافرين): ﴿ إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ (…) فلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(البقرة، 62).
[117] ابن تيمية، بيان تلبيس الجَهْمِيّة، دار ابن الجوزي، الرياض، 1986، ص272.
[118] م. س، ص272.
[119] م. س، ص251.
[120] العثيمين (محمد بن صالح)، شرح العقيدة الواسطية، دار المدينة، الرياض، 1995، ص289.
[121] ابن تيمية، منهج السنة، الدار السلفية، الرياض، 1983، ج1، ص484.
[122] شريعتي (علي)، الحج فريضة خامسة، دار الأمير، بيروت، 2003، ص327.
[123] م. س.
[124] م. س.