أعتقد جازما أن ما يجري على غزّة هذه الأيام من عدوان، تقترفه الآلة العسكرية الصهيونية بدعم من أمريكا والدول الغربية، تنطبق عليها المواثيق والقوانين الدّولية، بأنها جرائم إبادة جماعية للفلسطينيين، في القطاع المحاصر منذ سنة 2007، تشاهدها دول العالم وشعوبها، ولا يتحرك من أجل إيقاف هذه الجرائم البشعة، سوى القليل من الذين لم يتخلّوا يوما عن إنسانيتهم، ولم يساندوا ظالما على ظلمه، مهما كانت الدوافع والمغريات.
أمام هذا التجاهل المقيت، والتعامي البغيض على جرائم بشعة بكلّ المقاييس، يقف كل حرّ ليعبر عن رفضه للسياسة العالمية الفاشلة، التي لم تقوى على إحقاق حق وإبطال باطل، وهؤلاء الأحرار ليس في أيديهم فعل شيء، سوى التظاهر تعبيرا على رفضهم للعدوان الوحشي على قطاع غزة، فما تقاعست عنه الحكومات، بإمكان الشعوب أن تفرضه بأسلوبها، في زخم التظاهر المليوني في مدن وعواصم الدول، هذا الضغط الجماهيري كان له دور مُعْتَبر، في إجبار الكيان الصهيوني على التراجع عن اعتداءاته السابقة، أما الحكومات العربية فقد بقي أسلوبها في التعاطي مع ما يحدث في فلسطين غير مجد على مدى تاريخ تعابيرها السلبية.
وتستمر هذه الحكومات في نفس سياقها التعبيري السلبي، دون أن تغير في شيء من مواقفها، ملتزمة بالمسار التفاوضي الوهمي، ماسكة بخيط أمل واه في حل القضية الفلسطينية عن طريقهٍ، وقد جاءت اليوم على ألسن ممثليها في الأمم المتحدة، متراوحة بين الشجب والإستنكار لما حدث، فبينما حافظت معظم دول أمريكا اللاتينية على سياساتها المساندة للفلسطينيين، باعتبار أن قضيتهم عادلة، معتبرة أن ما يجري عليهم في غزة منذ عشرين يوما، يندرج في اطار مخطّط شيطاني يهدف إلى اخلاء غزة تماما من أهلها، كمقدّمة لإنهاء أي تواجد فلسطيني في كامل فلسطين، ولا يهمّ ما سيسفر عليه العدوان بالقصف الجويّ من ضحايا، وهو ما هزّ المشاعر الإنسانية في جميع شعوب العالم تقريبا، فقامت مظاهرات في مختلف مدنها، منددة بالمجازر مطالبة بوقفها…..
بل إن وزير الخارجية الكولومبي، (ألفارو ليفا)، طلب من السفير الإسرائيلي في (بوغوتا) الاعتذار والمغادرة، بعد رد الجانب الإسرائيلي على تصريحات الرئيس الرئيس الكولمبي (غوستافو بيترو) التي تناول فيها الحرب بين إسرائيل وحماس، ووصف (ليفا) على حسابه على منصة “إكس” تصريحات السفير (غالي داغان) ردا على (بيترو)، بأنها وقاحة مجنونة. وكان الرئيس الكولومبي شبّه الهجمات الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة باضطهاد النازيين لليهود خلال الحرب العالمية الثانية.(1) فهل أغلقت مصر والأردن سفارة الكيان الصهيوني في عاصمتي البلدين؟ وهو أقل موقف يجب أن تقوم به كلتا الدولتين، قطعا لهذه العلاقة البغيضة، تذكرنا دوما بالوقف الخياني الذي قام به السادات ومن بعده ملك الأردن حسين، وبقاؤهما إلى اليوم وصمتا عار على جبين مصر والأردن.
قد لا يلام الصهاينة وحلفاؤهم على وصف حماس وحركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية بالإرهابية، فهؤلاء أعداء لكل مقاوم يسعى إلى تحرير أرضه، إنّما يقع اللوم على دولة الإمارات، لتطبيعها مع الكيان الصهيوني، وتعبير وزيرة التعاون الدولي بوصفها مقاومة حماس للصهاينة محتلي أرضها بالجرائم. (2)
يبدو أنّ الدول العربية التي دخلت نفق التطبيع المظلم طائعة بمحض اختيارها – فلا يوجد إكراه هنا- على أنّه سبيل ازدهار ونجاح وقوّة تقتضيها المرحلة القادمة، من المشروع الأمريكي في المنطقة العربية، من هيمنة الكيان الصهيوني على المنطقة، وتأييد لأنظمة أبت أن تتأيّد جماهيريا، وتوطّد علاقاتها مع شعوبها لصالحها، أوقع بعضها اليوم، إن لم نقل كلّها، في أزمة سوء تقدير ما قاموا به، فطوفان الأقصى قد قلب جميع المعادلات الإستراتيجية العسكرية، كاشفا زيف القوة الصهيونية، وبهتان مقالة الجيش الذي لا يقهر، فما قام به عدد محدود من المقاومين دفاعا عن المقدّسات، فاجأ الكيان الصهيوني أوّلا، وأذهل العالم ثانيا، وبرهن بالدّليل أنه لا حلّ للقضية الفلسطينية، ولكي يستعيد الشعب الفلسطيني كامل حقوقه على أرضه، دون مواجهة عسكرية مصيرية.
تصويت تونس أو امتناعها عن التصويت على مشروع القرار، الذي تقدمت به الأردن لدى الجمعية العمومية للأمم المتحدة، باسم المجموعة العربية، بشأن هدنة إنسانية، لن يقدّم شيئا للفلسطينيين، وعلى حكومات العرب أن تخجل من أنفسها، وهي عاجزة أن تفعل شيئا مفيدا، أمام المذابح التي تحصل كل يوم في القطاع المحاصر والمظلوم، لذلك فان مندوب تونس لدى الأمم المتحدة قد صرح بعد امتناعه عن التصويت: (إن مشروع القرار يدعو إلى تسهيل دخول المساعدات الإنسانية ومنع التهجير، غير أنه أغفل الإدانة الصريحة والقوية لجرائم الحرب، وجرائم الإبادة الجماعية التي تقوم بها قوات الاحتلال، كما لم يتضمن المطالبة بمحاسبة المحتل على هذه الجرائم، ولم يشر بشكل واضح إلى المطالبة بالوقف الفوري للعدوان، علاوة على مساواته بين الضحية والجلاد)(3)
إنّ المطلوب اليوم بعد وضوح رؤية المواقف المعادية لحق الشعب الفلسطيني في المقاومة، من أجل استعادة حقوقه كاملة على أرضه، أن تأتي نجدته الفعلية، وهو في محنته الكبرى بقطاع غزة من أشقائه من الدول العربية والإسلامية، فلا يُتْرَك وحده يصارع جبروت الصهيونية وأنصارها من دول الغرب، المتآمرين على ديننا وأمننا وأراضينا ومقدراتنا، فلا مصداقية بعد اليوم لدول الغرب، بعدما كشرت عن أنياب حقدها، ولقد كان من باب أولى اعتبارها دولا معادية منذ أن احتلت بلداننا وقتلت أجدادنا، واللوم كل اللوم على حكام رضوا بالدون وقبلوا بالذل، بأن يكونوا حراس مصالح دول الغرب الإستعمارية، التي لم تستحي من جرائمها السابقة، فإذا هي اليوم تصطفّ إلى جانب ربيبتها الصهيونية المجرمة، ليس بحق الفلسطينيين وحدهم، بل بحق شعوبنا العربية والإسلامية، التي لحقها من لظى اجرامها ما لحقها.
حركة شعوبنا يجب أن تأخذ منحى ثوريا حقيقيا، في تعابيرها ومواقفها وبزخم كبير لا يجب أن يتخلف عنه أحد، حتى تكون القرارات النابعة من الحكومات قرارات شعبية 100%، لقد انتهى زمن الغرب الإستعماري، ليظهر بثوبه الصهيوني، فهل تتوب حكوماتنا عن سيرة التبعية والعمالة؟ أم سيكون مواقف الجماهير الثائرة على أوضاعها حاسمة، فتكنس العار من أهرام سلطاتها؟ الأيام القادمة حبلى بالمتغيرات، وغدنا نرنو إليه بأعين متفائلة بأنه سيكون الأفضل.
المراجع
1 – داعية الى وقف إطلاق نار فوري.. الإمارات: جرائم حماس لا تبرر العقاب الجماعي لسكان غزة
https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2023/10/24/uae-gaza-unsec
2 – كولومبيا تطرد السفير الإسرائيلي بسبب غزة
https://www.hespress.com/-1250022.html
3 – تونس تفسر سبب امتناعها عن التصويت لصالح مشروع القرار العربي للهدنة في غزة
https://arabic.rt.com/world/1507625