مسكينة تلك الحكومات التي لا تزال تحلم بحياة رغيدة في ظل السياسة الأمريكية، ومسكنتها متأتّية من كونها ما تزال تراها بعين الاعتبار، قطبا أو فلكا يدور حولها دول العالم، تسبيحا بحمدها وتهليلا لبيْتها الأبيض، هُبَلَ عرب الجاهلية الحديثة- هكذا هي تماما في نظرهم- يتوقّعون منها القدرة على مكافحة التخلّف والفقر في بلدانهم، وشريكة استراتيجية، لهم كدول المحسوبة على العالم الثالث، باتباع ما تمليه عليهم من أوامر، ليست في صالح شعوبهم، بما تغدقه عليهم من مساعدات عينية، وكرمها يزداد كلما عبّرت تلك الدّول على مواقفتها لها في كل طروحاتها.
فهل نسي حكامنا تاريخ دول الغرب الإستعماري عموما وتاريخ أمريكا خصوصا، وهو تاريخ، مليء بالجرائم والإنتهاكات التي لا تحصى ولا تعدّ، بحق شعوب كثيرة، ومن لم يتأذّى منها بعمق وقوّة وتترك آثارها السّلبية عليه، فقد انعكس تصديقها في دعاياتها، وموافقتها في سياساتها نظريا، على من كان على مسافة منها، واعتُبِر بدوره من الغارقين في مستنقعها الآسن.
أمريكا التي تأسست من حثالة مجرمي أوروبا، بثوب ملطخ بدماء سكانها الأصليين، تربّعت على عرش هذا العالم، بكل عنجهية العرق العنصري الأبيض، وحكمت بأحكامها الظالمة، متحدّية الجميع بغطرسة لم يسبقها إليها أحد، حتى شركائها من الدّول الأوروبية الإستعمارية، لم يقدروا على مجاراتها، خوفا من سطوتها، وتوقّي سُبُلِ معارضتها، قد رضوا – رغم قدراتهم الإقتصادية والعسكرية الكبيرة – ببقائهم وصائف في خدمة مشاريعها، مشاركتها مؤامراتها، خصوصا تلك التي تعلّقت بمشروعين أساسيين لها، هما: مشروع الشرق الأوسط الجديد في تثبيت الكيان الصهيوني حاكما فعليّا فيه، ومشروع الديانة الإبراهيمية الجديدة، التي اختصرها الإمام الخميني، قبل أن تصبح مؤامرة بعنوانها الحالي بالإسلام الأمريكي.
يبدو أنّ العالم بأسره مدرك لحقيقة أمريكا، ومخططاتها المكشوفة في الهيمنة على دوله، قوية كانت أم ضعيفة، فما يهمّها بقطع النظر على إنفاقاتها الكبيرة، منحصر في السيطرة والتربّع على عرش التحكّم فيها، دولا وشعوبا وموارد، عبر الترغيب بالمساعدات المالية ورصدها سنويا، للدول التي عبّرت في سلوكها السياسي بانضوائها تحت منظومة هيمنتها، اما بموافقتها على إجراءاتها مهما كانت ظالمة، أو السكوت عنها بعدم التعرّض لها في المنظمات الدولية، كالجمعية العامة للأمم المتّحدة، من هذه الناحية نجد طمأنة من الرئيس قيس سعيد، عندما أكد على “سيادة تونس، ورفض قاطع لأي تدخل في اختيارات الشعب التونسي”، موضحا أن تونس “دولة ملتزمة بمبادئ القانون الدولي، وحريصة على احترام الشرعية في الداخل، نفس حرصها على احترام الشرعية الدولية”.(1)
لا تزال الإدارة الأمريكية تسعى جاهدة، لحيازة أكبر عدد ممكن من القواعد العسكرية لقواتها المحمولة بحرا وجوّا، خصوصا في المواقع الإستراتيجية التي تشرف على مناطق متعددة، بإمكانها أن تعطي لقواتها مجالا واسعا، في الحركة والمناورة والهجوم، ويٌعتبر الشمال التونسي وبنزرت تحديدا من الأماكن المفضّلة عسكريا، التي سال عليها لعاب الدّول الاستعمارية، ناهيك أن فرنسا كانت ستحتفظ بكامل بنزرت – عندما اضطرت للخروج من البلاد التونسية بفعل المقاومة الوطنية – باعتبارها موقعا عسكريا مطلا على البحر الأبيض المتوسط، بإمكانه السيطرة الكاملة على حوضه.
دعوة الرئيس الأمريكي (جو بايدن) الرئيس التونسي (قيس سعيد) الى زيارة عمل رسمية(2)، في هذه الظروف الشّائكة للبلاد، تحمل بين طياتها مقترحات أمريكية، ولا أقول أوامر، لأنني أؤمن بأن الرئيس قيس ليس من طينة بن علي أو بورقيبة حتى يسمع ويسكت، لكن الغالب على ما وراء هذه الدعوة المشبوهة، محاولة الإدارة الأمريكية اغتنام الوضع الاقتصادي المتأزّم لتونس بتقديم عرض لبناء قاعدة عسكرية أمريكية بحرية وجويّة، قد تكون بنزرت أو جزيرة جالطة، موقعا مناسبا للأمريكيين، بل من المؤكّد أن تكون أفضل موقع لهم على الإطلاق، في وقت بدأت تباشير حرب عالمية تلوح في الأفق، بدأ من الحرب الروسية والأوكرانية، وتهديد أمريكا للصين وإيران وكوريا الشمالية، ولا يمكن أن تجتمع كل هذه التهديدات دون أن يكون في حساب الإدارة الأمريكية وذراعها العسكري البنتاغون استعمال الأسلحة المحرمة دوليا، ومن فقد القيم الإنسانية كمنظومة الحكم الأمريكية، يُتَوقّع منها كل شيء سيّء.
الرفض المبدئي والقاطع من الرئيس قيس سعيد، السّماح لأمريكا بموطئ قدم عسكرية بتونس لا شكّ فيه أبدا، مهما كانت الإغراءات المقدّمة من الجانب الأمريكي، ولو كان غيره رئيسا لاحتملنا ذلك، باعتبار أن هناك من الطبقة السياسية التونسية والعربية، من يوافق على إطار تعاون مستراب فيه مع أمريكا، كما كان الشأن بالنسبة للرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، في إطار المخطط الأمريكي لمكافحة الإرهاب، الذي نفذته الإدارة الامريكية في الشرق الأوسط وكانت زعيمته في صناعة الإرهاب ما أتاح لها إقامة قواعد عسكرية في العراق واطلاق عملائها فيها، والسيطرة على آبار النفط في سوريا، وسرقة نفطها دون خجل أو حياء.
فهل تأتي دعوة (بايدن) ل(سعيد) في اطار لملمة الوضع بتونس كما كان عليه الحال قبل 25 جويلية 2021، وضمّ أثقال الساسة بتونس على بعضها البعض، دون تمييز بين خفافها وثقالها، مُدانها وبريئها، كما يحصل الآن ببلاد بيرو (أمريكا اللاتينية)، من عزل الرئيس البيروفي (كاستيلّو)، وتنصيب نائبته (دينا بولوارتي) بعد أن سعى إلى حل البرلمان، في إجراء شبيه بتونس، لكنه كان فاشلا من بدايته، وأدّى إلى اعتقال الرئيس (كاستيلّو) وكان قد نجا من قبل من مقترحين بعزله في مارس 2022؟(3)
قد لا أحمل البيت الأبيض وساكنيه على محمل الإصلاح، وقد وطّنوا انفسهم على أن يكونوا مفسدين في الأرض، فلا براءة عندي وعند كل عاقل لهم، وسجلّاتهم معلومة ومشهورة، ولو كان في هذا العالم حكمة عجل دولية مستقلة لأدانت الحكومات الأمريكية تباعا جون استثناء، ولا أخال قيس سعيد مغفّلا حتى يستبْلِهه (بادين)، الرئيس التونسي رجل وطني دستوري صادق، وهذه خصال لا تُعْجِبُ الأمريكيين، الذين يريدون عادة حكاما عملاء لهم، و(قيس سعيد) شخص يبدو غير ملائم لهم إلى حد الآن، فما الذي تريده أمريكا من هذه الدّعوة المفاجأة؟
المراجع
1 – قيس سعيد يرفض أي تدخّل في اختيارات الشعب التونسي
https://www.alaraby.co.uk/politics/
2 – خاص قيس سعيد في واشنطن يوم 13 ديسمبر المقبل
https://tunisie-telegraph.com/2022/11/28/145354
3 – نائب رئيس بيرو المعزول تؤدّي اليمين الدستورية لمنصب رئيس الدولة
https://www.almayadeen.net/news/politics