تمر اليوم الذكرى الثامنة لاندلاع ثورة الحرية والكرامة والوضع في البلاد يبدو مفتوحا على كل السيناريوهات في ظل تواصل الازمة السياسية التي لم ينجح مرور التحوير الوزاري في مجلس النواب في التخفيف منها .
لم تنقشع الغيوم بسبب تواصل حالة الانكار و رفض الاعتراف بحقيقة الازمة التي تعاني منها الطبقة السياسية في أغلبها .
الازمة في جوهرها اعمق من مجرد صراع بين ساكني القصبة وقرطاج بل هي متعلقة بالمزاج السياسي العام للمجتمع التونسي والذي لا يمكن ان يغيره نص مهما علت درجته ومهما احسن توزيع الصلاحيات ناهيك إن كان النص المؤسس مضطربا وغامضا وعاجزا عن رسم الحدود بصرامة وناهيك إن كانت المؤسسة (المحكمة الدستورية) التي اوكل إليها الدستور ادارة الخلاف بين رأسي السلطة التنفيذية غائبة.
إنتخابات 2014 كشفت بوضوع عمق المأزق وهو تصادم بين النص الدستوري الذى اقر نظام سياسيا محوره البرلمان والحكومة والمزاج الإنتخابي الشعبي الذي يعتبر ان محور السلطة هو مؤسسة الرئاسة .
مزاج محكوم بالتاريخ وبطبيعة الدولة و التموقع الجغرافي حيث كل انظمة المنطقة نظامها يقوم على راس واحدة لا رأسين.
الحماس حينها كان في اوجه لانتخاب رئيس الجمهورية وحتى ناخبي النهضة الذين قررت حركتهم الحياد في معركة الرئاسيات انخرطوا فيها باشد من انخراطهم في التشريعية وانساقوا وراء مرشح متمايز عنهم سياسيا وأيديولوجيا.
كان المزاج العام اقوى من قرار الحزب وأقوى من الهندسة السياسية المتفق عليها وهو أمر لم يحسب له واضعو الدستور اي حساب.
بين المزاج وبين الواقع بون شاسع وهو ما يترجم الازمة الدستورية الحالية.
نظام برأسين وبرلمان يشرع ولا رقيب عليه في غياب المحكمة الدستورية .
بنية سياسية مخالفة للمزاج السياسي العام والذى يشكل حتما الوعي السياسى.
رئيس منتخب لا يمنحه الدستور ما يحقق به وعود حملته التي حركت الناخب و رئيس حكومة غير منتخب يتم تغييره كل مرة لتنفيس الاحتقان السياسي وبين يديه اكثر الصلاحيات .
وبرلمان منتخب ينافس مؤسسة الرئاسة في الشرعية ولكن غير قادر على حل الخلافات و لا قادر على اقناع المزاج العام باحقيته بان يكون قلب النظام السياسي.
المازق اذن ليس جديدا ولسنا نتحدث بعد رؤية النتائج بل كانت لنا رؤية استشرافية عبرت عنها في حوار صحفي في شهر جوان 2013 قبل اشهر طويلة من الانتهاء من كتابة الدستور: “ملاحظاتي الاساسية حول نص المسودة هي مواصلة النخب السياسية البحث عن التوافقات المغشوشة على حساب مصلحة البلاد العليا واستقرار ووحدة نظامها السياسي من خلال هذا النظام الهجين الذي يتعامل مع الدولة وصلاحيات مؤسساتها تعاملا حزبيا وفئويا تقسيم سلطة بين راسي الجهاز التنفيذي في الدستور اضافة الى نظام انتخابي يفرض الحكم الائتلافي هو وصفة لمرحلة من التدهور الاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي.”
اذن الانفصام مركوز في أصل الدستور ولكن خلاف المؤسستين الذي نشاهد فصوله جاء فقط ليكشفه.
كما أن القاعدة في الاقتصاد أن الزبون دائما على حق فالقاعد الذهبية في السياسة (الديموقراطية) هي أن الناخب لا يخطىء .
فهو يدرك جيدا مدار السلطة ويبحث عن الحل عندها مهما كان النص.
والسياسة لا تدار إلا باحترام هذا المزاج .
كل مرة عندما تتفاقم الازمة تتوجه الاعين الى قصر قرطاج وكل مرة كان الحل ياتي من هناك ولم يدفع احد من المشاركين في قرطاج واحد وقرطاج اثنين بعدم دستورية ذلك.
ولذلك بمجرد تحويل مكان البحث عن الحل الى البرلمان بعيدا على القصر تفاقمت الازمة.
لم تستوعب الاطراف الحزبية انها مجرد وسيط بين الدولة براسها وبين المزاج العام.
وان محاولة تغيير المزاج السياسي العام هو بمثابة تغيير النمط الاجتماعى.
التونسي لم يقبل في قرارة نفسه محاولة تغيير النمط السياسى خاصة وان هذه المحاولة كانت مترددة ومضطربة إنما يريد اصلاحا ولكن النخبة المؤسسة ارتأت خلافه فكانت الازمة المتواصلة .
التوافق كان منهجا لاحتواء تلك الازمة وكان اطارا قبل به التونسي رغم الانتقادات التي تعود لا لبنيته ولكن لتنزيله .
الطبقة السياسية عوض ان يكون دورها تنشيطيا استاثرت بالقرار ولم تترك لاهل الاختصاص اي مجال للعمل .
كان راس الدولة هو من يصرف حركة اهل الإختصاص ويعرف كيفية استثمار قدراتهم في تشغيل الدولة .
الدولة ضعفت مرافقها و النخبة السياسية عجزت على الادارة ومؤسسات الدولة أصبحت في حالة تجاذب خطيرة .
لا حل دون العودة الى المزاج العام واعتراف الطبقة السياسية الممثلة في الاحزاب المتشكلة او بصدد التشكل انه لا يمكنها قيادة البلاد بعقلية الاستيلاء على القرار السياسي بمجرد فرض نص .
الحل يكمن أساسا في فسح المجال قناعة لقصر قرطاج ان يلعب دوره الضروري في القيادة واخراج البلاد من مازقها لان التوانسة ذلك ما يقبلون به في اعماقهم رغم نقدهم وهي خطوة في اتجاه مصالحة النص مع المزاج العام مادام ان فرص التعديل ضعيفة.
والآن أمام ما آلت إليه الحياة الوطنيّة من تأزّم وانسداد سياسي وما يطفو بشكل مُتسارع من مظاهر احتقان اجتماعي ومصاعب اقتصادية وتراجع مؤشرات المالية العموميّة والضغوط المتزايدة على الدولة على أكثر من صعيد.
وأمام تزايد مشاعر القلق والخوف لدى قطاعات واسعة من التونسيّين والتونسيّات، ينتظر التونسيون من رئيس الجمهورية وهو الشخصية التي تحظى بأوسع شرعية انتخابية التقدم بما يلزم من مبادرات لتوحيد الصف الوطني ورسم ملامح الطريق الواجب انتهاجها لتهدئة الأوضاع في البلاد ولإيقاف سيل الازمات المتتالية واعادة قاطرة الانتقال الديمقراطي الى مسلكها الصحيح وبثّ مشاعر الأمل في المستقبل لدى الشعب بأسره.
دقّة الظرف وصعوبته تقتضي الوصول، وفي أسرع وقت، إلى تفاهمات واسعة وسريعة يُشارك في صياغتها جميع الفاعلين، من أحزاب ومنظمات وطنيّة، دون إقصاء أو استثناء، بهدف إعادة تنشيط فلسفة الوحدة الوطنيْة والتوافق الوطني، الفلسفة الوحيدة القادرة على إخراج البلاد من الأزمات الخانقة التي تعيشها.
وإنّ مزيد الإبطاء في إطلاق مسار جديد للتفاوض والحوار الوطنيين من شأنه أن يزيد في حالة الارباك التي يعيشها المشهد السياسي والحزبي وسيُراكم دونما شكّ المزيد من الأزمات والمشكلات، وهو ما قد يدفع بالبلاد إلى الذهاب الى وضع أكثر تعقيدا ويترك الباب مفتوحا للعبث بحاضر البلاد ومستقبلها.
إنّ الحياة الوطنية تحتاج عاجلا إلى إعادة رسم ملامح واضحة للعملية السياسيّة حرصا على استكمال ما بقي من مستلزمات الانتقال الديمقراطي واستحقاقاته، ومن أهمّها تركيز الهيئات الدستوريّة المستقلّة وعلى رأسها المحكمة الدستوريّة، والانتهاء من ملف العدالة الانتقالية بما يقطع مع اجترار خيبات الماضي وجراحه ويُحقَّق البعد التاريخي والحضاري للثورة والمتمثّل في المصالحة الوطنية الشاملة المنشودة، بين التونسيّين وبينهم ودولتهم، وينقل بوصلة الجميع نحو المستقبل بصفة نهائيّة.
إنّ اللحظة التاريخية الراهنة، لحظة عصيبة، لا تخفى محاذيرها ومعالم خطورتها على وطني غيور، وهذا ما يفرضُ على الجميع وخاصة على رئيس الجمهورية، وفاءً للناخبين وعموم الشعب التونسي، القيام بما يراه صالحا من المبادرات للمضي قُدما في تنقية المناخ السياسي في البلاد والمساعدة على التهدئة السياسيّة والاجتماعية وصيانة الوحدة الوطنيّة والسلم الأهلي واستقرار الأوضاع من جهة وتأمين أفضل الظروف لإنجاز الاستحقاق الانتخابي المنتظر نهاية العام المقبل.
“التونسيون”