يوم الأربعاء، في 22 أفريل/نيسان الماضي، أعلن الحرس الثوري الإيراني، عن إطلاق إيران بنجاح لأول قمر صناعي، يحمل اسم نور، للأغراض العسكرية، الى مدار حول الأرض. يأتي هذا الإنجاز العلمي العسكري، في ظل عقوبات شرسة تفرضها الولايات المتحدة وحلفاؤها، منذ أربعين عاماً وحتى اليوم، قلّما شهد العالم مثيلاً لها، حيث لم توفر واشنطن وسيلة، الا واستخدمتها من اجل ترويض الاسد الإيراني، ومن ثم الانقضاض عليه في عقر داره، للإطاحة بثورته، مثلما حصل مع محمد مصدق عام 1953، لتجعل الثورة الإيرانية عبرة لكل من يريد ان يسلك طريقها ونهجها، ويخرج من بيت الطاعة الاميركي.
لقد حوصرت إيران سياسياً، واقتصادياً، وتجارباً، ومالياً، وتكنولوجياً، حيث حظر عليها تصدير النفط واستيراده، والعديد من السلع، والتعامل مع المصارف الإيرانية، او استخدام منظومة السويفت، او تبادل الذهب والمعادن الثمينة معها. كما تم أيضاً فرض عقوبات على وكالة الفضاء الإيرانية، وعلى قادة عسكريين، والعديد من الشخصيات الرسمية وغير الرسمية، وتجميد أموالهم، ومنع تبادل التكنولوجيا، وشراء الاسلحة، وتصدير السجاد الإيراني. بالإضافة الى عقوبات طالت شركات بناء السفن والنقل البحري والتجاري، ما حمل شركات عالمية، على التوقف عن التعامل مع إيران. هكذا تخلت شركة رينو للسيارات عن استثماراتها في السوق الإيرانية، تصنيعاً وبيعاً، بالإضافة الى إلغاء صفقة شراء 100 طائرة ايرباص، و80 طائرة بوينغ، مع ما رافق ذلك من خروج شركة جنرال الكتريك وتوتال وسيمنز وغيرها من السوق الإيرانية… ونتيجة للضغوط الاميركية، تم إلغاء الاستثناءات الممنوحة لثماني دول، والتي كانت تقضي بالسماح لها في شراء النفط الإيراني، مع توقف شركات الأدوية ايضاً، ببيع إيران ما تحتاجه من الادوية.
لقد ظنت الولايات المتحدة، أن فرض حظر تصدير النفط الإيراني الذي يشكل عصب الاقتصاد لإيران، سيجبرها على الخضوع. الا ان سياسة الاقتصاد المقاوم، التي سارت عليها طهران منذ انتصار ثورتها، حملتها على ان تعتمد لأول مرة موازنة مالية، للعام المالي – الذي يبدأ في 21 آذار 2020 وينتهي في 21 آذار 2021, لا تلحظ فيها عائدات النفط. علماً ان رغم العقوبات فإن الديون الخارجية لإيران لا تتجاوز 9 مليارات دولار، بمعزل عن الودائع الإيرانية المجمّدة في الخارج والتي تبلغ عشرات المليارات.
حصار إيران والعقوبات المفروضة عليها، تجري في ظل تجييش إعلامي مغرض ضدها، لا ينفك لحظة عن النيل من ثورتها، والعمل على تشويه الحقيقة، وتحريض الشعب على ثورته، وبث الشائعات والنعرات الطائفية والقومية والعرقية في الداخل الإيراني. لكن رغم كل ذلك، كان للثورة قائدها، ولإيران دولتها، وللجمهورية رجالها، آثروا منذ اليوم الاول للثورة على تسطير تاريخ جديد يليق بشعب إيران، يعتمد اول ما يعتمد، على سواعد وعقول وإيمان وارادة الإيرانيين، وعلى ثروات وطاقات بلدهم، وتحديهم لقوى الهيمنة والاستغلال والتسلط، ومقاومتهم لها.
كانت واشنطن وحلفاؤها، تراهن منذ اليوم الاول، على فشل الثورة وسقوطها في يدها. الا ان الثورة استطاعت ان تثبت للعالم كله عن جدارتها وصمودها، وتحقق قفزات كبيرة وإنجازات باهرة في مختلف الميادين العلمية، والبحثية، والتنموية، والزراعية، والعسكرية، والصناعية، وأن تمتلك التكنولوجيا النووية والفضائية والنانوية والعسكرية. دولة تحت الحصار والعقوبات كانت تثير الدهشة لكل من يتابع الملف الإيراني عن قرب وعن كثب، أكان صديقاً ام عدواً، منصفاً او ظالماً.
على مدار ثماني سنوات، أمضيتها كسفير للبنان في طهران، سنحت لي الفرصة، ان أجوب إيران شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، زائراً لكل محافظاتها ومدنها، مطلعاً على مشاريع وإنجازات لم تتوقف على مدار الساعة، والتي تنقل إيران من مكان الى آخر، وفق خطط ومشاريع مرسومة، تنفذ وتدشن في اوقاتها المحددة، دون تباطؤ او تأخير او تقاعس او اهمال… هي العقوبات – يرددها كل مسؤول في مؤسسة إنتاجية كبيرة او مرفق صناعي – التي جعلتنا نعتمد على الله وعلى أنفسنا في بناء بلدنا، وان لا نكون رهينة في يد قوى الاستكبار والاستغلال. أحد المهندسين، وأثناء زيارتي إحدى الترسانات الصناعية الكبيرة، حدثني قائلاً: عدت الى إيران بعد ان تخصصت في أميركا وأمضيت فيها أكثر من خمسة وعشرين عاماً، لأخدم بلدي، رغم أني أتقاضى راتباً اقل مما كنت اتقاضاه في الولايات المتحدة. هذه هي الروح الوطنية العالية التي جعلت الثورة الإيرانية تستمر وتتعزز بهذا النوع من الرجال، وتقوى بهم، ليكون لإيران مكانتها، وهيبتها في منطقتها والعالم.
هي إيران اليوم، ومع جائحة كورونا، تقف مع شعبها، لتقول للعالم كله، لا سيما للدول التي تفرض عليها العقوبات اللاإنسانية المتعلقة بالمواد الطبية، إنها قامت بجهودها الذاتية، بتدشين أول خط إنتاج لأجهزة فحص المناعة المخبريّة ضد فيروس كورونا، تنتجها شركة «بيشتاز طب زمان» الإيرانية القائمة على المعرفة. جهاز يقيّم مدى ردود فعل مناعة الأفراد ضد الفيروس، والقادر على فحص 96 شخصاً في غضون 75 دقيقة. يأتي هذا، في ظل الحظر الأميركي الطبي على إيران، ومنع تقديم المساعدة لها في احتواء الكورونا، اذ ان ترامب كان يرى بأن الحظر بدأ يعطي ثماره، وأنه لن يغير سياسته في هذا الشأن.
إيران التي صمدت، ونمت، وقاومت الحصار والعقوبات، تثبت كل يوم، وبثقة عالية، أنها قادرة على تجاوز الحصار الطبي الاميركي عليها، وأي حصار آخر. لكن بعد الانتهاء من كورونا، سيتبين للعالم كله، من كان صديقاً فعلياً للشعوب في محنتها، ومن كان عدواً لها في اللحظات الإنسانية الحرجة… حيث كشفت كورونا النقاب عن الوجه القبيح البشع، لكل من أراد بسلوكه القذر، ان يعاقب شعوباً حرة، بجبروته وانحطاط أخلاقه، وانعدام إنسانيته. فمع كل حصار جائر ضد إيران، ينبت إبداع جديد، وما القمر الصناعي وغيره الا الدليل الحي على ذلك…
قبل سنة تقريباً، قال ترامب: انتظرونا أشهراً معدودة، وسوف تشاهدون إيران تختنق من العقوبات الإقتصادية!!!! إلا أن مرشد الثورة وقائدها ردّ عليه قائلاً: هذا المسكين، يمني نفسه ورفاقه بالصبر لأشهر معدودة، ليروا ما سيحدث!!! فتذكرت المثل القائل: يرى الجمل في منامه القطن قمحاً، فيقضمه تارة، ويلتهمه تارة أخرى…
إنها إيران بقائدها ودولتها ورجالها تقول للعالم كله: إني هنا، وأنا بالمرصاد.
*وزير خارجية لبنان السابق
(البناء)