تتسارع هذه الأيام إجراءات الاحتلال ضد الأرض الفلسطينية والمقدسات، وخاصة ضد الحرم القدسي الشريف، وبالذات حائط البراق، الذي هو الجدار الغربي للمسجد الأقصى، والذي يدّعي الاحتلال الإسرائيلي، زوراً وبهتاناً، ملكيته لهذا الحائط الذي يسميه بـ “حائط المبكى” أو “الكوتيل”.
ونعرض هنا هذه الدراسة التي أعددناها، والتي توضح بشكل علميٍ وموضوعي ونزيه، أحقية المسلمين بهذا الحائط، الذي سيبقى حائط البراق، والذي لا يحق لأحد أن يتماهى مع الصهيونية في ادّعائها بملكيته، أو أن يتنازل عنه تحت أي ذريعة أو دعوى.*
نظم اليهود مظاهرة في تل أبيب لمناسبة ما يسمى ذكرى تدمير الهيكل في 14 آب (أغسطس) 1929، وأتبعوها في اليوم التالي بمظاهرة كبيرة في شوارع القدس لم يسبق لها مثيل، حتى وصلوا قرب حائط البراق، وهناك رفعوا العلم الإسرائيلي، وأخذوا ينشدون النشيد الصهيوني “هاتكفا” (الأمل)، وشتموا المسلمين، وأطلقوا صيحات التحدي والاستفزاز، وقالوا “هكوتيل كوتلينو”، أي “الحائط حائطنا”، وطالبوا باستعادته، زاعمين أنه الجدار الباقي من هيكل سليمان.
وفي اليوم التالي، الذي كان ذكرى المولد النبوي الشريف، توجه أهالي القدس والقرى المحيطة بها على عادتهم لأداء صلاة الجمعة في المسجد الأقصى، وبعد الصلاة خرج المصلّون في مظاهرة ضمّت الآلاف من المسلمين، واتجهوا نحو حائط البراق، وحطّموا منضدة لليهود كانت موضوعة على الرصيف، وأحرقوا بعض الأوراق التي تحتوي على نصوص الأدعية اليهودية الموضوعة في ثقوب الحائط.
وبعد عدة أيام تواترت الأخبار عن نيّة الصهيونيين شنّ هجوم على حائط البراق واحتلاله لتثبيت حقهم في ملكيته، فتدفق مسلمو فلسطين إلى القدس لأداء صلاة الجمعة في 23 من الشهر نفسه، وهم يحملون العصي والهراوات، وحين خرج المصلون وجدوا تجمّعاً صهيونياً يتحداهم، فوقعت صدامات ومواجهات عنيفة بين الطرفين، وفتحت الشرطة البريطانية النار على الجمهور العربي، ودخلت المُصفّحات البريطانية القدس، وفي الأيام التالية اتسعت المواجهات الدامية فشملت مختلف المدن الفلسطينية، وكانت حصيلة ما عرف باسم “ثورة البراق” مقتل 133 يهودياً وجرح 239 منهم، واستشهاد 116 مسلماً وجرح 232 شخصاً، وإلحاق أضرار كبيرة بالقرى والممتلكات.. وفي 17 حزيران من العام 1930 أعدمت سلطات الانتداب البريطاني، في سجن عكا، قادة ثورة البراق: عطا الزير، ومحمد جمجوم، وفؤاد حجازي، الذين خلّدهم الشاعر الشعبي نوح إبراهيم بقصيدته ذائعة الصيت “من سجن عكا طلعت جنازة …” وهي ذاتها الأغنية التي قدمتها فرقة العاشقين الفلسطينية وانتشرت في أصقاع الدنيا. كما قام الشاعر الفلسطيني المعروف إبراهيم طوقان برثاء الشهداء الثلاثة بقصيدته المميزة “الثلاثاء الحمراء”، والتي ألقاها في حفل تأبين الشهداء في ساحة مدرسة النجاح الوطنية (جامعة النجاح) العام 1930 بمدينة نابلس، خرج على أثرها الفلسطينيون في المدينة بتظاهرة عارمة، جددت روح التحدي وبعثت الأصرار من جديد.
وأسفرت تلك المظاهرات أو ما عُرف بثورة البراق عن إنشاء جمعية “حراسة المسجد الأقصى”، التي انتشرت فروعها في معظم المدن الفلسطينية، واشترك الأشقاء المسيحيون مع قادة الحركة الوطنية للدفاع عن الأراضي الفلسطينية، فانتخبت في تلك الفترة اللجنة التنفيذية للمؤتمر الإسلامي المسيحي التي قامت بعدة زيارات خارجية للدول العربية وبعض العواصم الأوروبية تحذر من الخطر المحدق بالمسجد الأقصى، ومحاولات اليهود بناء هيكل لهم على أنقاضه.
وعلى إثر الاضطرابات وثورة البراق، أرسلت الحكومة البريطانية لجنة للتحقيق عرفت باسم “ لجنة شو”، نسبة إلى رئيسها، وبين جُملة توصياته، أوصى شو بإرسال لجنة دولية للتحقيق في موضوع حقوق العرب واليهود في البراق. وفي 15 أيار من العام 1930، وافق مجلس عصبة الأمم على الأشخاص الذين تمّ ترشيحهم من قبل بريطانيا لعضوية اللجنة.
وصلت لجنة التحقيق الدولية إلى القدس في 19 حزيران من العام نفسه، وأقامت فيها شهراً بكامله، عقدت خلاله 23 جلسة، اتبعت خلالها الأصول القضائية المعهودة في المحاكم البريطانية، واستمعت إلى ممثلي الطرفين العربي واليهودي، وإلى 52 شاهداً (30 استدعاهم العرب و22 استدعاهم اليهود)، وأبرز الطرفان أثناء الجلسات 61 وثيقة (26 وثيقة قدمها العرب و35 وثيقة قدمها اليهود)، وكان دفاع الفريق العربي عن حقّه في القدس يثير الإعجاب، واشترك في هذا الدفاع نخبة من رجالات البلاد من ذوي الاطلاع الواسع على الوضع الراهن للأماكن المقدسة.
كانت المشكلة الرئيسة التي واجهت اللجنة يومذاك تتمثل في محاولة الجماعات الصهيونية قلب “الوضع الراهن” بالنسبة للأماكن المقدسة، إذ ركزت جهودها منذ البداية على حائط البراق، متّبعة أساليب تدريجية تصاعدية تنتهي بها إلى ادعاء حق اليهود في ملكية “حائط المبكى”، وقد تمثلت المرحلة الأولى من تلك الخطة بجلب اليهود الكراسي والمصابيح والستائر على غير عادتهم السابقة، ووضع هذه الأدوات أمام الحائط ليحدثوا سابقة تُمَكّنهم من ادّعاء حق ملكية التي يضعون عليها هذه الأدوات، ومن ثم ملكية الحائط.
ومن الوثائق التي قدمها الحاج أمين الحسيني إلى اللجنة الدولية، وثيقة ترجع إلى زمن الحكومة المصرية، مؤرّخة في 24 رمضان 1256 للهجرة (1840 ميلادية)، موجهة من رئيس المجلس الاستشاري محمد شريف إلى أحمد آغا الدزدار، متسلم القدس، وتمنع اليهود من تبليط الرصيف المجاور للحائط، وتحذّرهم من رفع أصواتهم وإظهار المقالات عنده، وقد شكك بعض اليهود في صحة هذه الوثيقة، بيد أن د. أسد رستم، أستاذ التاريخ الشرقي في جامعة بيروت الأميركية، عضو المجمع العلمي اللبناني، درس هذه الوثيقة، مستخدماً خبرة غنية ومنهجية بحثية أصيلة، وأرسل نتيجة دراسته مزودة بالوثائق المقارنة إلى الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين العام 1930، أكد له في نهايتها ما نصه: “بناء على ما نعرفه من نوع ورقها وقاعدة خطها وأسلوب إنشائها وطريقة تنميرها وتاريخها، وبناء على موافقة النصوص التاريخية لها ولاهتمام اليهود بأخربة الهيكل، نرانا مضطرين أن نرجح أصليتها ترجيحاً علمياً تاماً”.
ويشكل حائط البراق الجزء الجنوبي من السور الغربي للحرم القدسي الشريف، بطول حوالي (47 متراً، وارتفاع حوالي 17 متراً)، ولم يتخذه اليهود مكاناً للعبادة في أي وقت من الأوقات إلا بعد صدور وعد بلفور العام 1917.. ولم يكن هذا الحائط جزءاً من ما يُسمى بـ الهيكل اليهودي، ولكن التسامح الإسلامي هو الذي مكّن اليهود من الوقوف أمامه، والبكاء على زواله، وزوال الدولة اليهودية المدّعاة أو قصيرة الأجل في العصور الغابرة.
وجاء في الموسوعة اليهودية، الصادرة العام 1917، أن الحائط الغربي أصبح جزءاً من التقاليد الدينية اليهودية حوالي العام 1520 للميلاد، نتيجة للهجرة اليهودية من أسبانيا، وبعد الفتح العثماني العام 1517.
وفي عهد الانتداب البريطاني على فلسطين زادت زيارات اليهود لهذا الحائط، حتى شعر المسلمون بخطرهم، ووقعت ثورة البراق بتاريخ 23/8/1929 م، والتي استشهد فيها العشرات من المسلمين، وقتل فيها عدد كبير من اليهود، واتسعت حتى شاركت فيها عدد من المدن الفلسطينية، وتمخضت الأحداث عن تشكليل لجنة دولية لتحديد حقوق المسلمين واليهود في حائط البراق، وكانت اللجنة برئاسة وزير خارجية السويد الاسبق “أليل لوفغرن”، وعضوية نائب رئيس محكمة العدل الدولية الأسبق السويسري ” تشارلز بارد”، وبعد تحقيق قامت به هذه اللجنة واستماعها إلى وجهتي النظر العربية الاسلامية واليهودية، وضعت تقريراً في العام 1930، قدمته إلى عصبة الامم المتحدة أبدت فيه حق المسلمين الذي لا شُبْهة فيه بملكية حائط البراق.
ومن اليهود الذين استمعت إليهم اللجنة الدولية الدكتور مردخاي الياش وديفيد يلين والحاخام موشي بلاو، وقدم الدكتور كورش ادلر وبعض كبار رجال اليهود في القدس مذكّرة خطيّة تشرح وجهة النظر اليهودية بشأن حائط البراق. ومن العرب الذين استمعت إليهم اللجنة عوني عبد الهادي، وأحمد زكي باشا، ومحمد علي باشا، والشيخ اسماعيل الحافظ، وأبرزوا للجنة وثائق ومستندات عدة، وقد كانت حجج اليهود أن حائط البراق هو من بقايا الهيكل، وأن “الكوتل معرافي” لا يمكن هدمه على الإطلاق، لأن الحضور الإلهي “شكينة” مستمر على الدوام، ولذلك فإن اليهود يرغبون في الصلاة أمام هذا الحائط، وينوحون على خراب الهيكل الذي كان في (9 آب عبري). وقال اليهود إن استعمال أدوات كالمقاعد، وستار لفصل الرجال عن النساء، وخزانة تتضمن أسفار التوراة، وقناديل للطقوس، وطشت للغسيل، كان شائعاً عند الحائط، ومسموحاً به من الحكومة العثمانية قبل نشوب الحرب العالمية الأولى بمدة طويلة، ووفقاً لهذه الحجّة يجب اعتبار هذه الحالة بأنها هي الحالة الراهنة. وقالوا إن المادة (15) من صك الانتداب البريطاني تقضي على الدولة المنتدبة بأن تضمن لليهود حرية العبادة عند الحائط حسب الطريقة المفروضة في شعائرهم وطقوسهم الدينية من دون أدنى تدخل من العرب، ويجب أن يمنع العرب من إزعاج اليهود أثناء صلواتهم، سواء بالمرور عند الحائط، أو بصوت الأذان، أو إقامة الذِكْر قرب الحائط. وعلى رغم كل هذه المطالب لم يدَّعِ اليهود ملكية الحائط، ولكنه من صنف الأملاك المقدسة التي لا يمكن الاتّجار بها.
وقال اليهود إن قصة البراق يرجع عهدها إلى عدة أجيال بعد زمن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وإن البراق لم يأت ذكره في القرآن، ولا توجد قدسيّة للرصيف الكائن أمام الحائط لكون النبي – عليه السلام – مرّ به ليلة الإسراء، لأنه لم يرد ذكره في الكتب المقدسة، وإن المسلمين لم يطلقوا اسم البراق على الحائط إلا في السنوات الاخيرة، كما أن الدليل الرسمي للحرم القدسي الشريف الذي صدر عن المجلس الإسلامي العام 1924 لم يشر إلى قدسية خاصة للحائط، وقالوا إن وقفية حارة المغاربة لا تؤثر في قيام اليهود بفروض العبادة عند الحائط.
وعلى أساس هذه الادعاءات طلب اليهود من اللجنة أن تعترف بأن حائط المبكى (كما أسموه) مكان مقدس ليهود العالم قاطبة، وأن تقرر أن لليهود الحق في التوجه إلى الحائط للصلاة وفقاً لطقوسهم الدينية دون ممانعة من أحد، واتخاذ كافة التدابير الضرورية لإخلاء أملاك وقف المغاربة على أن تقبل دائرة الاوقاف الإسلامية بدلاً منها مباني جديدة في موقع لائق في القدس.
أما ملخص تصريحات أحمد زكي باشا ومحمد علي باشا التي أدليا بها نيابة عن المسلمين، فهو أن الأمة الإسلامية أعلنت رسمياً، وفي كل الظروف، عدم اعترافها بالانتداب البريطاني على فلسطين. وعليه فهي لا تريد أن تتقيّد بأي نظام مستمد من هذا الانتداب، ولا الإقرار بأية نتيجة ترجع إلى ما يسمى بـ “وطن قومي لليهود”، كما قرر المسلمون أن النزاع على ملكية أماكن العبادة، أو على حقوق مدّعى بها على هذه الأماكن، يجب أن يرفع إلى الهيئة المختصة دون غيرها للفصل في أمر الوقف والأماكن الإسلامية المقدسة.
أما الحجج التي أبداها الفريق الإسلامي فكانت أن الرومان طردوا اليهود من فلسطين على إثر تدمير الامبراطور “تيطس” الهيكل سنة 70 للميلاد، وإزالة آثاره من قبل الامبراطور “هدريان” سنة 135 للميلاد، ثم حكم البيزنطيون البلاد لغاية الفتح الإسلامي في زمن الخليفة عمر بن الخطاب، واستمرت البلاد في حوزة العرب والمسلمين جيلاً بعد جيل باستثناء تسعين سنة حكم فيها الصليبيون، ولم تكن فلسطين في القرن السابع للميلاد عندما فتحها المسلمون يهودية، ولم يكن في القدس أي يهودي، ولم يتعرض المسلمون لليهود بأي أذى، بل أكرموهم، ولم يدّع اليهود في يوم أن لهم الحق في حائط البراق، وأن وعد بلفور العام 1917 هو السبب في وقوع الخلاف وتحريض اليهود على المطالبة بحق الصلاة أمام الحائط.
كما أن حائط البراق جزء لا يتجزأ من المسجد الأقصى المبارك والحرم القدسي الشريف، وهو وقْف إسلامي لعائلة “بومدين” الجزائرية المغاربية المسلمة، وليس فيه حجر واحد يعود إلى عهد الملك سليمان، والممر الكائن عند الحائط ليس طريقاً عاماً، بل أنشئ فقط لمرور سكان محلة المغاربة وغيرهم من المسلمين في ذهابهم إلى مسجد البراق، ومن ثم الى الحرم الشريف، وقد كان السماح لليهود بالسلوك إلى الحائط من قبيل التسامح في المرسوم الصادر عن إبراهيم باشا في العام 1840، وليس لأداء الصلوات.
وإن تطبيق الحالة الراهنة في الأماكن المقدسة ليست له علاقة بحائط البراق، لأن الحق في ملكيته أو الإنتفاع به عائد للمسلمين، وأما مدى التسامح فهو الذي يستطيع أصحاب البراق إبداءه، ولا يمكن أن يتجاوز الحدود التي يعينونها. وقد كان الكولونيل “سايمس” قد اعترف بهذا الأمر عندما مثل الدولة المنتدبة أمام لجنة الانتداب الدائمة في دورتها التاسعة لسنة 1926 م، حيث قال: “جرت عادة اليهود بالتوجّه إلى الحائط الغربي للبكاء على عظمة إسرائيل، على أن الموقع الذي يحصل فيه البكاء عائد للوقف الإسلامي.. وإذا كان يسمح لليهود بالتوجه إلى هذا المكان، فلا يترتب على ذلك أن الموقع هو ملكهم”. وأشار المسلمون إلى أن الدولة المنتدبة في كتابها الأبيض الذي أصدرته في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1928 اعترفت صراحة بأن الحائط الغربي والمنطقة المجاورة له ملك المسلمين خاصة.
هكذا، فإن اليهود حاولوا العام 1929 أن يؤيدوا مزاعمهم بالقوة، حتى ينفّذوا نواياهم الحقيقية ووضع يدهم على جزء لا يتجزأ من الحرم الشريف، ورغم أنهم قالوا أمام اللجنة الدولية إنهم لا يدعون بحق الملكية في الحائط، فإنهم كانوا يرمون في الحقيقة إلى تحقيق هذه الغاية، ويؤكد ذلك ما جاء في دائرة المعارف البريطانية، والذي يقول: “ من أكبر النتائج التي تلفت النظر والعناية التي تولدت من العداء نحو الساميين ظهور حركة اليقظة القومية في اليهود بمظهر سياسي، وهي الحركة التي عرفت بالصهيونية.. إن اليهود يتطلعون إلى افتداء اسرائيل، واجتماع الشعب اليهودي في فلسطين، واستعادة الدولة اليهودية، وإعاة بناء الهيكل، وإقامة العرف الداودي في القدس ثانية، وعليه أمير من نسل داود ”.
وقد اختممت اللجنة الدولية تقريرها بالنتيجة التالية: “للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي ولهم الحق العيني فيه، لكونه يؤلف جزءاً لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف، التي هي من أملاك الوقف الإسلامي. وللمسلمين أيضاً تعود ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط، وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة، لكونه موقوفاً حسب أحكام الشرع الإسلامي”.
ولكن سلطات الاحتلال، وبعد حرب 1967، واستيلائها على القدس القديمة، هدمت حارة المغاربة، واستولت على حائط البراق مباشرة، وأنشأت ساحة كبيرة مبلّطة أمام الحائط لتستوعب اليهود الذين يحضرون للصلاة أمام الحائط، وفي هذه الساحة اليوم يوجد الباب الأول للنفق الشهير الذي حفرته سلطات الاحتلال موازياً للسور الغربي للحرم الشريف بطول حوالي 488 متراً، وأوصلوه بقناة رومانية قديمة طولها 80 متراً، وفتحوا باباً ثانياً في نهاية النفق عند مدرسة الروضة الإسلامية العام 1996.
حتى بين اليهود أنفسهم، تظهر أحياناً أصوات تخلع القُدسيّة اليهودية عن “حائط المبكى”، وتعتبر أن لا علاقة للدين اليهودي بهذا الموقع، نظراً لعدم وجود أية صلة بينه وبين شريعة النبي موسى، وفي أيامنا هذه، لجأ بعض اليهود المستنيرين إلى التذكير بانتفاء تلك القدسية. وعلى سبيل المثال، نشرت تصريحات للحاخام يهورام مزور، أمين سر مجلس اليهودية التقدمية، في العدد الأول من مجلة “بتلم” اليهودية الصادرة عن هذا المجلس، صيف 1999، تحت عنوان “هل من المهم تأدية الصلاة على وجه التحديد عند حائط المبكى ؟!”. ومما ذكره الحاخام مزور في هذا المقال أنه لا توجد قدسية لحائط المبكى في الديانة اليهودية، وأنه يرفض إقامة حفلات البلوغ أو أي شعائر أخرى هناك، وقال الحاخام مزور: “إننا نلتقي طوال ساعات اليوم أشخاصاً في هذا المكان يؤدون الصلاة في موقع هم الذين قدسوه”. وأضاف: “إن ذلك يشبه عبادة الأوثان، وإن على مجلس الحاخامات التقدميين في إسرائيل اختيار موقع آخر لصلاة اليهود”.
وكثيرة هي الدراسات التي نشرها متخصصون يهود، وتؤكد أن الرواية التوراتية تفتقر إلى أي دليل أثري، ومنها دراسات البروفسور اليهودي إسرائيل فنكلشتاين، رئيس قسم الآثار في جامعة تل أبيب، وزميله دافيد أو سسيشكين، اللذين أكدا أن قدس الأقداس لم يشيّد في عهد سليمان وإنما قبله بمئة عام، وأن هذا العهد غامض جداً، وليس هناك أي سند لما ورد في “العهد القديم” بشأنه.
ومما سبق، يمكن استخلاص موقف واحد لا تشوبه شائبة، وليس له بديل وهو أن حائط البراق حائط إسلامي وجزء لا يتجزء من المسجد الأقصى والحرم القدسي الشريف. ولا يحق لأيٍ كان أن يدّعي ملكيته، أو يجري عليه تغييرات تبدّل معالمه، أو أن يضفي عليه ملامح جديدة تنسف شخصيته الأصيلة.
كما لا يحق لأي أحد أن يوافق دولة الاحتلال على اجراءتها العنصرية والظالمة وفظاعاتها ضد التاريخ والمقدسات، أو أن يبارك هذه المجازر ضد حائط البراق والمقدسات الإسلامية والمسيحية. كما لا يحق لأي مسلم أو عربي أو فلسطيني، ولأي سبب كان، أن يتنازل عن حجر واحد أو ذرة تراب من حائط البراق أو غيره من المقدسات، لأن ذلك سيكون تنازلاً عن الحرم القدسي والقدس والمقدسات.
ونقدر عالياً الموقف الثابت الفلسطيني والعربي والإسلامي والدولي، الذي يدافع عن البراق والأقصى وعن كل المقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين، ما يجعلنا نؤكد على هذا الموقف، ونطالب بكل عوامل تعميقه وديمومته.