–تغير الأولويّات الأميركيّة لصالح الداخل الأميركي المفكك والمنقسم والمأزوم، كما وصفه الرئيس الأميركي جو بايدن، أو لصالح مواجهة تحديات بحجم التفوق الصيني الاقتصادي والتفوق العسكري الروسي، كما كتب بايدن في مقالته التي نشرها في مجلة الفورين أفيرز قبل أقلّ من سنة، يعني أن منطقة الشرق الأوسط التي شكلت خلال عقدين مسرح الحركة الأميركية الرئيسي عسكرياً وسياسياً، ستشهد إعادة تموضع جديدة وفق قواعد يسمّيها بايدن ربط التحالفات بحساب المصالح العليا للأمن القومي الأميركي في استخدام القوات الأميركيّة، وقواعد موازية يسمّيها بايدن الاستناد الى أطر قانونيّة قابلة لتشكيل إجماع دولي، مثل الاتفاق النووي مع إيران، وصيغة حلّ الدولتين للقضية الفلسطينية، وبنتيجة هذا التموضع الأميركي الجديد ستصاب الاندفاعة الأميركية التي شهدناها في ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، لترجمة خطة تحالف ثلاثي أميركيّ إسرائيليّ سعوديّ للتصعيد في المنطقة، والنتيجة أبعد من التراجع الذي سيصيب الثنائي الإسرائيلي السعودي، الذي سينال الحماية الأميركيّة من دون أن تنال مشاريعه الانخراط الأميركي. فالنتيجة هي فراغ استراتيجيّ ناشئ عن التراجع الأميركي بعدما ملأته الإدارات المتعاقبة بما فيها إدارة باراك أوباما وجو بايدن، بالحروب الخشنة أو الناعمة والفتن، في ظل عجزها عن ملئه بمشروع سياسيّ قادر على استقطاب القوى الفاعلة في المنطقة لبناء نظام إقليميّ صلب قادر على صنع الاستقرار، فمن سيملأ هذا الفراغ؟
– في عام 2009 كان المشهد المشابه الناشئ عن فشل الحروب الأميركية، وعشية وضع مشروع الحرب الناعمة المسماة بالربيع العربي قيد التنفيذ، يطرح سؤالاً مشابهاً، ويومها دعا الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد لمشروع البحار الخمسة، القائم على دعوة دول حوض بحر قزوين والخليج والبحر الأحمر والبحر المتوسط والبحر الأسود لتشكيل نظام إقليمي يضمن الاستقرار، وكانت سورية صاحبة الدعوة تسعى لإقناع تركيا ومصر والسعودية بالانضمام للدعوة التي ضمنت تجاوب روسيا وإيران معها، وكانت النتيجة تشارك تركيا والسعودية في الحرب على سورية، وتحويل مصر الى حقل تجارب لمشروع الحرب الناعمة عبر حكم الأخوان المسلمين، وبعدما اختبرت تركيا نظريات وأحلام العثمانية الجديدة، واكتشفت ما ينتظرها مع مشاريع التفتيت وإقامة دويلات كردية في سورية والعراق، وتموضعت في منتصف الطريق وهي تحتجز بعض الجغرافيا السورية وتقدم المأوى والرعاية للجماعات التكفيرية الإرهابية التي بدأت بها الحرب على سورية، ذهبت السعودية للشراكة مع «إسرائيل» في رهان الحرب المفتوحة مع إدارة الرئيس ترامب، وخرجت مصر من تجارب العقد الماضي عاجزة عن لعب دور القطب القيادي في السياسات، بحيث أصيب مشروع البحار الخمسة في فرص قيامه بملء الفراغ قبل عشر سنوات ويُصاب اليوم، بنتيجة تآمر الدول صاحبة المصلحة بقيامه عليه تحت تأثير تعليمات وأوهام وزعها الأميركي لخوض الحرب على سورية، فمن سيملأ الفراغ اليوم؟
– الواضح أن لا قوة جاهزة لملء هذا الفراغ، بتفاهمات سياسية دولية، حيث المرشح الأوفر حظاً بحكم الدور والمكانة والقدرة وهو روسيا، لن يحظى بتفويض أميركيّ وغربي يتعدى تفاصيل وجزئيات يفرضها الوجود الروسي المباشر حيث يستحيل تجاهله كحال سورية، بينما يستعصي تسليم واشنطن بدرو روسيّ في العراق والخليج، ورعاية حل للقضية الفلسطينية، في ظل وضع إدارة الرئيس بايدن للمواجهة مع روسيا ضمن الأولويات الاستراتيجية، بينما لا تملك الدول الأوروبية وفي طليعتها فرنسا، القدرة والأهلية للعب دور بهذا الحجم، بعدما كشفت تجربة الخروج الأميركي من الاتفاق النووي العجز الأوروبي بأعلى صور الحضور، حيث تمسكت أوروبا بالاتفاق وعجزت عن تنفيذ التزاماتها تحت شعار عدم استغضاب أميركا، ولن يكون وراداً عند محور المقاومة وروسيا وهما يشهدان التراجع الأميركي من الباب أن يتيحا عودته بالوكالة الأوروبية من الشباك. وهذا يعني أن حالة من السيولة وظهور الكثير من الخواصر الرخوة الأمنية والسياسية ستظهر في المنطقة، سيحاول الثنائي السعودي الإسرائيلي بمعونة بعض الأجنحة الأمنية الأميركية ملؤه عبر إعادة إحياء تنظيم داعش، وعبر تسريع استيلاد نماذج تقسيميّة قد يكون العنوان الكردي أبرزها، وسيكون على محور المقاومة الاستعداد لحسم هذه الظواهر بالقوة، والاستعداد لبلورة صيغة سياسية تتيح تقديم سقف ضامن للاستقرار كبديل للفوضى.