تدور في هذه الأثناء أحداث جلسة عامة لبرلمان تونس عنوانها “مساءلة رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي”، ومحورها حوار حول السياسة الخارجية التونسية والتدخل الأجنبي في الشأن الليبي.
وبصرف النظر عمّا في تدخلات النواب التي كانت في عمومها وفية لمرجعياتها وخلفياتها الحزبية والأيديولوجية، من مضامين،، وعن مدى تطابق أو تنافر وجهات النظر في برلمان شديد الانقسام والتنوع على نحو عسّر كثيرا تفاصيل المشهد السياسي التونسي… فإنه لا حاجة إلى القول بأن القضية الليبية عنوان رئيسي للاستقطاب الحزبي والأيديولوجي في تونس هذه الأيام، فهي حاضرة وبامتياز في الاعلام كما في مؤسسات القرار وفي الشارع.. خصوصا وأن السياسة التونسية إزاء ليبيا، بل السياسة الخارجية بشكل عام، قد أصبحت مجال تجاذب وصراع داخليين قد لا يتسع المجال لتحليل تعقيداتها وخفاياها..
ومع يقيننا بأن الحلّ الليبي لن يأتي من مناقشة أو مساءلة برلمانية يشهدها برلمان تونس أو غيرها من دول الجوار.. وأن مآل الصراع في ليبيا غير مرتبط بنتيجة اشتباك سياسي وحزبي وعقائدي بين مكونات وعائلات سياسية وفكرية -هو في تقديري وحسب فهمي المتواضع- صراع ضارب في القِدَم، وانقسام جوهري لا يستثني قضية من قضايا الأمة مهما كانت جامعة أو واضحة أو عادلة..
مع هذا كلّه،، فإنه لا مناص حسب رأيي من تسجيل نقاط أوّلية منها ما يتعلق بالشكل ومنها ما يهمّ المضمون..
لا بدّ أن نسجّل أولا أن المعركة التي تشهدها قبة برلمان تونس في هذه الأثناء معركة كلامية سياسية حوارية، قد تمتد لساعات، ترتفع فيها الأصوات.. وتبحّ الحناجر.. وتنتفخ الأوداج.. وتحتقن النفوس بالغضب والحقد والعناد، وبكل ما نعرف وما لا نعرف من انفعالات..
لكن المؤكد أن الجميع سيعودون إلى بيوتهم بعد الجلسة منتشين للعرض الذي قدّموه أمام الشاشات العربية التي تنتظر بشغف حدثا فُرجويّا لا يمكن أن تحلم بمثله في بعض بلدانها.. سيعود هؤلاء النواب آمنين، مطمئنين، وسيجدون عوائلهم بانتظارهم آمنين أيضا.. فلن يُختطف منهم أحدٌ.. من اليسار ولا اليمين.. ولن يُعتقل أحدٌ من المعارضة أو الموالاة.. ولن يختفي أحد.. ولن تختفي إحدى النائبات أو يُختطف ابن أحد النواب أو يُغيّب أو تُبتر أطرافه أو يوضع رأسه في كيس أمام بيت النائب أو النائبة من أجل موقف أو رأي سياسي..
ما يجري في مبنى البرلمان التونسي في هذه الأثناء، حوار ونقاش وليس اقتتالا، مهما احتدم أو علاَ أو اشتد.. وهو خاضع للقوانين والقواعد والترتيبات والنصوص..
إن الشأن الليبي في تونس مهمّ وخطير..والأطراف التونسية بل والمؤسسات والسلطات ليست متفقة حول تقديره.. ولا في تقييمه.. ولا في طريقة التعاطي معه.. لكنه يظل نقاشا وليس اقتتالا.. وتظل تونس رقما غير مؤثر في معادلة صنع الأحداث على الساحة الليبية، ولن تتعدى في تقديري مرتبة المتضرر الذي يحاول تفادي الأسوأ ويلتمس الطريق نحو النجاة من تأثيرات قد يعجز البلد الضعيف عن تحمّلها في ذروة المعاناة الاقتصادية والمالية والتململ الاجتماعي الذي لا يعني النخبة المتصارعة اليوم حول الشأن الليبي في شيء تقريبا..
خلاف النواب التونسيين.. والسياسيين.. والنخبة.. ربما يكون حول رفض اصطفاف حكومتهم أو تخندُقها مع أي طرف من أطراف الصراع.. وهم يعلمون حقّ العلم أن هذا الأمر واقع بحكم الأمر الواقع.. وبحكم طول أمد الصراع.. وبحكم تشابكه وتعدّد المتدخّلين وسطوة الأطراف الداعمة من هنا وهناك.. لكنهم غير مختلفين حول ضرورة أن يكون الحل ليبيا.. وحول أن يكون السلام هدفا.. والوطن الليبي جامعا..
لذلك، أعتقد أنه علينا أن نذهب إلى العمق.. وأن نحاول الاستفادة من الذي نراه بدل الغرق في منطق الاصطفاف وحمى التجاذب التي تعني الحوار عندهم، وتعني الاقتتال عندنا.. فالمحاور ليست بالأمر المستجد.. والصراع الأيديولوجي ليس بالظاهرة التي نشأت مع نشأة البرلمان التونس الحالي، بل سبقته بعقود بعيدة هي عمر الجامعة التونسية، وبحجم مساحة التنوع الفكري ورياح الاستقطاب العابرة للحدود..
فما هي الدروس المستفادة من الذي نراه؟
علينا أولا أن نقتنع بالحلّ السلمي.. وبحق الجميع في بلدهم وبحقهم في تقدير مصلحة الوطن في إطار السلمية وتحت سلطة القانون.. لأن الذي ستنكر عليه حقه في بلده سيحاربك بالتأكيد، والذي تريد أن تلغيه سوف يسعى إلى إلغائك أو ينغّص عليك حياتك ببلدك ويمنعك من التنمية والتطوير والبناء ويعرقل كل شيء حتى تفشل سياسيا وتسقط شعبيا، خصوصا وقد اكتسب الجميع خبرات فارقة في هذه الصراعات.. فليس أسوأ ولا أخطر على الجميع من ثقافة الكراهية والتمييز والتقسيم، ولقد اكتوينا بهذه النار وما نزال، والسبب الرئيسي لما نحن فيه هو رفض ليبيين لليبيين آخرين وإلغائهم وعزلهم، وكل ما سوى ذلك هو حصاد ونتائج وتداعيات لن ينفع إنكارها ولا التعتيم عليها.. والحلّ الليبي ينطلق من إحلال ثقافة الاتفاق، وقبول الآخر الشريك في الوطن بدل الإلغاء والاحتكام إلى القانون والشعب بدل السلاح ومنطق القوة..
إن إحدى المشاكل الرئيسية التي نعاني منها لأسباب متعددة، هي هذا الشعور العميق بالمظلومية الذي نعتبره جيدا وبنّاء في جانب، لكنه سلبي يكرّس التواكل ويبرّر التنصّل من المسئولية، ويعتبر ما يجري لنا خارجا عن إرادتنا ومفروضا ومُسقطًا علينا لا حول ولا قوة لنا في تغييره أو تفاديه..
صحيح أننا مظلومون، لكن بمقدار.. وصحيح أن الآخر يتحمل جزءا مما نحن فيه، لكننا متسبّبون في الكثير مما يجري لنا ومسئولين عنه أكثر من أي طرف آخر.. والآخرون أيضا مسئولون لكنهم متضررون أيضا.. ونحن بضعفنا وتشرذمنا حوّلنا كثيرين منهم من متضامنين إلى متشككين، ومن متضررين إلى متوجسين، ومن متعاطفين إلى طامعين.
الاعتراف الضروري الذي قد يساعدنا على البناء هو أن لا جنسية للتدخلات في ليبيا، ولا هوية محددة لها.. فالكلّ متدخل، حسب حجمه وأهدافه وظروفه ومشاكله.. فالتدخل ليس إخوانيا صرفا، ولا روسيا ولا أوروبيا ولا أمريكيا ولا خليجيا ولا تركيا خالصا.. إنه عام وشامل ومتعدّد ومركب..
لذلك، فإنه علينا ألا نعوّل كثيرا على معجزات سياسية أو هدايا دبلوماسية تأتينا على طبق من فضة في ظل سيطرة الأطماع وطغيان المصلحة الذاتية للدول.. علينا أن ننطلق إلى تضحيات شجاعة.. ومبادرات حقيقية مؤلمة ترتقي إلى المطلوب أكان على الجانب السياسي أو الفكري أو الاجتماعي لكي نحافظ على البُنيان.. أما الفرز السياسي والحضور المؤسساتي والمعادلات الداخلية ما بعد الحلّ، فأمرها هيّن وسوف تحلّ نفسها من تلقاء نفسها بمجرد أن يجد المواطن الليبي طريقه إلى الصندوق آمناً ومتحرّرا من كل إكراه ومخاوف.. حينها سوف تُحسم المعارك العقائدية وتُرسم الخارطة السياسية بالحجم والتمثيل والتواجد..
أما انتظار الهدايا الجيوسياسية الوهمية من وراء الحدود فلا شكّ أنه من قبيل التهافت والخفّة التي لا تجدي شيئا، مع علمنا الدقيق وفهمنا العميق لموازين القوى وتفاصيل التأثير والأحجام الحقيقية للمكونات في بلدان الجوار بشكل عام، وفي الجارة تونس بشكل خاص..
*صحفي ليبي