الدكتور بهيج سكاكيني |
شنت طائرات العدو الصهيوني ومنصات قذائفه الارضية وعلى مدى يومين متتاليين اعنف عدوان على الاراضي السورية مستخدمة صواريخ كروز ارضا وجوا وبكثافة لم يسبق لها مثيل بحجة ضرب مواقع إيرانية في الاراضي السورية. ولقد اسقطت الدفاعات الجوية السورية معظم هذه الصواريخ قبل الوصول الى اهدافها.
بعض المحللين عزو هذا الاعتداء الجديد على سوريا وما تلاه من تصريحات من نتنياهو على انه يدخل ضمن حسابات الجبهة الداخلية الاسرائيلية وإظهار نتنياهو على انه الرجل القوي الذي يؤتمن على الامن القومي الاسرائيلي وهذا ما يريد نتنياهو إيصاله الى الناخب الاسرائيلي مع إقتراب الانتخابات في شهر ابريل القادم.
المؤكد ان العدوان الاخير على الاراضي السورية يدخل ضمن الحسابات السياسية الداخلية الاسرائيلية ولكن الامر له أبعاد اكبر من هذه الحسابات الضيقة والانية ويدل على تغيير علني واضح للاستراتيجية الاسرائيلية فيما يخص سوريا وإيران وحزب الله على وجه التحديد. فبينما في السابق كانت القيادة السياسية والعسكرية والاعلامية تلتزم الصمت وعدم التعليق على الضربات الجوية التي كانت تقوم بها طائرات العدوان الاسرائيلية الا فيما ندر وبشكل مقتضب للغاية وغالبا ما كان نتنياهو يصدر تعليماته الى اعضاء الكابينيت بعدم التعليق او التصريح لوسائل الاعلام حول هذه الضربات, نرى الان ان هذه السياسة قد تغيرت كلية فالتصريحات العلنية والافصاح والتباهي بهذا العدوان الاخير والذي يعد من أكبر الاعتداءات من حيث كثافة الصورايخ التي اطلقت ومدة استمرار العدوان ومن اماكن جغرافية متعددة نقول التصريحات بدأت تنهال من القيادة السياسية والعسكرية دون اي تحفظ او محاولة تغليفها بشيء من السرية او الغموض.
وهذه التصريحات تناقلتها وسائل الاعلام الاسرائيلية والتي ربما ولاول مرة لم يطلب منها التحفظ او عدم تناول الموضوع بشكل مسهب ونقل التصريحات المتعددة بشأنها. وهذا بحد ذاته يدلل على تغيير في نمط التعامل مع الاحداث وأن اسرائيل تفصح وبشكل علني دون مواربة إنخراطها العسكري في سوريا بعد ان فشلت كل محاولات الولايات المتحدة ودول الخليج والمجموعات الارهابية التي جندت من اكثر من 80 دولة من العالم وتم تسليحها بأحدث اللاسلحة الخفيفة والثقيلة وتدريبها على ايدي كفاءات عسكرية ومخابراتية إقليمية ودولية لاسقاط الدولة السورية وتمزيق الوطن السوري. وكان الكيان الصهيوني يعمل على دعم هذه المجموعات الارهابية بالسر والعلانية احيانا وتقديم الخدمات اللوجيستية والعسكرية والطبابة لهم وخاصة في الجنوب السوري وفي الجولان على امل ايجاد شريط امني حدودي كما كان الحال في لبنان وخلق جيش لحد على الحدود مع سوريا.
ويأتي هذا العدوان المكثف وخاصة على جبهة الجولان في الوقت التي طالب فيه الكيان الصهيوني اثناء زيارة مستشار الامن القومي الامريكي بولتون الى اسرائيل ان تقوم الولايات المتحدة بالاعلان عن موافقتها الرسمية بضم الجولان السوري المحتل الى اسرائيل. كما ويأتي هذا العدوان بوجود تحضيرات سورية على الارض في منطقة الجولان بعد ان اخذ القرار السياسي والعسكري بتفعيل هذه الجبهة لاستعادة الجولان المحتل في مرحلة قادمة.
مع ضياع الاحلام التي كانت اسرائيل تتمنى ان يحققها التحالف الدولي تحت قيادة الولايات المتحدة في اسقاط الدولة السورية وتفتيت الوطن السوري الى كانتونات طائفية ومذهبية وعرقية متناحرة فيما بينها, وإعلان الرئيس ترامب عن سحب القوات الامريكية العاملة في سوريا الذي هو بمثابة الاعتراف بالهزيمة وعدم وجود اية نوايا لهذه الادارة وربما ايضا غيرها لارسال الجنود الامريكيين الى المنطقة للقتال على الارض بعد ان تبين لها ان الضربات الجوية لم تؤتي اكلها لم يبقى لاسرائيل سوى الدخول مباشرة وعلانية الحرب مع سوريا تحت ذريعة التواجد الايراني العسكري في سوريا والتي بحسب ادعاءاتها بدأ يشكل خطرا وجوديا على هذا الكيان الغاصب.
اسرائيل تريد الاستفادة من الجو الذي خلقته الولايات المتحدة وبعض الدول الخليجية حول البعبع الايراني وتمدد نفوذها في المنطقة وبث الرعب في دول الخليج لحلب مزيد من الابقار وبيع السلاح المتطور لهم وتأبيد تبعيتهم وإرتباطهم بالولايات المتحدة تحت التهديد والوعيد. وكما قال ترامب ” هذه الانظمة الخليجية لن تصمد اكثر من اسبوعين لولا حمايتنا لهم ولهذا يجب ان يدفعوا لنا ثمن هذه الخدمة” او القول ” ان هذه الدول لديها فائض كبير من الاموال لا يمكنهم صرفها ونحن بحاجة لهذه الاموال” وتصريحات أخرى قريبة من هذا لترامب كثيرة.
واليوم نرى ان الولايات المتحدة التي انسحبت من الاتفاقية التي وقعت بين الدول الكبرى وإيران حول برنامجها النووي تريد ان تحشد اكبر عدد من الدول الاقليمية والدولية في مؤتمر دولي في العاصمة البولندية وارسو هدفه “التصدي” الى ايران وفرض ربما مزيد من العقوبات عليها وعلى الشركات العالمية التي تتعامل مع ايران. والذي يبدو ان هذا المؤتمر سيفشل ولن تجد امريكا الى الاذناب والادوات من الحضور فالاتحاد الاوروبي لن يكون حاضرا كما صرحت مسؤولة السياسة الخارجية السيدة موغريني ولن تحضر الدول الفاعلة الاوروبية مثل المانيا وفرنسا وستتغيب ايضا بعض دول المنطقة التي تعتبر حليفة واداة للولايات المتحدة وهنالك غياب لروسيا والصين وحتى بعض الدول الخليجية منها الكويت وعمان لن تحضر المؤتمر على ما يبدو. ولا نرى ان مثل هذا المؤتمر سيغير من الامر شيئا بالنسبة الى إيران او العقوبات المفروضة عليها من الولايات المتحدة ومن جانب واحد, ولكن اسرائيل تريد الاستفادة من هذا الجوالمشحون والمسموم ضد ايران والذي تترأسه الولايات المتحدة.
في تقديري المتواضع ان اسرائيل بقياداتها السياسية والعسكرية والامنية تعيش في حالة رعب حقيقي من سقوط كل رهناتها على تدمير سوريا آخر معقل وقلعة صامدة في وجه الهجمة الكونية الشرسة على المنطقة. وحالة الرعب تزداد يوما بعد يوم وهي ترى حلف المقاومة يخرج منتصرا في سوريا وتدرك جيدا ابعاد هذا الانتصار على المنطقة وعلى ان الحرب القادمة لن تكون ضد سوريا فقط بل مع محور المقاومة بكل عناصره وإمكانياته. اسرائيل تسعى من خلال عدوانها ان تقول انها لن تقبل الحلول السياسية في سوريا دون الاخذ بعين الاعتبار لمصالحها الامنية وهذا النوع من الحلول لم يعد ممكنا ضمن الوقائع على الارض في سوريا. ربما الاستدلال على هذا يأتي من رفض الوفد العسكري والامني الروسي الذي قام بزيارة الى اسرائيل لمناقشة الاوضاع في سوريا كما جاء في الصحافة الاسرائيلية وقد كان الجو العام لهذا الاجتماع يخيم عليه التوتر. وقد طلب الاسرائيليين من الوفد الروسي تقديم ضمانات بعدم تواجد قوات إيرانيةعلى الاراضي السورية وخاصة بالقرب من الجولان المحتل في إطار الحل السياسي في سوريا. ولكن الوفد الروسي رفض تقديم اية ضمانات او تطمينات للجانب الاسرائيلي بهذا الشأن. ولقد جاء العدوان الاخير بعد ما يقرب من اسبوع فقط على زيارة الوفد الروسي والاجتماع مع الاسرائيليي ربما تعبيرا عن السخط الاسرائيلي.
ما لا يفهمه الاسرائيليين ان روسيا لا تستطيع تقديم اية ضمانات أو ان تلزم نفسها بهذا الشأن لانها ببساطة لا تتعامل مع سوريا كما تتعامل امريكا مع ادواتها وأذنابها في المنطقة بالاضافة الى ان التواجد العسكري لروسيا وإيران وحزب الله على الاراضي السورية جاء بطلب رسمي من القيادة السورية بمعنى ان وجودهم وجود شرعي ومرهون بإرادة القيادة السورية. هذا بالاضافة الى ان روسيا كغيرها من الامم تقر بأن الجولان السوري هي اراضي محتلة من قبل اسرائيل منذ عام 1967 وبالتالي يحق للدولة السورية اتباع كل الوسائل لتحرير هذه الاراضي شاءت اسرائيل ام أبت.
اسرائيل تدرك جيدا ان زمن عربدتها وعهرها السياسي قد انتهى الى جانب اسطورة “الجيش الذي لا يقهر” فالعديد من جنودها فروا بملابسهم الداخلية بعد نزع الزي العسكري عام 2006 في الجنوب اللبناني. والاحداث وتصدي المقاومة الفلسطينية الباسلة في غزة دليل آخر. واسقاط معظم الصواريخ التي تطلق بين الحين والاخر على سوريا والرد السوري على العدوان الجوي منع طائرات العدو من التحليق في الاجواء السورية خوفا من إسقاط طائراته كما حصل سابقا عندما اسقطت الدفاعات الجوية السورية طائرة ف-16 مفخرة الطائرات الامريكية الصنع وذلك قبل ان تتسلم سوريا منظومة س-300 من روسيا. ولقد وصلت سوريا الى الوضع التي بإمكانها ان تضرب العمق الاسرائيلي كرد على الاعتداءات المتكررة وهذا ما يجب ان يفهم من كلام مندوب سوريا الدكتور بشار الجعفري عندما اورد في حديثه مؤخرا في مجلس الامن أن سوريا ستضرب مطار تل ابيب إذا ما لم يجد مجلس الامن طريقة للجم الاعتداءات الاسرائيلية على سوريا. الدكتور الجعفري لا يقول هذه الكلمات هباء أو لمجرد تسجيل موقف فما ينطق به هو ما يقرر في دوائر القيادة السورية. وقد سبق وعلمنا من الاخبار ان القيادة السورية قد اعطت الوحدات الميدانية بالرد المباشر على الاعتداءات الاسرائيلية دون الرجوع الى القيادة بمعنى ان القرار السياسي والعسكري بالرد الفوري قد أخذ.
السؤال المطروح هو هل يستطيع “المجتمع الدولي” ردع اسرائيل عن هذه العربدة المتكررة؟ وهل يستطيع هذا المجتمع الدولي تحمل حربا شاملة في منطقة الشرق الاوسط وانفجار الاوضاع وما قد تسفر عليه إذا ما ادخلت اسلحة نووية؟ اسرائيل قد تسعى الى جر أكبر قوتين نوويتين في العالم الى الصراع وهما روسيا والولايات المتحدة وهي لا تأبه الى اين تصل الاحداث على ما يبدو.