مخطئٌ من يعتقد أن مجرد استقبال وزير خارجية فرنسا، جون إيف لودريان، في الجزائر، أو إعلان باريس عن فتح أرشيفها الخاصّ بتحقيقاتٍ قضائية للدرك والشرطة خلال الثورة التحريرية، قبل 15 عامًا من انقضاء المهلة القانونية للسريّة، يمكن أن يكون مؤشّرا على نهاية التوتّر بين البلدين، فضلا عن أن يكون صفحة جديدة من العلاقات الثنائية.
الأزمة بين فرنسا والجزائر تاريخية وأخلاقيّة وإنسانية وسياسية، ولا يمكن تجاوزُها فقط بشعارات “التطلّع إلى المستقبل”، طالما لم يتخلّص الفرنسيون من العقدة الاستعماريّة التي تلاحقهم منذ عهد نابليون بونابرت.
لقد صدق سودير هزاريسنغ، أستاذُ العلوم السياسية في كلية بيليول بجامعة أوكسفورد، حين شخّص في كتابه “كيف يفكّر الفرنسيون” منطق تفكيرهم وخلفياته تجاه الآخرين، خاصة نحو ما يُسمى النطاق “العالم–ثالثي”، منتقدا بشدّة ازدواجية معايير فرنسا، وعجزها المزمن عن رؤية الآخر خارج الانعكاس لذاتها، ونزعاتها الاستعلائية الاستعمارية.
انطلاقا من ذلك، فإنَّه لا يمكن أبدا أن نراهن على توبة الفرنسيين وتحرُّرهم من عقدة الوصاية وسلوك الغدر، وعلى الجزائريين مواصلة مسارهم الجديد بإنهاء النفوذ الفرنسي في كل المجالات، خاصة الثقافية والاقتصادية منها، وتعزيز الانفتاح الخارجي نحو آفاقٍ أرحب وأكثر براغماتية، ضمن تنويع محاور الشُّركاء الإقليميين والدوليّين.
ما صدر عن إيمانويل ماكرون، مؤخرا، بخصوص نكران الأمة الجزائرية والتدخل السافر في الشأن السياسي لبلادنا، ليس هفوة رئيس عابر بقصر الإليزي، كنا نظنّ فيه الطيبة وصدق الإرادة، بل هو تعبيرٌ واقعي عن رؤية مستحكمة في العقل الفرنسي تجاه الجزائر.
وما تذرّع به من قبل نيكولا ساركوزي بشأن “استحالة اعتذار الأبناء عن أخطاء الآباء” ليس موقفا مرحليّا لتيار يميني، بل هو كذلك عقيدة فرنسية تتوارثها الأجيال المشحونة بعقدة الهزيمة الاستعمارية أمام دول التحرر في إفريقيا عمومًا، وعلى رأسها الجزائر التي تبقى غصّة تاريخية في حلق الفرنسيين.
وحتّى عندما يحاول هؤلاء المناورة بالتقدُّم على طريق مصالحة الذاكرة، فإنَّ خطواتهم تأتي عرجاء ومفضوحة الخداع على قدر نيَّاتهم الكاذبة، بدليل أنهم يراهنون على مرور الزمن منذ أعوام، عبر اعترافات جزئية خجولة وبالتقطير، بممارسة الانتقائية المحسوبة بدقّة، دون الجرأة على قول الحقيقة الكاملة كما هي، ناهيك عن مواجهة آثارها.
وآخر مناورات فرنسا الخبيثة التشهير بورقة الأرشيف القضائي لتحقيقات الثورة التحريرية لإحراج الجزائريين “من أجل تحقيق أغراض تخدم المستعمِرة السابقة، ولا تخدم المصلحة الوطنية الجزائرية”، على حدّ قول المؤرخ محمد الأمين بلغيث.
وإذا كان على الفرنسيين الماكرين الإدراكُ الجازم أنّ فتح الأرشيف لا يخيف شعب الثوّار في شيء، فإنّ المطلوب منهم هو إرجاع كل ما سرقوه من الأرشيف الجزائري وما يُصنَّف ضمن التراث المادي، بصفتهم لصوص القرن العشرين طيلة 132 سنة.
إنّ حديث لودريان عن عمق الروابط بين الجزائر وفرنسا وتميُّز علاقاتهما الإنسانية وكثافتها كذريعة لرفع العوائق وحالات سوء الفهم بين البلدين، يبقى إقرارا منقوصًا يحاول القفز على جراح الماضي وإرادة الهيمنة في الحاضر.
لذلك لا يمكن اختزالُ مسعى التهدئة المطلوبة في “استئناف بعض محاور التعاون الثنائي، بخصوص المسائل البشرية والهجرة ومكافحة الإرهاب”، وفق إعلان لودريان، لأنها من طبيعة العلاقات العادية الثنائية، بل الأصل أن تتوجه الخطوات إلى معالجة القضايا العالقة، وهو ما لم نسمع بشأنه أي جديد، وليس متوقعًا حدوث ذلك إلا بفرْضه جزائريّا.
لسنا نطالب بقطع “العلاقات الإجبارية” مع باريس، لأنّ منطق المصالح المشتركة تفرض الحد الأدنى من التواصل والتعاون بين الجانبين، على قاعدة “رابح- رابح”، بل إرادة الجزائر، دولة وشعبًا، هي فقط بناء علاقات نديّة، تقوم على الاحترام الكامل، وتنتفي فيها الامتيازات غير المشروعة لشريك استعلائي يريد الزبدة وثمنَها، على حساب التاريخ ودماء الشهداء وحتّى حاضر الهويّة الجزائريّة.
لذا، فإنه لا مفرّ للجزائر من إنهاء التفضيل الاقتصادي الفرنسي الذي تحوّل إلى مستوى الاحتكار، بمعاملة كافة شركائها الأجانب على قدم المساواة، وفق قواعد براغماتية شفافة لا تخضع سوى لمقتضيات المصلحة الوطنية العليا.
وإذا كان الموقف واضحًا ولا يحتاج إلى تذكير أحد بأن الجزائريين متمسكون بإلزاميّة انصياع فرنسا للاعتراف بجرائمها والاعتذار، ولمَ لا حتى التعويض عنها، فإنّ تكريس الاستقلال الحضاري بتعميم اللغة العربيّة في كافة مرافق الدولة، فضلا عن احتلالها الفضاء العامّ، وتجاوز الفرنسية، بصفتها لغة أجنبية أولى في التعليم الجزائري، مسألة سياديّة لا تراجع عنها في كل الأحوال.