انتخبه أغلب أعضاء النهضة- رغما – بعدما وجدوا أنفسهم أمام خيارين لا مفرّ من أحدهما،عندما سمح اختلاط الحابل بنابل الساحة السياسية التونسية، ما أتاح فرصة وصول رجل مافيوزي، استعمل ما لديه من أساليب ووسائل خبيثة،تبيّن سريعا أن هدفه رئاسة البلاد، ومزيد ارتهانها إلى الخارج.
وانتخبه عامة شرائح الشعب، قناعة منهم بما صرّح به من مواقف، فحاز أغلبية أصواتهم، وسقط المافيوزي ومن ورائه مشروع التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتجدد أمل التونسيين في تغيير حالهم التي أصبحت تدعو إلى الرّثاء، بعدما وقفوا على فشل وفساد منظومة الحكم البرلمانية، وتردّي الأوضاع الإقتصادية وانتعاشها في المقابل لمصلحة لوبيات الفساد،أمثلة على ذلك قطاع الفوسفات، بإضراباته المتكررة، وقطع خط السكة الحديدية المؤدّية إلى مناجمه، وإخراج القاطرة المخصصة لنقله عن الخدمة، ليُستغل نقل الفوسفات بواسطة شاحنات رجل أعمال برلماني، واستغلال الناقلة الجوّية التونسية لفائدة رجل آخر كان أحد أهمّ أسباب خسارتها الفادحة، فضلا عن قطاعات أخرى استُغِلّت لفائدة أشخاص على حساب البلاد.
وعندما استلم قيس سعيد الرئاسة، وجد نفسه شبه عاجز عن تنفيذ مشروعه الإصلاحي، في ظلّ وجود برلمان متعفّن، وقادر على أن ينقلب عليه، إذا اضطرّ إلى ذلك،خصوصا وأنّ نسبة كبيرة ممن شغلوا مقاعده من الفاسدين، أو من الذين وصلوا بأموالهم، فلم يسعه أن يقدّم شيئا للشعب والبلاد، فاتّجه بواسطة الدستور المليء ثغرات، ليطبّق الفصل 80 منه، فيجمّد البرلمان والعمل بالدستور، ليعلن عن دخول البلاد حالة استثنائية،ليمضي عمليّا في برنامجه الإصلاحي في محاربة الفساد، بعيدا عن تهديدات ومهاترات البرلمان.
هذا الفساد المستشري في كل شيء، ليس مستحدَثا جاءت به أطراف محددة، بل هو قديم قدم النظام الجمهوري، واستقلال البلاد الصّوري، ذلك أن بلادنا بقيت في واقع الأمر تحت سقف حكومة الإستعمار الفرنسي، ملتزمة باتفاقيات سرّية معها، تضمّنت مصلحة فرنسا قبل مصلحة تونس،
مع هذا الإستشراء الشامل، وهيمنة لوبيات وديعة ظاهرا شرسة في حقيقتهافي صورة استهدافها،يحقّ لنا أن نتساءل: هل بقي من أمل للرئيس وحزامه الجماهيري من أمل، في التغلب على هذا الدّاء العظال، وقد بلغ الفساد مبلغه من دواليب البلاد؟
مع أن الأمل الذي يحدو كل وطنيّ غيور على بلاده كبير، في التخلّص من جانب مقدور عليه من المفسدين في الأرض، من أعداء شعوبهم وعملاء الخارج، ممن ربطوا مصالحهم به، وانتسبوا إليه بازدواج جنسياتهم، تحصّنا بالفرار إليه، في صورة انكشاف نشاطاتهم وادوارهم، فإنّ عمق لوبيات الفساد وحيتانه الكبار – كما يقولون – يبقى بعيدا عن السّيطرة، متوارية في أعماق بحار، ليس من السّهل الغوص فيها، من دون إرادة شعبية خارقة، ليس بمقدور تلك الحيتان البشرية فعل شيء للرئيس أو الحكومة، في حال فتح النّار عليها.
الكلام على محاربة الفساد سهل ويسير لكل من وقف عن ذلك الحدّ ولم يكن لديه استعداد لتحمّل تبعات تلك الحرب الشّرسة بطبعها، والفساد إذا نكئت له حبّة أوجعته، وهو في حال من استنفاره لا يؤمن له جانب، وعلى من حاربه أن يكون حذرا منتبها، فطنا لما قد يصدر من ردود أفعال خبيثة، أوّلها بث الإشاعات المضلّلة للشعب، والمشككة لأهداف رئيسه وحكومته في محاربة الفساد، خصوصا أولئك الذين اصطبغوا بمظاهر الدين والصلاح والمال الحلال، بينما أموالهم ومكاسبهم هي منهوبات وحقوق الشعب.
إذا هي حرب يجب على الشعب أن ينخرط فيها، مساندة لحركة الإصلاح التي أعلنها الرئيس قيس سعيد، ودخلها بعد 25/7/2021، مؤمنا بأنه لا خيار آخر له في إصلاح حال الدّولة، التي أُخِذتْ مغنما، لتكون في خدمة فئة من الناس، على حساب مصلحة البلاد، ولا مكان للتّردّد فيها أو النّأي بالنفس عنها، فكل نفس محسوب فيها، وكل نسبة إلى جانب حركة الإصلاح هذه سيكون لها الأثر البالغ في تقوية جانب الرئيس ومشروعه، وللتذكر فإن الثورة الاسلامية الإيرانية لم تحقق انتصارها الكامل واستقرارها الشامل، إلا بحركتها الاصلاحية في محاربة الفساد والقضاء عليه، ولولا ذلك لما نجح النظام في شقّ طريقه نحو التميّز والعالمية.
تأنّي الرئيس في تعييناته، جاءت بعد تجربتين فاشلتن، فرضتا عليه أن لا يقع في خيار جديد،يكون معاكسا لهدفه في محاربة الفساد، لذلك تأخر تعيينه الأخير لمن سيشغل قيادة الحكومة، ليجد ضالته في إمرأة ذات كفاءة، ويبدو أنه أصاب في اختياره هذه المرّة، لتكون خير عون له في تنفيذ إصلاحاته، وما عجز عنه الرّجال في حسن إدارة البلاد، قد لا يُعْجِز إمرأة، من المحتمل أن تكون أفضل في وظيفتها وأدائها.
هذا التّعيين أسقط ما في أيدي نواب البرلمان، الذين استوحشوا مقاعدهم ومصالحهم وتحالفاتهم، وحنينهم إلى قبّة ذلك المجلس لا يوازيه حنين رضيع فقد أمّه، لذلك نراهم اليوم حيارى، لا يدرون ما يفعلون، وأي طريق يسلكون؟ ومن ورائهم أنصار لم يستوعبوا أن تجربة عشر سنوات من الحكم الفاشلة مرّت على البلاد عجافا، بتحالفاتها ومحاصصاتها دون مراعاة مصلحة الشعب الذي اعياه انتظار فرج قد يأتي من هؤلاء الذين اجتمعوا على تغليب مصالح أحزابهم ومصالحهم على مصلحة بلادهم، فتملكه اليأس وكره البرلمان ومجلسه وجلساته، والحكومة ووزاراتها وأداءها الفاشل، وكان قرار الرئيس قيس نابعا من تطلّعاتهم في تغيير الوضع، من السلبية والفشل، إلى حالة من الإيجاب والأمل بالنجاح.
جبهة معارضة الرئيس قيس سعيد بدأت تتألف من عناصر متطرّفة قبل أن يتّخذ أي إجراء، تذكّروا كيف كان يكال له من السباب والشتائم والإهانات من تحت قبة المجلس فما دونه من فضاءات التواصل الاجتماعي، وبألسنة حِداد لم تراعي شيئا من أدب الأخلاق، وهؤلاء الذين انخرطوا في التحريض عليه بالتجرؤ على إهانته محسوبين على حركة النهضة وائتلاف الكرامة، حماقات اجتمعت لتعطي دليلا غير قابل للشك بأنّ هؤلاء قد اظهروا شرّهم قبل أن يقوم الرئيس بشيء، وكان لزاما على الرئيس أن يقرر بعد مشاورات، أن ينهي عشر سنوات من السّلبيّة في المشهد السياسي التونسي.
هو مطلب شعبي بالأساس، وعلى هذا الشعب أن يعبّر عن موقفه من اجراءات الرئيس قيس سعيد غدا الأحد 3/10/2021 ، وعندها فقد ستكون رسالة منه إلى الطرفين، الطرف المعارض وأنّ ما استصرخه من انصار يعتبرون قلّة وعليهم الخضوع للأمر الواقع، والطرف الحاكم ممثلا في الرئيس، بأن حزامه الشعبي كبير جدّا، وسيكبر كلما قطع يد فساد في البلاد، فعلى المناصرين للإجراءات الاستثنائية أن ينزلوا إلى الشارع، تأييدا لقيس سعيد وهذا واجب وطني، غدا سيكون الفيصل بين الطرفين،ليعرف المتقوّلون بالوطنية أنهم أبعد ما يكونون عنها، وموقف سيكون له اثر عميق في محاربة لوبيات الفساد، واقناع من لم يقتنع وعاش من عرف وطنيّته.