الثلاثاء , 19 نوفمبر 2024
Breaking News

فرنسا من سياسة الحيف إلى تداعياتها الداخلية…بقلم محمد الرصافي المقداد

مازال الرأي العام العالمي يتابع الإضطرابات الجارية هذه الأيام بفرنسا، وهي تحركات شعبية تبدو مؤطرة، تارة من طرف النقابات التي تلقي بثقلها لانتزاع حقوق الطبقة الشغيلة، وتارة أخرى عفوية، نشأت بسبب حادثة استفزّت الطبقة الفرنسية المسحوقة، جعلتها تأخذ زخمها في الشارع الفرنسي، وفي المقابل، لم تتعامل معها السلطات الفرنسية بمبادئ الجمهورية، التي قامت على اثر ثورة شعبية، أخرجت فرنسا من حقبة سوداء قذرة، إلى فضاء واعد بالحريّة.

ما حصل من تكرار تنمّر الطبقة المسحوقة من الشعب الفرنسي، كشف عن وجه مُعيب لقادة الإيليزيه، سوّدته إجراءات قمعهم المفرطة، وممارستهم العنيفة ضد المحتجين، مع أنّ فرنسا معدودة على رأس الدول الغربيّة، التي تدّعي حماية حقوق الإنسان، ليس في فرنسا وحسب، بل في العالم، كأنّها هي التي صنعته ودوّنت مبادئه الأساسية، فكيف بها اليوم متناقضة مع شعاراتها (حرية أخوّة مساواة)، قامعة بشدّة مظاهرات شعبها المطالبة بالحرية والأخوّة والمساوات الحقيقية؟

قوّة الإضطرابات وشدّتها هذه المرة، دقت ناقوس الخطر على أبواب الإيليزيه، ما دفع الرئيس  الفرنسي ( إيمانويل ماكرون) إلى اختصار مشاركته في قمة أوروبية في بروكسل، والعودة إلى باريس، لترأس اجتماع خلية الأزمة الوزارية، بعد أعمال شغب الليلة الثالثة على التوالي في فرنسا، إثر مقتل مراهق برصاص شرطي، وُجّهت إليه تهمة القتل العمد. (1)

حادثة القتل التي وقعت – وما كان لها أن تقع لولا العنصرية الحاكمة في المجتمع الفرنسي – استغلّتها كبريات نقابات فرنسا، لمشاركة فئات الشعب احتجاجاته تأييدا لمطالبه، واستنكارا وتنديدا لقرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اعتماد المادة 49.3 من الدستور، لإقرار قانون إصلاح نظام التقاعد، والترفيع في سن المتقاعدين من 62 سنة إلى 64 سنة، كاشفا أن هذا القرار جاء على حساب الكادحين، وفي صالح رؤوس الأموال، (ويرى مراقبون، أن هذه الخطوة لن تنهي الجدل بشأن هذا القانون، ولن توقف موجة الاحتجاجات المستمرة منذ يناير/كانون الثاني الماضي) (2)

ويأتي اعتراف وزير الداخلية الفرنسي (جيرالد دارمانين) بتوسع دائرة الإحتجاجات وتمددها في أنحاء فرنسا، كتعبير ضمني على فشل السياسة الداخلية الفرنسية، كما هي حال السياسة الخارجية، فقد ذكر أن القوات الأمنية شنت حملة اعتقالات واسعة، شملت عدّة مئات من المحتجين، في محاولة لكبح جماح وتيرة الاحتجاجات المتصاعدة، ففي الليلة الثالثة – دون احتساب الليالي الأولى- اعتقلت القوات 900، وفي الليلة الرابعة 471 محتج، معللا بأن أعمال العنف سجلت انخفاضا عما كانت عليه أوّل اندلاعها (3).

أزمة حقيقية تمرّ بها فرنسا هذه المرّة، ليست ببعيدة عن الاضطرابات المدنية التي حصلت في جميع أنحاء فرنسا سابقا ( ماي 1968)، استمرت نحو سبعة أسابيع وتخللتها المظاهرات والإضرابات العامة واعتصامات الجامعات والمصانع.(4) وجاءت (اضطرابات فرنسا 2005) وهي موجة من العنف والشغب، امتدت في البونليو الباريسية إلى وسطها، وانتشرت إلى مدن ومناطق فرنسية أخرى، بدءا من ليلة يوم27 أكتوبر 2005 في كليشي سو بوا ، وأعلنت حالة الطوارئ في 8 نوفمبر 2005، وتم تمديدها لمدة ثلاثة أشهر في 16 نوفمبر من نفس السنة، من قبل البرلمان الفرنسي، بلغت خسائر أعمال الشغب، خلال 19 ليلة، 8,700 سيارة محروقة، وعدة مباني عامة و2,700 موقوف( (5)

اضطرابات مترابطة بعضها ببعض، مطالبة بعدالة اجتماعية حقيقية ومساواة حقيقيتين، في ظل تغوّل الرأسمال الفرنسي، ازدادت تنظيما وتكتّلا بظهور حركة السترات الصفراء في أيار/مايو 2018 ، زادت شهرتها وقوّتها بحلول شهر تشرين الثاني/نوفمبر من نفسِ العام، حيثُ تمكنت من إشعال فتيل المظاهرات في فرنسا، خرجت حركة السترات الصفراء في البداية للتنديد بارتفاع أسعار الوقود وكذلك ارتفاع تكاليف المعيشة، ثم امتدت مطالِبها لتشملَ إسقاط الإصلاحات الضريبية التي سنّتها الحُكومة، والتي ترى الحركة أنّها تستنزفُ الطبقتين العاملة والمتوسطة، فيما تُقوّي الطبقة الغنيّة، وقد دعت الحركة منذُ البِداية، إلى تخفيض قيمةِ الضرائب على الوقود، ورفع الحد الأدنى للأجور، ثم تطوّرت الأمور فيما بعد، لتصل إلى حدّ المناداة باستقالة رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون(. (6)

إصلاح نظام التقاعد الذي دعا اليه الرئيس الفرنسي، سيسقط بالتأكيد أمام قوة الإحتجاجات هذه المرّة، والتي اتخذت صبغة عنيفة، نظرا للنقمة الشعبية التي بلغت أوجها، بين الأوساط الشعبية والمتوسطة الفرنسية، ونجحت في إحداث شلل، شمل عدّة قطاعات حيوية، ويبدو أن التحرك السادس من نوعه الذي تشهده فرنسا، سيجبر الرئيس الفرنسي على التراجع في زيادة سن التقاعد عامين، وهو ما سيناضل من أجله الفرنسيون بما يملكون إرادة ورصيد شعبي، حيث لم يعد أمامهم من خيار أمام تعنت الرئيس ماكرون، غير الشارع والحركات النقابية، المتحالفة من أجل إعادة الحكومة الفرنسية إلى رشدها.

وتشارك ثماني نقابات كبيرة في الإضرابات، ما أدّى إلى تعطيل العمل بالمدارس والنقل العام ومصافي النفط، ما أصاب البلاد بشلل طال عدة قطاعات، فقد أُغلقت مدارس، وتم إلغاء 80% من رحلات شركة السكك الحديدية الوطنية، فيما تأثر تزود (توتال إنرجي) و(إيسو-إكسون) (وموبيل) و(بيترونيوس)، بعد أن منعت شحنات المحروقات من الخروج من كل المصافي الفرنسية، وتتوقع النقابات العمالية أن المظاهرات التي تشهدها شوارع باريس، ستكون الأضخم منذ بداية الإحتجاجات.(7)

فرنسا تتآكل من الداخل – والمشاهد المتداولة إعلاميا تغني عن كل تعليق- والسبب المباشر، سياساتها المنحرفة عن حقوق مواطنيها المهنية والإجتماعية، لتبرهن من جديد أن النظام الرأسمالي الغربي، لا يزال يدير دفة الحكم لصالح كتلته، ويواصل سياسة امتهان وسلب الطبقة الكادحة، حقوقها المشروعة في تقاعد عادل، مكافأة لما بذلوه من أعمارهم في خدماتهم التي قدموها، فلا يعقل أن يجازوا عن تلك التضحيات،  بتأخير راحتهم في التقاعد تباعا، سنتبن سنتين من 60 سنة إلى 62 سنة، ليصبح المقترح الماكروني الأخير 64 سنة، فماذا بقي للمتقاعد من الفرنسي من فرصة راحة من عناء مسيرة مهنية طويلة بعد ذلك؟

المراجع

1 – الحكومة الفرنسية تسعى جاهدة لضبط الاضطرابات التي اندلعت في البلاد

 https://www.bbc.com/arabic/articles/cz4ndvgdw4do

2 – هل تتجه فرنسا نحو هزات سياسية واضطرابات اجتماعية بعد تمرير إصلاح نظام التقاعد بـ”القوة”؟

https://www.france24.com/ar/20230317

3 – القبض على مئات المتظاهرين في فرنسا في الليلة الرابعة من الاحتجاجات واعمال شغب في مرسيليا

https://www.bbc.com/arabic/articles/cv2j9jx90j0o

4 – أحداث مايو 1968 في فرنسا

https://ar.wikipedia.org/wiki/

5 – اضطرابات فرنسا 2005

https://ar.wikipedia.org/wiki/

6 – حركة السترات الصفراء

https://ar.wikipedia.org/wiki/

7 – مظاهرات فرنسا: إضرابات في قطاعات حيوية تصيب مظاهر الحياة بالشلل

https://www.bbc.com/arabic/world-6446634

Check Also

الردّ على جرائم الكيان قادم لا محالة…بقلم محمد الرصافي المقداد

لم نعهد على ايران أن تخلف وعدا قطعته على نفسها أيّا كانت قيمته، السياسية أو …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024