قرار تصفية البراهمي حصل يوم 7 جويلية 2013 عندما أعلن الشهيد مساندة «ثورة يونيو» في مصر والانفصال عن «حركة الشعب»
رئيس الجمهورية يراهن على شرفاء تونس في القضاء والأمن
قلت لزوجي «أنت التالي» عندما أبلغته باغتيال شكري بلعيد
بسقوط العكرمي ستسقط رؤوس كبرى كثيرة في مقدمتها الغنوشي
اختلفت هذا العام ذكرى اغتيال الزعيم محمد البراهمي عن مثيلاتها طيلة ثمانية أعوام حيث كان للتحوّل الحاصل في الساحة القضائية وقع خاص على عائلة الشهيد التي ظلت تغالب مصيبتها الذاتية بالتوق إلى تحرّر وطن بأسره من قبضة الإخوان.
وللتاريخ كان زعيم التيار الشعبي محمد البراهمي قد تلقى ظهر يوم 25 جويلية 2013 وابلا من الرصاص منها 14 رصاصة استقرّت في صدره عندما كان يهم بتشغيل محرّك السيارة أمام بيته لبدإ يوم جديد في عزّ شهر رمضان ساخن شهد أيضا ذبح تسعة جنود على مرتفعات الشعانبي.
وفي الواقع تشير عدة قرائن إلى أن قرار اغتيال البراهمي الذي حصل 7 أشهر بعد تصفية زعيم الوطنيين الديمقراطيين شكري بلعيد أمام بيته الواقع في المنزه السادس قد اتخذ بعد الخطاب الشهير الذي ألقاه زعيم التيار الشعبي تحت قبة البرلمان عندما كان عضوا في المجلس التأسيسي وهو الخطاب الذي أعلن فيه مساندة «ثورة يونيو» في مصر التي أطاحت بحكم الإخوان… إلى جانب فك الارتباط مع «حركة الشعب» بسبب عدم التوصّل إلى حلحلة خلافات جوهرية ظلت مؤجلة منذ المؤتمر التوحيدي المنعقد في فيفري 2012 وهي خلافات تلف أساسا حول سائر تفرعات المسألة السيادية ببعديها الوطني والقومي.
وبعد انقضاء ثمانية أعوام على واقعة الاغتيال بدا بيت البراهمي الواقع في المدخل الشمالي الشرقي للعاصمة وكأنه لم يفارق صاحبه يوما فأينما تولي وجهك تصادفك صورة للشهيد فيما نجله الأكبر «عدنان» نسخة مطابقة للأصل من أبيه شكلا ومضمونا.. وأرملته «مباركة» تمضي في حرب على واجهتين.. ايصال ابنها وبناتها الأربعة إلى غايتهم… وايصال وطن بأسره إلى بر الأمان استلهاما من روح البراهمي الذي كان بكل المقاييس ارتدادادا لخصال جيل بناة الدولة الوطنية من حيث الالتصاق بهذه الأرض وشعبها والزهد في متاع الدنيا كما كان انعكاسا للمشروع القومي العربي بصراعه الأزلي ضد الاستهداف الصهيوني من الخارج والابتزاز الإخواني من الداخل.
وعندما بادرتها بالسؤال عن مستجدات الساحة القضائية بدت مباركة البراهمي في قلب الأحداث حيث أكدت أنه من خلال إحالة وكيل الجمهورية السابق بابتدائية تونس البشير العكرمي على النيابة العمومية الذي كان ثمرة نضالات مريرة لهيئة الدفاع عن الشهيدين فإن «القضاء التونسي رفع رأس تونس وشعبها عاليا».
لكنها نبهت في المقابل إلى أن الطرف المقابل أو بالأحرى التيار الإخواني هو كيان إجرامي مدعوم من قوى استعمارية كما يدرك جيدا أنه بسقوط البشير العكرمي ستسقط رؤوس كبرى كثيرة في مقدمتها راشد الغنوشي وبالتالي سيحاول بشتى الأساليب الانقلاب على قرار مجلس القضاء العدلي من خلال توظيف امتداداته داخل دواليب القضاء ووزارة الداخلية.
لا سيما في ظل تخاذل «منظمات وطنية» كانت ملجأ للتونسيين على امتداد عقود طويلة.
وخلصت مباركة البراهمي إلى القول «كلي أمل أن يحسم القضاء هذه المعركة بعد ثماني سنوات مظلمة جدا»… كشف الحقيقة لن يعيد لي زوجي لكنه مهم جدا لضمان حياة كريمة للأجيال الجديدة تقتضي بالضرورة محاسبة من تواطؤوا على تونس.
وقالت أرملة البراهمي بخصوص فحوى لقائها مؤخرا مع رئيس الجمهورية قيس سعيّد «إن الرئيس ليس القضاء ولكنه يدرك جيدا أن الإرهاب له حاضنة سياسية وذراع مالي وأن هذا الأخطبوط لا يتمفصل عن الأجندات التدميرية التي تستهدف دول المنطقة».
وتابعت في هذا الصدد «إن الرئيس يراهن على شرفاء تونس في القضاء والأمن لتجاوز هذا الظرف الدقيق» مشيرة إلى أن لقاءها بالرئيس قد تناول سائر القضايا الوطنية المطروحة.
ولاتزال مباركة البراهمي تستحضر بقوة كيف كان زوجها يحتضر بين ذراعيها ظهر يوم 25 جويلية 2013 حين هرعت إلى الشارع وهي في ثياب البيت تحت تأثير أزيز الرصاص الذي كسر فجأة سكينة المكان واختلط بآهات متعثرة اندفعت من حنجرة الشهيد كما لا تزال أرملة الشهيد تميّز الرصاصات المتقطعة التي اندفعت من فوهة مسدّس والرصاصات المكثفة التي انطلقت إثرها مباشرة من «الرشاش» وكيف كانت لحظة خروجها من البيت على مسافة خمسة أمتار من الشخصين الذين نفذا الجريمة النكراء دون أن تدرك ملامحهما فقد كان القاتل الأول بصدد تشغيل الدراجة النارية فيما كان الثاني بصدد الالتحاق به وهو يشيح عنها بظهره.
ومن هول الفاجعة ظلت مباركة البراهمي تمسك بيد زوجها الذي كان يجلس أمام مقعد السيارة وهو ملطخ بالدماء إلى أن لحق بها نجلها الأكبر «عدنان» ثم بناتها الأربعة موفرين لها فسحة من الوقت حتى تسرع إلى البيت لتتدثر بأي لحاف يصادفها فيما اهتزت تلك الزاوية الهادئة من «حي الغزالة» على وقع نحيب الأبناء الخمسة الذين لا يعرف كيف ألهمهم الله رباطة الجأش في تلك اللحظة الفارقة فتعالى صياحهم «يا بابا شهّد» فنطق محمد البراهمي بالشهادتين بصوت خافت ومتقطع وكان لحظتها بصدد الاحتضار لكنه لم يلفظ أنفاسه الأخيرة إلا بعد وصوله إلى مستشفى محمود الماطري الذي نقل إليه على متن سيارة أحد جيرانه.. متأثرا بإصابات بليغة تسببت فيها 14 رصاصة منها واحدة فجرت أحد الشرايين الرئيسية.
ولا تزال مباركة البراهمي تتذكر كيف قالت لزوجها يوم 6 فيفري 2013 عندما أبلغته خبر اغتيال الزعيم شكري بلعيد «أنت التالي» وذلك على خلفية أن «الخوانجية» هم أعداء من أيام عبد الناصر إلى اغتيال بلعيد بوصفهم جهاز ارتكاز للأجندات الاستعمارية الصهيونية والأمريكية.
كما تستحضر مباركة البراهمي أنه إثر إعلان الشهيد يوم 7 جويلية 2013 تأييده لثورة يونيو في مصر التي اعتبرها تصحيحا للثورة وانفصاله على حركة الشعب اتصل به القيادي في النهضة عامر العريض وخاطبه بنبرة فيها مزيج من التهديد والاستقواء «لماذا كل هذه الهستيريا ضد الخوانجية؟»
لكن رغم هول الفاجعة التي لا تزال تخيم على مفاصل كثيرة من حياة «آل البراهمي» فإن أرملته تستشعر بعض الارتياح وقد أوصلت أغلبت أبنائها إلى غايتهم في الدراسة وكذلك في ظل المنعرج السياسي الذي بدأ يخرج من حصون القضاء بالذات.
المصدر: صحيفة الأنوار ـ