هاهي الجزائر وفي ظرفٍ وجيزٍ تخسر اثنين من كبار مبدعيها في مجال الفن، فبعد أيام قليلة من رحيل الفنانة “بيتينا هاينن عياش” هاهو الفنان المُتميِّز “عمار علالوش” يقررُ هو الآخر أن يرحل بعد عمرٍ مديد كرَّسه للفن رسما ونحتا وسعيا من أجل النهوض بالفن التشكيلي في الجزائر، وما من شك في أن هذه الخسارة المزدوجة تجعلنا نحزن ونأسف ولكن ما يجعلنا نتأسى هو أن عمار علالوش كبيتينا عياش لم يرحل إلا بعد أن ترك خلفه إرثا فنيا مشرفا له كفنان ونافعا للساحة الفنية في الجزائر والتي دون شك ستبادر إلى تكريمه في أقرب فرصةٍ ممكنة وياحبذا لو يكون هذا التكريم بإطلاق اسمه على إحدى المؤسسات الثقافية حتى يكون التكريم مطابقا لمسيرة الفنان وما تركه لنا مما أبدعت يداه في مجال التشكيل والنحت.
نعم لقد ترك عمار علالوش إرثا فنيا متنوعا في ثرائه ومزهوا بألوانه وعلينا أن نصونه ونحافظ عليه ، لكن لا يجب أن ننسى أن هذا الفنان كان من بين الفنانين الجزائريين القلائل الذين أدركوا بعمقٍ وأمنوا بحقٍ بالبعد المغاربي في الثقافة الجزائرية، وهذا الإدراك والوعي بالبعد المغاربي والسعي إلى تجسيده ميدانيا هو الأمر الذي أَحْبَبْتُهُ في هذا الفنان الجزائري المثقف الرائع، ولا شك أن دراسة ونشاط وزيارة عمار علالوش للكثير من دول العالم التي تزدهر فيها الحياة الفنية واحتكاكه المُنتِج ، وإطِّلاعه عن كثب على الحياة الفنية في تلك الدول، قد ساعده كثيرا على توسيع مجال الرؤية، والتحرر كإنسانٍ وكفنانٍ من سطوة القرية والجهة والوقوف عيانا على الأبعاد الأوسع للفن كأفكار وكنشاط وكتفاعل متعدد الدوائر ومتجدد الأبعاد والغايات، ومن هنا كان إيمان عمار علالوش بأهمية العمل على لَمِّ شمل الأسرة الفنية التشكيلية على مستوى المنطقة المغاربية ودعوته عبر الصحف سنة 1998 إلى إنشاء ” الفيدرالية المغاربية للفنون التشكيلية ” كأداة لتفعيل نهضتنا الفنية وخدمة مستقبلنا المغاربي الفني الثقافي المشترك، إن أصدقاء الفنان الراحل، والفنانون التشكيليون الجزائريون يقع على عاتقهم تجديد الدعوة إلى تأسيس الفديرالية المغاربية للفنون التشكيلية ليس وفاء للفنان الراحل فقط، ولكن استجابة لحقائق الأشياء ومتطلبات الواقع المشهود الذي يقول بأن الحركة التشكيلية في الجزائر تملك قدرات معتبرة من شأنها أن تساعد على جعل الجزائر إحدى الوجهات اللاَّمعة في مجال الفن التشكيلي، فالجزائر هي أرض الفن والتاريخ كما قال أحد الباحثين الفرنسيين، ويمكنها أن تكون أيضا أرض الفنانين المبدعين ، إذ بالنظر إلى الإمكانيات التاريخية والفنية والطبيعية التي تتوفر عليها بلادنا يمكننا أن نتطلع بكل جدية إلى مكانة لائقة ومحترمة بين الأمم في مجال الفن تشكيلا ونحتا، وهذه مسألة لا تتوقف فقط على سياسة الجهات الوصية ولكن أيضا على الدور الذي ينوي الفنان أن يؤديه في المجتمع و كذلك على مدى قابلية واستعداد الرأي العام للتعامل مع فنانيه واحتضانهم من خلال إبداعاتهم ومعروضاتهم بطبيعة الحال، وليس هذا هو المجال الذي نناقش فيه مَنْ من بين هذه الأطراف الثلاثة يتحمل المسؤولية الأكبر في دفع عجلة الأمور؟ لكن هذا لايمنع من أن نؤكد ونُلح بصورة أساسية على أن يكون الفنان وهو العنصر الأساسي في المعادلة مثقفا بكل ماتعنيه هذه المفردة من شمول وما تتطلبه من جهد متواصل وصراع دائم يُلْزِم به الفنان نفسه من أجل الارتقاء في نهوضه برسالته الفنية،ولكن لامناص من التأكيد مرة أخرى على أنُّه قد حان الوقت ودقت الساعة التي يتوجب فيها العمل من أجل إيجاد أو خلق سوق مزدهر للفنون التشكيلية في الجزائر وما يرتبط بهذه السوق من إجراءات تنظيمية وعوائد مالية ومعنوية لصالح المبدعين ولصالح الثقافة الوطنية والمغاربية ككل.
إن أحد أهم الدروس التي نتعلمها من السيرة المهنية والإبداعية لفناننا الراحل هو حتمية إحداث تحولاتٍ نوعيةٍ في بعض مفاهيمنا ومقولاتنا التي طالما أعدنا مضغها وترديدها، إذ أننا تعودنا عند كل مناسبة أو ذكرى أن نتحدث عن خلوديتها قبل كل شئ ! كأن حديثنا عن خلودها سيمنحها الخلود فعلا وهذا بالتحديد ما يجب تغييره ، ذبك أنَّه عندما تصبح مقولة الخلود وثنا جديدا أو مبررا للجمود فإنه من المحتم تجاوزها، فالخلود الحقيقي ليس جمودا وممارسة لطقوس احتفالية معينة بقدر ماهو صيرورة يتفاعل فيها وبواسطتها الإنسان مع الزمن ومع الآخرين ومع نفسه ليبدع لنا فنا يُعبِّر عن ويجسمُ معاناته وآماله وهواجسه كإنسان يملك القدرة على تمثُّلِ وتصوير معاناة وآلام وتطلعات مجتمعه وأمته من حيث هو جزء منها، وأحد أعضائها الذين يمتازون بخاصية الإحساس والتعبير بصورة لا تتوفر للآخرين فالفن الذي لا يحمل هموم الذات وانشغالات المجموع الإنساني ولا يصور كفاحه – المجموع – من أجل البقاء ومن أجل حياة أحسن هو فن أحرى به أن يندثر ويزول.
والدرس الآخر الذي يمكن استخلاصه من حياة ونشاط الراحل عمار علالوش هو أن على الفنان التشكيلي أن لا يكون ابنا للحاضر فقط بل عليه أن يعرف كيف ينظر إلى الماضي ويتفاعل مع لحظاته المشرقة ومراحله العظيمة ليكون أكثر قوة وحماسا في السيِّر نحو المستقبل، ومن هنا ندركُ ونفهم لماذا كان فناننا ينادي بأهمية تمتين الأواصر بين الفنانين التشكيليين في مختلف الدول المغاربية، وضرورة توحيد جهودهم في فيدرالية مغاربية للفنون التشكيلية، فهو كان يدرك أن الإبداع الفني المغاربي بلغ أوجه في عهد أجدادنا الموحدين الأمجاد الذين جعلوا من المنطقة المغاربية دولة واحدة ومُوَحَدَةٍ، فالفن لايمكنه أن يزدهر إلا في الأمم العظيمة، فوجب إذا وصل الحاضر بالماضي ليكون المستقبل الناجح ممكنا، ولذلك يستحق عمار علالوش أن نقول له ونحن نودعه : ” وفاؤك للبعد المغاربي في الثقافة الجزائرية سيخلد اسمك في ذاكرة الأجيال”.