على خلفية العدوان الهمجي الإسرائيلي, والمجازر التي ارتكبتها قوات الإحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة, وإعلانها جملة أهداف على رأسها تصفية حماس وقادتها, وإنهاء “التهديد” من غزة, تتزايد مشاعر الغضب والإستهجان والكراهية لإسرائيل حول العالم.. وفي هذا السياق, تحرك الشارع التركي, لإستنكار وإدانة العدوان, وفي ذات الوقت, لإعلان التضامن الشعبي التركي مع الغزيين والقضية الفلسطينية بشكلٍ عام, كذلك صدرعن الرئيس التركي ووزراء حكومته عديد المواقف والتصريحات التي تنسجم مع الموقف الشعبي في تركيا, لكنها قفزت فوق الأفعال الحاسمة لتكتفي بالأقوال.
من المعروف أن العلاقات التركية الإسرائيلية تعود إلى عام 1949, واعتراف تركيا “بدولة” الكيان الإسرائيلي, وإقامة العلاقات الدبلوماسية الرسمية معه, ومع ذلك, شهدت هذه العلاقات, موجات من التقارب والتباعد, لكن تركيا كانت دائماً حريصة على استمرارها وتطويرها, وبناء أفضل العلاقات الإستراتيجية العسكرية مع الكيان الإسرائيلي, وأظهرت إهتماماً خاصاً به وبما يفوق اهتمامها وعلاقاتها بالعالمين العربي والإسلامي.
وما بين التقارب والتباعد, تلازمت علاقاتاتهما, منذ بروز إردوغان على الساحة السياسية وعلى رأس حزب العدالة والتنمية, وشهدت تراجعاً نسبياً، على الرغم من تقاطع مصالحهما الجيوسياسية, وأطماعهما المشتركة, دون أن يمس ذلك جوهر العلاقات بينهما, وهذا لم يمنع أيضاً أن تُسجّل حالة عدم التوافق والإنسجام الشخصي بين إردوغان ونتنياهو, والمنافسة على كسب ثقة الولايات المتحدة لإعتماد أحدهما كوكيل رئيسي لها في منطقة الشرق الأوسط.
ولطالما كانت مواقفهما المتعاكسة من القضية الفلسطينية, سبباً مؤثراً على تراجع العلاقات حتى لو في الشكل فقط, إذ يجد إردوغان نفسه مضطراً لإتخاذ مواقف داعمة ومؤيدة لحركة حماس, تبعاً للإيديولوجيا العثمانية الإسلاموية التي قدم نفسه من خلالها على أنه الداعم الأول للإخوان المسلمين, وقائد العالم الإسلامي, الأمر الذي دفعه دائماً نحو الخداع والمناورة, ولعب الدور المزدوج, مستخدماً أهم أسلحته كالنبرة العالية, ولغة الوعيد والتهديد, وافتعال الضجيج الإعلامي, بدون حصاد وغلّة.
ففي 19/مايو 2021 قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن بنيامين نتنياهو، لم يكن صديقنا ولن يكون أبداً”, وفي 4/نوفمبر المنصرم, قال أيضاً “نتنياهو لم يعد شخصاً يمكننا التحدث معه لقد محوناه وألقيناه”, وخلال لقائه بكتله النيابية في 12/نوفمبر توجه له بالقول “سترحل لا محالة”, وفي 29/نوفمبر, وصفه بـ “جزار غزة”, وسبق وأن وصف إسرائيل مراراً بأنها “دولة إرهابية”, وبأنها ترتكب “جرائم حرب”.
مالذي يخفيه إردوغان في صدره, وهل هي مشاعر الكراهية الشخصية تجاه نتنياهو, أم هي توجسات حزب العدالة والتنمية, أم الدولة التركية بكامها ؟ والتي لم تستطع الزيارة الأخيرة للرئيس الإسرائيلي إلى أنقرةً, إذابة الثلوج بين الرجلين, رغم إعلان نتنياهو قرار استئناف العلاقات الدبلوماسية مع تركيا بشكل كامل.
ووسط المواقف والتصريحات عالية النبرة والسقوف التي أدلى بها إردوغان منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة, سواء عبر المنابر الدولية أو في لقاءاته مع الصحفيين, وبكتلته البرلمانية, ومن مطار أتاتورك خلال “تجمع فلسطين الكبير”, ومع ذلك يبقى من اللافت قيامه بتاريخ 21/أكتوبر, بإرسال الناقلة “سيفوليت” بحمولة مليون برميل من النفط الى ميناء ايلات, لدعم حربها وعدوانها على المقاومة وأهالي غزة” – بحسب وكالة بلومبرج, كذلك إرساله في منتصف أكتوبر, سفينة ضخمة محملة بـ 4500 طن من الخضار والفاكهة, بداعي حاجة إسرائيل لها نتيجة الأضرار التي لحقت بالأراضي الزراعية خلال العدوان على غزة, ياله من طلاق علني غريب, ولا تزال فيه الوسادة دافئة !.
هل يمكن تبرير واستيعاب أقوال وأفعال إردوغان … بإدانة سياسة نتنياهو وقطع العلاقات معه, وإتهامه بإرتكاب “جرائم حرب”, وبوعود بإتخاذ أنقرة كافة الخطوات اللازمة لتقديم نتنياهو إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي بتهمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة, ولإعتبار “إسرائيل دولة إرهابية ملعونة في جميع أنحاء العالم” – بحسب إردوغان, في الوقت الذي لا تملك فيه تركيا فرصة رفع دعوى مباشرة إلى المحكمة الجنائية الدولية, كونها ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية, ولعدم توقيعها أصلاً على نظام روما الأساسي, في الوقت الذي دعا فيه إردوغان مئات واّلاف المحامين الأتراك لمطالبة هذه المحكمة بمقاضاة نتنياهو بتهمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة !.
ويبقى السؤال, لمن يبيع إردوغان أوهامه وأكاذيبه, وهو الذي لم يعترف بعد بما اقترفته بلاده بالإبادة الجماعية للأرمن وغيرهم إبان الإمبراطورية العثمانية, وهل يضمن عدم قيام حلفاء “إسرائيل” برفع دعوة مماثلة ضد تركيا ؟.
كذلك وصفه المتكرر “لإسرائيل” بـ “الدولة الإرهابية”, في الوقت توفر فيه صداقة رئيسيّ المخابرات التركية والموساد الإسرائيلي أفضل علاقات التعاون بين البلدين, في عدة ملفات أهمها عبور ما يقارب من 40% من واردات النفط الأذربيجاني, وتهريب النفط السوري المسروق عبر العراق, ليصل إلى “إسرائيل” عبر تركيا, الأمر الذي يفسر رفض إردوغان دعوة نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي لفرض حصار تجاري واقتصادي على “إسرائيل”، وأقله لحين إيقافها العدوان على قطاع غزة.
كذلك, يبدوان الرجلين متعادلين, من خلال اتهام إردوغان لنتنياهو بالإرهاب, واتهام هذا الأخير لإردوغان بدعم حركة حماس التي يصنفها الكيان بالإرهابية, في وقتٍ سجلا فيه إحتلال فلسطين ما بين الماضي والحاضر, بالإضافة إلى توغلهما الإحتلالي في الدول المجاورة, وبتجاوزهما القانون الدولي, وإرتكابهما جرائم التهجير القسري في سورية والعراق, كما في غزة والضفة الغربية المحتلة, وبدعم وقيادة وحماية التنظيمات الإرهابية كداعش والنصرة والإنفصالية, وتدخلهما السافر خصوصاً في الشؤون السورية, وسعيهما لوضع اليد على الحلول السياسية فيها.
من الواضح أن إردوغان قرأ نهاية استخدام تنظيم الإخوان المسلمين ومحاصرته في المنطقة العربية وغالبية دول العالم, خصوصاً بعد انكشاف وجهه الإرهابي, والهزائم والإنكسارات التي مُني بها في تونس ومصر وسورية وغيرها, كذلك قرأ بعناية التصنيف الإرهابي الدولي والأمريكي وحتى الإسرائيلي, لتنظيم “داعش”, وقرأ تبديل جلود جبهة النصرة أمريكياً وغربياً لأكثر من مرة, والإنتقال نحو التعامل مع أحدث وجوهها, على أنها معارضة مسلحة في سورية, في الوقت الذي ورط إردوغان نفسه بكافة أشكال الإستثمار والتعاون معهما, وبتمويل وتدريب وتسليح عناصرها, وقيادتهم العسكرية على الأراضي السورية.
بالإضافة, لتصنيفهما الجديد اليوم واتهام حماس بأنها “داعش غزة”, وبات إردوغان يخشى الغرب خصوصاً بعد هذه المساواة, وقرأ التحالف الدولي القادم ضدها, ولم تعد سرعة تخليه عن الإخوان المسلمين, واستكماله استمالة غالبية الدول العربية نحوه , وطرد المعارضة السورية, والحد من نشاطهم وتواجدهم السياسي والإعلامي على الأراضي التركية كافياً للحفاظ على نفوذ ومصالح تركيا مع عديد الدول العربية والغربية بما فيها السويد ودول أمريكا اللاتينية, ناهيك عن علاقاته السيئة مع الإتحاد الأوروبي, بفضل نوعية الإسلام السياسي المتطرف الذي يدعمه, ويتكئ على أكتافه للحفاظ على مكانة ودور تركيا في المنطقة والعالم, رغم اتجاهه نحو لعب دور الوسيط في أوروبا والحرب في أوكرانيا من خلال صفقة الحبوب, وفي أفريقيا كالتوسط بين السودان وأثيوبيا, وبلعب دور الوسيط في اّسيا مع حركة طالبان في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي, وبمحاولاته اليوم للعب دور أمني سياسي في غزة في مرحلة ما بعد حماس, هذا يثير الشكوك حول ما يفكر به إردوغان.
أخيراً .. لا يبدو الرئيس التركي مرتاحاً رغم دوره ومشاركته الفعالة في المشروع الصهيو – أمريكي في المنطقة, وبات يرى بوضوح أن نتنياهو لم ولن يكون صديقاً له ولتركيا, وبأن ما يخطط له بالإشتراك مع الولايات المتحدة منذ أمدٍ بعيد, يستهدف في جملة ما يستهدف, الدور والمصالح التركية, وحزب العدالة والتنمية, وزعامة إردوغان, وبأن الموضوع يتعدى المنافسة على كسب الرضا الأمريكي, وبات الأمر جلياً لجهة إخضاعه للتخلي العلني عن حماس, وقبوله بالمنطقة العازلة المزعومة على حدود قطاع غزة, ومدى سوء وخطورة ذلك على تحالفاته ومصداقيته ومستقبله السياسي, ومستقبل حزب العدالة والتنمية , وسيكون ذلك بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير, في ظل تحذير الإستخبارات التركية “إسرائيل” من “عواقب وخيمة” إذا حاولت ملاحقة مسؤولين في حركة حماس خارج الأراضي الفلسطينية بما في ذلك في تركيا.
على الرغم من كون إردوغان ونتنياهو وجهان لعملة إحتلالية توسعية إرهابية واحدة, إلاّ أن إردوغان يعلم أنه المتضرر والمهزوم الأكبر, وبأنه لن ينال الحظوة الأمريكية على حساب نتنياهو أو سواه من الإسرائيليين, ولن تحل تركيا محل الكيان الإسرائيلي.