يقول الحكيم الصيني “صن تزو” في كتابه “فن الحروب” ( صدر منذ 500ق.م) :” إذا عرفت العدو وعرفت نفسك، فليس هناك ما يدعو إلى أن تخاف نتائج مائة معركة. وإذا عرفت نفسك ولم تعرف العدو، فإنك سوف تقاسي هزيمة مقابل كل انتصار. وإذا لم تعرف العدو، فإنك أحمق، وسوف تواجه الهزيمة في كل معركة”.
يبدو أن هذه “الحكمة” الصينية قد استوعبتها بعض الأحزاب السياسية التونسية ولم تستوعبها أحزاب أخرى. فهناك أحزاب مثل “حزب النهضة”، ونظرا إلى خاصيته “التنظيمية الصنميّة” فقد حافظ على تماسكه الداخلي على الرغم من اختلاف وجهات النظر بين عناصره، واستوعب هذا الدرس؛ فعرف نفسه وعرف خصومه منذ الانتخابات التشريعية الثانية لعام 2014. وقد تمكن من ملاعبة منافسيه، سواء كانوا من الداخل أو من الخارج،بحنكة سياسية ( اختلط فيها المباح بالمحظور)، من أجل أن يحافظ على مكانته في الساحة السياسية. أما بقية الأحزاب على اختلاف توجهاتها وخلفياتها الأيديولوجية، وخاصة ذات التوجهات اليسارية والقومية، فقد تذرّرت إلى شلل وطوائف سياسية، ومازالت لم تستوعب الدرس الصيني وسوف تواجه الهزيمة في كل معركة انتخابية تخوضها في المستقبل، لأن الشرط الأول في “حرب الاستنزاف” الانتخابية هو أن يراجع الحزب ذخيرة عتاده وعناصر ضعفه وقوته لمواجهة الخصوم لكي لا ينسحب من ساحة المعركة ويرفع الراية البيضاء.
لقد اشتدّت حالة التوتّر السياسي، منذ سنتين، وباتت تسيطر على المشهد السياسي التونسي “حرب استنزاف” الحملة الانتخابية السابقة لمواعيدها القانونية، التي تؤشّر كلها إلى وجود مخاضات ولادة “سوق حزبية” جديدة، وتنبئ بأن البلاد قادمة على عتبة تحول سياسي نوعي يختلف كليا عن المشهد الذي عاشته خلال ثماني السّنوات الماضية. وأهم سبب لهذه التوتّرات والصدامات الظاهرة أحيانا، والضمنية دائما،ناتجة عن التّجاذب بين نموذجين لنظام الحكم؛ تجاذب بين نموذج السلطة المبنية على نظام الحزب الواحد، وبين السلطة التي تقوم على نظام “الديمقراطية التوافقية” بين الأحزاب السياسية التي شكلت الحكومات التونسية منذ عام 2011.
ويبدو أن أحزاب “الدّولة العميقة” قد استوعبت أخيرا هذا الدرس، وعرفت نفسها وعرفت “عدوها”، وبدأت تستجمع قواها وتشكّل تكتلات انتخابية لمواجهة منافسها الرئيسي والأوحد في السّاحة، وهو حزب حركة النهضة بجميع روافده الإسلاموية الأخرى. وبدأت تتشكّل مشهديّة جديدة للسوق الحزبية بالاعتماد على الرّواسب التاريخية التي تلتقي حولها، وعبر تغيير أساليب ألعابها ووسائلها. وهذا الأسلوب في “التجميع” و”الدينامية المطواعة” لقادة هذه الأحزاب، يكشف لنا خصائص بنيتها الداخلية القائمة على العلاقات “الزّبونية” والفكر السياسي البراغماتي والنزعة الغنائمية، فانتقال الأفراد فيها من حزب إلى آخر يقوم على منطق التدبير الواقعي والنفعي اليومي.
لقد بدأت تتشكل سوق حزبية جديدة تقوم على المتاجرة بكل أنواع بضائع الحيل والمكر في المعارك السياسية، وتخفي فصاحة شعاراتها لؤمًا في مقاصدها السياسية الحقيقية. واستبدال التسميات في عناوين عدد من التحالفات الحزبية في ظل الحملة الانتخابية ، مثل التحالف الجديد الذي بدأ يتشكل تحت شعار “العائلة الوسطية” ( الذي تشكلت نواته الأولى بين حزبي “تحيا تونس” و”حزب المبادرة”وسوف تلتحق بهما جميع أحزاب الدولة العميقة بمختلف مسميّاتها، قديمها وجديدها)، فهي ليست إلا شكلا من أشكال التضليل الانتخابي،بحسب المعجمية السياسية؛ فهي عناوين حمالة أوجه من أجل دمغ عقول كل القوى المعارضة لها عبر عديد الأقنعة، لعل أهمها قناع اللغة، ومن أجل إخفاء نواياها الكهنوتية في العودة إلى عقيدة “الحزب الواحد” الذي منع التجارب السّابقة في تونس من الانفتاح على تجربة “التعددية الحزبية”، والتي كانت العقبة الأولى أمام تحررنا من الاستعمار وبناء ديمقراطيتنا، وحوّلت بلادنا إلى “مزرعة استعمارية مهجّنة”.
في ظل نظام الفوضى والسيولة الحزبية في تونس (220 حزبا في بلد لا يفوق عدد سكانه 11 مليونا ، أي بمعدل 20 حزبا لكل مليون ساكن، يفوق مجموع الأحزاب في الاتحاد الأوروبي)، وهي سيولة تعبّر عن عمق الأزمة وغياب الرّشد واستشراء حالة “الأنوميا” والميوعة السياسية في تونس. صحيح أن أغلب هذه الأحزاب قد انقرضت طبيعيا ولم تعد موجودة على السّاحة السياسية منذ الانتخابات البلدية الماضية، وهو ما يدفع بالأحزاب التي تمكنت من المشاركة في هذه الانتخابات ومن المشاركة في “حرب الاستنزاف ” ومن الحفاظ على وجودها خلال السنوات الماضية، وثبّتَت بعض أعمدتها ومؤسّساتها، جهويا ومحليا، فلم يبق أمامها إلا طريقا واحدة يمكن أن تسلكها حتى تلاعب منافسيها في الانتخابات التشريعية القادمة، وهو الخروج من حالة “التذرّر” الحزبي إلى واقع “التجميع”.
فالسوق الحزبية التونسية، وفي ظل “حرب الاستنزاف الانتخابية”، تأسّست ديناميتها على مبادئ سلبية خالصة ( لعلّ أخطرها خيانة الوطن والاستنجاد بالاستعمار)، أي غياب “مبدأ الوطنية” وإلى هيمنة “الشّذوذ” في “الظاهرة الحزبية” والتشوه السياسي في تونس الذي لا نجد له تفسيرا إلا إذا نظرنا إلى أسبابه الكامنة في بنية الشخصية الحزبية العميقة لهذه التكتلات الانتخابية. لذلك، لم يعد أمامها في ظل “نظام الغنائم”(The Spoils System)غير طريق إعادة تشكيل تحالفاتها الانتخابية (السّياحة الحزبية) ولو عبر تأسيس تسويات حزبية جديدة من أجل تعبئة الناس وحشد بعض الرّموز السياسيين الذين تطبّعوا مع ثقافة الانتهازية السّياسية. فالتكتلات الحزبية الجديدة، خاصة من قبل ما تسمى بـ”العائلة الوسطية”(الأحزاب الدستورية والتجمعية والليبرالية)، تتنزل في إطار التخلص من عقدة “الديمقراطية التوافقية” مع “حركة النهضة” التي عطّلت مشاركتها المباشرة في خدمة أسيادها، وفي إعادة مسار تاريخ تونس من أجل العودة إلى نظام ما قبل 2011.
لقد كشفت حرب الاستنزاف “الدونكوشيتية”، خلال ثماني السنوات الماضية، أن الفروق في التوجهات السّياسية بين هذه الأحزاب داخل العائلات الحزبية الواحدة ( الليبرالية واليسارية والقومية والإسلامية) تكاد تكون منعدمة تقريبا، وأن هناك أسبابا أخرى كامنة وراء هذا الصّدع.،وأغلب هذه الأسباب لم تكن سياسية، بل كانت نتيجة نزاعات شخصية، فظهرت واستشرت، خاصة في صفوف التيارات الوطنية والقومية، واكتست بلبوس سياسي. لهذا، ينبغي أن تعيد هذه الأحزاب حساباتها، وفق الحكمة الصينية، وأن تبحث في هذه “المفارقة الغامضة” في العلاقة بين ما تتأسس عليه في مستوى الشكل من هيكلية مؤسساتية وما يوحّدها من برامج وأهداف سياسية، وبين ما تعيشه من حالة “تذرّر” حزبي، ومن تجذّرات لقيم الزّبائنية وتمثلاتها السياسية في الوعي الفردي والجماعي، حتى تحوّلت إلى شرعية واقعية تتحكم في أخلاقية عناصرها، والتي لم يعد هناك ما يبرّرها في ظل تشكلات المشهدية الحزبية الجديدة.
وإنّ إعادة تشكل هذه التكتلات الجديدة “الوسطية” لم تكن من أجل رفع المظالم عن الشعب أو إستعادة سيادة دولته؛ فهي لا تتعدى مستوى السّمسرة السياسية من أجل الاستحواذ على الغنيمة في “بلاد الريع” التي تحول فيها الدين والسياسة إلى بضاعة للمساومة في السوق الحزبية. والتراجيديا الحقيقية في بلادنا لم تكن صراعا بين الحق والباطل، أو بين ما هو صحيح وما هو خطأ، أو هي صراع بين تيارين؛ أحدهما حداثي والآخر تقليدي، بل هو صراع بين تيار الخيانة وتيار الوطنية. وهذا الأمر لا يحتاج إلا إلى قليل من الانتباه والوعي الاستراتيجي الذي من خلاله نميز بين الوطنيين وغير الوطنيين، وتجاوز التعارض المفتعل بين الأحزاب الوطنية من أجل إعادة الأمل في حق الحياة للشباب.
فواقعنا التونسي المنتكس والجامد يحتاج أولاً، إلى عملية ثورية في المنهج والأسلوب كشرط أساسي في إعادة البناء. فكم من تجربة سياسية فشلت نتيجة للانتهازية والتآمر الداخلي المدروس الذي يتم تنفيذه بحنكة بين العملاء والأعداء، سواء في تجارة “الوهم ” بالديمقراطية والإصلاح السياسي وتحقيق التنمية، أو بالاشتراك مع الاعلام في إخفاء الحقائق أو إحالتها إلى “ثقب الذاكرة” الجماعية لهذه الحشود البشرية. وإنّ ما تتعرّض له تونس اليوم ، وفي مختلف السّاحات والمعارك، يحمل من أفعال التآمر والتخاذل والخيانة والفساد أكثر ما يحمله من أفعال البناء والاستقرار والتنمية. والتربة الكولونيالية التي نشأت فيها الأحزاب المشكلة للحكومة التونسية لا يمكن أن تنتج إلا “مجتمعا سياسيا” مشوّها وفاقدًا لأية مناعة نفسية واجتماعية. لقد تحولت البراغماتية الحزبية إلى “مقدّس” ولاهوت سياسي يركض أصحابه وراء سراب استعادة كرامة وطن سقط في الهاوية. وباعتبار أن هذه السوق الحزبية يحكمها قانون العرض والطلب، فهي متحرّرة من روابطها السياسية وأزرها الوطني الثقيل وفاقدة لجذورها الاجتماعية(أحزاب مهجّنة) التي تستمد منها شرعيتها التاريخية..
ومن أهم مظاهر لؤم هذه الحرب الاستنزافية الانتخابية وقذارتها السياسية، ترويض الناس على إيقاعات “الحملات الاعلامية” وأنغام سبر الآراء الانتخابية، ولوحات إشهار “موائد الإفطار الرمضانية”. فهؤلاء البشر المنتكسون نفسيا والمهمشين اجتماعيا، قتلت فيهم هذه الوسائل القذرة والوعود الانتخابية الكاذبة جميع حواس مشاعر الإنسانية، وحواس النظر والبصيرة. وفي ظل سطوة المال السياسي وقصور الذاكرة الجماعية عن حفظ الحقائق المرة التي لا تحصى ولا تعد عن أسباب هذه الانتكاسة، منذ أكثر من نصف قرن، بات هؤلاء الناس معجبون بمهازل الزّمن ونسوا أنفسهم، وأصبحوا منقادين بشكل لاشعوري نحو المقصد الرئيسي لهذه الحرب وهو تجريدهم من إرادتهم وتوجيههم نحو القبلة التي يرضاها هؤلاء السماسرة السياسيين والعودة بهم إلى ما قبل انتخابات عام 2011. وهل يمكن لشعب أن يبني مستقبله في ظروف ليست من صنعه؟ !