يتملّكك العجب وأنت تسمع صلافة الحكومة الفرنسية، وهي تهدد دولا أفريقية بالتدخل في شؤونها الداخلية، ومع ذلك فالشيء من مأتاه لا يُسْتغرب، وفرنسا ما هي إلّا دولة استعمارية، بنت حضارتها وتقدّمها، من خيرات مستعمراتها في أفريقيا، لم تستنكف في سبيل ذلك عن ارتكاب أبشع الجرائم، طوال حقبتها الإستعمارية، ذهب ضحيتها ملايين الأفارقة من الجزائر والسنغال ومالي والنيجر وساحل العاج وبوكينا فاسو والكونغو وتونس والمغرب، وهي إلى اليوم ترى في افريقيا وتحديدا الدول التي كانت تحت قبضتها مغنما، أو حقّا استعماريا تعود ملكيته والتصرف فيه إليها.
فرنسا التي تعتدّ باقتصادها القويّ نهبت من الدول الأفريقية، ولا تزال تقوم بذلك بطرق مختلفة وملتوية، لم تكن لتتبوّا مكانتها العالمية لولا ذلك النّهب المتواصل، سواء خلال فترة استعمارها، أو بعد ذلك بالإعتماد على عملاء لها في تلك الدّول، قدّمتهم لشعوبها على أنهم مناضلين ومثقفين ووطنيين، فظهروا بعد ذلك بثوب عمالة لا غبار عليه، وكتبهم تاريخ الوعي الشعبي ضمن أسوأ خونة في بلدانهم.
أفريقيا التي شاركت في الدفاع عن فرنسا عندما غزاها النازيون، وقدّم الأفارقة عشرات آلاف القتلى، في سبيل تحريرها وكسر شوكة الغزاة، سرعان ما تناسى الفرنسيون التضحيات الأفريقية من أجلهم، وعوض أن يكافئوها بالإنسحاب الحقيقي من بلدانها، أهدوها استعمارا جديدا، مبطّنا بحركات تحرّر زائفة، باستثناء الجزائر على نحو من التجاوز، لأن بلد المليون ونصف شهيد، بقيت فترة تحت نفوذ العسكر.
وفيما تنعم فرنسا وفرنسييها – بالأصالة العائدة إلى الرجل الأوروبي الأبيض العنصري – بخيرات الأفارقة، يعيش في المقابل الأفارقة أوضاعا اقتصادية صعبة، تتهدّدهم الأمراض والأوبئة وتطرق أبواب بلدانهم المجاعات، قد حاصراتهم الديون وتسببت في عجز ميزانيات بلدانهم، مع أنّهم لم يستفيدوا من تلك الديون بشيء، وذهب أغلبها في مجالات بقي أغلبها مجهولا، وبحاجة إلى فتح ملفات وملفّات، للوقوف على أسباب تلك التسريبات الضائعة.
جدير بالذكر أنّ (أغلب الدول الافريقية سقطت في دوامة الاقتراض من المؤسسات الدولية، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي والدائنين من القطاع الخاص، بهدف سد عجز ميزان مدفوعاتها، ارتفع عددها لقرابة 46 دولة خلفت ديوناً عامة بلغت 782 مليار دولار في عام 2020 من أصل 54 دولة، وفقاً لتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) ، الصادر في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، فيما بلغ الدين الكلي العالمي إلى 303 تريليونات دولار بنهاية عام 2021 ، بحسب تقارير معهد التمويل الدولي “IIF”.) (1).
دول الغرب لم تتوقف عند استعمارها القديم، بل ذهبت إلى انتقاء أفضل المتفوقين الأفارقة في امتحانات اختتام الدراسة الثانوية ( البكالوريا)، لتفتح لهم مجال الدراسة في معاهدها العليا خصوصا في البوليتكنيك، وقد كسبت فرنسا قصب السبق في هذا المجال، ليلتحق المئات من الأفارقة كل عام للدراسة الجامعية في جامعاتها، لتستفيد منهم بعد ذلك، في مختلف مجالاتها الصناعية والاقتصادية والعلمية، فتزداد تقدّما ونجاحا، دون أن تستفيد منهم بلدانهم الأصلية.(2)
التهديد الذي اطلقته فرنسا بالتدخل العسكري في النيجر، انتهت مهلته دون أن تحرّك ساكنا، لعل ذلك عائد إلى ردود أفعال الدول المعنية، ودخول الجزائر على الخط، معبّرة على عدم موافقتها على ذلك، وهو ما سيجعل فرنسا واقعة تحت ضغط دول جنوب الصحراء الثلاثة مع الجزائر، بما يعنيه أن الجزائر سوف لن تقف مكتوفة الأيدي، في حال حصول تدخل عسكري فرنسي، وستقوم بدعم ومساندة الدول الأفريقية المستهدفة.
فرنسا ودول الغرب لم يعد لها ما تخسره، بعد افتضاح أدوارها خلال الحقبة الإستعمارية، وسياساتها الإستغلالية الجديدة، في مواصلة نهب الدول الناطقة بلغتيها الفرنسية والإنكليزية، حيث لم يعُدْ لها خيار غير مواصلة نفس سياسة الإحتواء التي تمارسها منذ زمن، لكنّها بعد الإنقلابات التي حصلت ضدّ عملائها في دول جنوب الصحراء، جعلها تطلق صيحة تهديد جوفاء، لا اعتقد أنها ستقدم على تنفيذها، لما لها من نتائج غير محسوبة العواقب، وقد بدأت النيجر مثلا وقف صادراتها إلى فرنسا من اليورانيوم والذهب، في انتظار ما سيقرره المنقلبون على فرنسا من العسكر بشأن علاقاتهم معها، والتي يبدو أن استمرارها على النحو القديم ستتوقف حتما، حيث لم يعد هناك مجال لمواصلة استغلال موارد النيجر الطبيعية بالاتفاقات المبرمة من طرف عملاء الاستعمار وأذنابه في الداخل الأفريقي.
من خلال ما حصل في دول جنوب الصحراء الثلاثة، بإمكاننا القول بأن زمن تحكم دول الغرب الإستعمارية في الدول الأفريقية، أصبح قاب قوسين أو أدنى من الزوال، وليس بمقدور المستغلين إعادة عجلة استغلالهم إلى الوراء، ووضعها من جديد على سكة استباحة الدّول المستهدفة في مواردها الإستراتيجية، افريقيا اليوم تشهد عصرا من التحوّلات المصيرية، والتي تشكلت من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، لتُعلِن عن انتهاء زمن استباحة فرنسا لمقدّرات الشعوب الأفريقية، ودخول الدول الافريقية بثالوثها المتمرّد على فرنسا إلى حلبة صراع استحقاقات وطنية، سيزيد من عدد الدّول المعترضة على السياسة الفرنسية الاستغلالية، ملفّ كفّ الأذي الفرنسي عن تلك الدول انفتح، وليس بمقدور فرنسا غلقه كما يحلو لها، من دون إعطاء الحقوق المغتصبة للشعوب المتضررة.
كعادتها سوف تلجأ فرنسا إلى المكر والحيلة، بدل توعّدها النيجر، وحيلة فرنسا ترتيب انقلاب عسكري مضاد للحركة الإنقلابية هناك، في محاولة لإعادة عملائها الى مواقعهم في السلطة، واحتمال النجاح والفشل متساويان، في ما تملكه فرنسا من أدوات، وأرى أنّها لن تتمكن من إعادة زمنها الجميل الذي كانت تنعم به في جنوب الصحراء، لقد خلُصت فرصة اللهو والعبث هناك، وموارد وخيرات تلك الدول هي حقّ شعوبها المفقّرة، وزمن التهديدات ولّى وانتهى، ووقت المحاسبة قد حان أوانه، وعلى فرنسا أن تفتح سجلّ نعي سلطانها على مستعمراتها، فتعطي كل ذي حق حقه، وتوقف نهائيا سياساتها الإستغلالية لدول عانت منها قديما، ولا تزال تعاني منها إلى الآن.
المصادر
1 – “اقتصاد الديون” .. طريق الدول الى الهاوية يبدأ بقرض
https://www.independentarabia.com/node/444501
2 – التفوق في “البوليتكنيك” بفرنسا يطرح هجرة طلبة مغاربة متميزين إلى الخارج