كانت لي محاورة مفيدة البارحة مع العزيز حبيب بوعجيلة في أجواء تداخل هموم الوطن والامة والسياسة والثقافة والدين. مفردة القدس مفردة عجيبة مفجّرة للكيان الذاتي والجمعي. صفع ترامب الجميع بإعلانه القدس عاصمة صهيونية. صفعنا أفرادا وجماعات وصفعنا ذاكرة وتطلّعا إلى المستقبل. كيف كان هذا وكيف بلغنا هذا الحدّ؟
سؤال ضخم ومحيّر ولا ردّ على صفعة كهذه إلا ببركان يصدّع النّفس ويدكّها دكّا علّها تستبين. كلّ ما مضى فيه العرب وكلّ ما اجتهدوا فيه من فكر وتصوّر في السياسة والثقافة والدين وفي هندسة مجتمعاتهم واداراتهم يحتاج مراجعة جذرية كلّية. جليّ أنّ هناك عطالة متمكّنة ومستحكمة ومتجذّرة ولولا هذه العطالة ما كانت كلّ هذه الجرأة على العرب ولما شهدنا كلّ هذا الذلّ وهذا الهوان.
يبدو أنّنا كنّا نهرب كلّ هذه العقود من واقع عربي قبيح بحديث متكرّر عن فلسطين المحتلّة. ما نكتشفه الآن ومن دون بذل جهد كبير أنّنا جميعا محتلّون. لا تُحتلّ أمّة إلا من فرط خصي معنوي رمزي ونحن بهذا الوضع تماما ويزيد غرقنا فيه. المعالجة إذا أمكنت لا تكون إلا بالنّظر في هذا الخصي، أسبابا ووسائلا وتمظهرات. نعم الاسلام هو الحلّ ولكن الاسلام الذي يكون حلا لا يكون مشكلا ولقد تحوّل الإسلام من حلّ إلى مشكل مع كلّ الأسف. المشكل لا يلد إلا مشكلا وهذا ما كان ونراه بالعين المجرّدة.
منذ بدأت نكباتنا حضر خطاب الاسلام شعورا جارفا عميقا بأن الشعوب تتسلّح بمعنوياتها ورمزياتها لتقوى ساعة العسر وتتسلّح بما يضمن صمودها. منذ بداية السبعينيات حضر إسلاميون مبشّرين وكان المنتظر أنّ مجرّد انطلاقهم من رأس مال اسلامي عظيم سيمنحهم زخما لا يقاوم ويمنحهم ناصية مجتمعات تواقة يمضون بها للانقاذ وتصحيح المسارات. المحصّلة مخيّبة لهم ولمن رأى فيهم أمل خلاص. ليس هيّنا أن يصيح الناطق باسم الجيش الصهيوني مردّدا لكثير من مقولات الاسلاميين خلال السنوات الماضية والذين تمّ توظيفهم فيها توظيفا ما حسبنا أنّهم يقبلون به ويستكينون. أدرعي يستشهد بشيخ الوهابية وزعيم الاخوان. هذا ليس أمرا بسيطا ولا هو محض صدفة. كانت تداخلات عجيبة وغريبة واختلاط حابل ونابل قدّمت له اصطفافات الاسلاميين وتحالفاتهم وخيارات لا أعتقد أنّهم استشاروا فيها الحالمين الذي انتصروا لهم كلّ هذه السّنين. نقد الاسلامية نقدا جذريا لا يجامل ولا يرحم أصبح أولوية قصوى.
ذلك أنّ الحلّ يبقى اسلاميا ولكن بهندسة أخرى ومقدّمات أخرى. لمّا كان نصر الله صبيا يلهو بكجّة أو بغيرها كانت الزعامات والقيادات الاسلامية التي نراها اليوم تملأ المساجد وتبني تنظيماتها. لمّا كان عبد الملك الحوثي رضيعا كانت هذه القيادات والزعامات تخطّط لبلوغ الحكم. عندما كان الخميني من المراهقين كانت دعوة الاخوان قائمة بذاتها وتبني قاعدتها بمصر. لماذا كان توفيق بمكان وكانت خيبة بمكان؟ هل السبب مذهبي؟ لا. هو سبب هندسي تصوري. سبب يرتبط بهوية الدين ودوره ورسالته التحرّرية المقاومة.
ليست الاسلامية كما تبلورت عندنا إلا مشروع حكم وبلوغ سلطة. هذا هو الواجب كما تعرّفه: مسك السّلطة وما لا يكون الواجب إلا به فهو واجب. وهكذا ما عاد فصل بين حلال وحرام وبين ما بستقيم وما لا يستقيم. هم استثمروا في سب علماني وحداثي وشيوعي وملحد انتصارا للاسلام ولكن، ومحصّلة، أضرّوا بالاسلام أكثر من الضرر الذي ألحقه كلّ هؤلاء بالاسلام مجتمعين. لا يلتقي اسلام بناتو ولا باستعمار ولا برجعية ولا بصهيونية. كلّها صور وتجليات ظلم والله يأمر بالعدل ويوصي بمقارعة الظالمين.
نعم يجب تجاوز كلّ هذا المسار والتأسيس أو لعلّها استعادة لنموذج أصيل. التأسيس لإسلامية مقاومة لا تساوم ولا تتكتك ولا تستكين. إسلامية قد لا توصل إلى سلطة وسلطان ولكنّها لا تخون الاسلام روحية ومقصدية. لا أربط الانتقال من اسلامية إلى إسلامية بآنتقال من مذهب إلى مذهب. أمّا إذا تبيّن لي أنّ ذلك من الشرط الحيوي الأكيد فإنّني أغيّر مذهبي. بل أزيد وأقول: إذا كان الكفر شرطا لذلك فإنني أصبح من الكافرين. حيث تضمن كرامتك وتحيا عزيزا لا تُصفع ولا تهان فذلك كلّ الايمان وكلّ الدين.