كان الدكتور وديع حداد، أحد أبرز قادة الجبهة الشعبيّة لتحرير فِلسطين، ورفيق درب الدكتور جورج حبش زعيم الجبهة، يُؤمِن بنظريّة تقول إنّ الغرب، وإسرائيل بطبيعة الحال، Rational، أيّ يميلون إلى “العقلانيّة” و”المنطقيّة” و”الحِسابات الدّقيقة”، وحتى نهزمهم يجب أن نكون عكسهم، أيّ Irrational، ونُقاتلهم بطريقةٍ “مُناقضة”، وأقرب إلى “الجُنون” و”عدم الواقعيّة”، وليس حسب البرامج “المُعلّبة” و”المنطقيّة”، ولهذا لجَأ وفريقه إلى العديد من الطّرق والوسائل القتاليّة التي لم يحسب حِسابها الغرب، وأبرزها خطف الطّائرات، ومُهاجمة السّفارات، وهي أساليب وصفَها الغرب بـ”الإرهاب” في حينها وشيطَنها وأصحابها، ومارس ضُغوطًا غير عادلة، مُرفقةً بإغراءاتٍ ماليّة على منظّمة التحرير لوقفها، ُملوِّحًا بحلٍّ سلميّ في المُقابل يُؤدّي إلى دولةٍ فِلسطينيّة.
تذكّرت هذه النظريّة وأنا أُتابع المُفاوضات الأمريكيّة الطالبانيّة في الدوحة، وكيف كان مايك بومبيو، وزير خارجيّة الدّولة الأعظم في التّاريخ يَقِف “ذليلًا” جنبًا إلى جنب مع فريق المُجاهدين الأفغان مُمثّلي حركة طالبان، وأحدهم الملا محمد نبي الذي كان أحد المُعتقلين في غوانتانامو، وعلمت أنّه لم يجرؤ حتّى على طلبِ إقصائه من الوفد.
***
حركة طالبان التي يتّهمها الكثير من “المُعتدلين” العرب بالتخلّف، ويصفون قادتها بسكنَة الكُهوف في جبال “هند كوش” و”تورا بورا”، استطاعت أن تكون نِدًّا للأمريكيين على مدى 19 عامًا يُقاومون الاحتِلال بأدواتهم العسكريّة “البدائيّة”، وبنَفسٍ طويل، وإصرارٍ على النّصر مهما كانت التّضحيات، ويبدو أنّهم باتوا على قابِ قوسين أو أدنى منه، بعد أن رضخت الإدارة الأمريكيّة لجميع شُروطهم، وأبرزها عودة حُكم الإمارة الإسلاميّة إلى أفغانستان التي أسقطها الغزو الأمريكي بعد أحداث الحادي عشر مِن أيلول (سبتمبر)، مُقابل انسِحاب آمِن للقوّات الأمريكيّة.
حركة “أنصار الله” الحوثيّة في اليمن قدّمت نموذجًا مُماثلًا، بطريقةٍ أو بأُخرى، واستطاعت، وبعد ما يَقْرُب سِت سنوات من الصّمود في مُواجهة تحالف سعودي إماراتي يملك أحدث ما أنتجته الصّناعة العسكريّة الأمريكيّة والبريطانيّة من طائراتٍ وأسلحة حديثة متطوّرة، وأبرزها طائرات “إف 16″ و”إف 15” أن تُغيّر كُل المُعادلات العسكريّة، وتنقل الصّراع إلى مُدنٍ ومطارات والمُنشآت النفطيّة لخُصومها، وستُحقّق ما حقّقته حركة طالبان حتمًا في نِهاية المطاف، إن لم يَكُن أكثر، فمن كان يتوقّع أن تُشكّل هذه الحركة، التي كان خُصومها يُعايرونها بأنّها تعيش في كهوفِ صعدة، تهديدًا حقيقيًّا لدُول هذا التّحالف الغارِق في الثّراء الفاحِش، وتملك حُكوماته تريليونات الدّولارات في صناديقه السياديّة ويقف العالم الغربيّ وإعلامه في خندقه؟
حالة الانكِسار العربيّ المُهين والمُذل الذي تعيشه المِنطقة العربيّة هذه الأيّام حيثُ تتهافت حُكومات عربيّة على التّطبيع مع دولة الاحتِلال الإسرائيلي، وتُسارع أُخرى على التّرحيب والدّعم والتّأييد لها، رافعةً راية الاستِسلام للغرب وإسرائيل، رأس حِربته في الشرق الأوسط، ربّما تُؤدّي إلى انتصار النّموذجين الطالبانيّ والحوثيّ، وصُعودهما في المِنطقة من وسَط رماد هذا التّطبيع والارتِماء دون مُقابل تحت أقدام الأعداء، وبطَريقةٍ استفزّت الغالبيّة السّاحقة مِن الشّعوب العربيّة.
ومثلما أدّت “اللّاعقلانيّة” الفِلسطينيّة التي انبثقت من بين رُكام هزيمتيّ عام 1948 و1967 إلى إعادة القضيّة الفِلسطينيّة إلى العناوين الرئيسيّة في العالم بأسْرِه، فإنّنا لا نَستبعِد أن تُؤدّي ما يُسمّى باتّفاقات السّلام التي ستُوقّع في البيت الأبيض غدًا الثلاثاء إلى عودة العرب، والفِلسطينيين خاصّةً، أو بعضهم، إلى نظريّة الدكتور حداد، بطريقةٍ أو بأُخرى، آجِلًا أو عاجِلًا.
***
حركة طالبان التي تتفاوض من موقع قوّةٍ في الدوحة، أجبرت القوّة الأمريكيّة العُظمى على الرّضوخ لمطالبها كاملةً، حقّقت هذا “الإنجاز” لأنّها قدّمت مشروعًا بَديلًا للمُواطن الأفغاني والبشتوني حاضِنتها الطبيعيّة، ويُعيد لهم كرامتهم الوطنيّة، ويتصدّى للاحتِلال بمُقاومةٍ شرسة، لأنّ المشروع الأفغاني الآخر الذي يتبنّاه كُل مِن الرئيس أشرف غني وخصمه عبد الله عبد الله، انبثَق مِن رَحِم هذا الاحتِلال، ويتَعارض مع القيم الأفغانيّة الإسلاميّة والوطنيّة، ويعتمد على الحِماية والأموال الأمريكيّة.
الاتّفاقات التي ستُوقّعها الإمارات ومملكة البحرين غدًا الثلاثاء، قد تأتي بنتائج عكسيّة، وتنقلب أخطارًا وجوديّةً، ومرحلةً من عدم الاستِقرار لإسرائيل وحُلفائها الجُدد في المُستقبل المَنظور، ليس لأنّها مجّانيّة فقط، وإنّما لأنّها تَخدِم مصالح أمريكية وإسرائيليّة، وتُحوّلها إلى جبهةِ مُواجهةٍ لإيران وتركيا.
حركة الطالبان انتصرت، لأنّ قِيادتها لا تملك طائرات خاصّة، ولا سيّارات الدّفع الرّباعي الفاخرة جدًّا، ولا تلبس القُمصان وربطات العُنق الحريريّة، وأقولها من تَجربةٍ ميدانيّةً، والشّيء نفسه يُقال عن نظيرتها حركة “أنصار الله” في اليمن، ومِن المُؤكّد أنّ القِيادة الفلسطينيّة القادمة ستسير على الطّريق نفسه بطريقةٍ أو بأُخرى.. فقد طَفَحَ كيل المَهانةِ والإذلال.. والأيّام بيننا.
الوسومعبد الباري عطوان
شاهد أيضاً
عبد الباري عطوان: “لماذا نعتبر الاتّفاق السعودي الإيراني نُقطة تحوّل تاريخيّة في المِنطقة؟ وكيف أصبحت الصين لاعبًا استراتيجيًّا في الخليج على أنقاضِ الضّعف الأمريكيّ وعبر البوّابة السعوديّة؟ وأين كانت الاستِخبارات الإسرائيليّة “العِملاقة”؟ وهل تَرقُد اتّفاقات أبراهام في العناية المُركّزة الآن؟”
الاتّفاق السعودي الإيراني الذي رعَته الصين، وجرى الإعلان عنه أمس، يُشَكّل “تسونامي” استراتيجي يُنبئ بقُرب …