كان من الواضح على أثر سلبيات سياسات بوش الإبن، التي أسفرت عن تراجع مكانة بلاده على الصعيد المحلي والدولي، كان واضحا لدى الدولة العميقة، أنه لابد من إعادة إصلاح وترميم تلك السياسات، من خلال التسويق للمزاعم التي تتحدث عن القيم الإنسانية الأمريكية، بما فيها نبذ العنصرية والكراهية، والدفاع عن حقوق الإنسان، ونشر المسواة والحرية والديمقراطية، في كل مكان!
وهكذا كان عندما استشعر الإنتهازي الأسود، باراك أوباما الفرصة السانحة التي تستحق الإقتناص والمغامرة، حتى أعلن وضمن لاحقا ترشحه للإنتخابات الرئاسية عام 2008، بعد أن أثخن مواطنيه بالوعود الحالمة القادمة، والعالم من أمام بوابة برلين بإزالة كافة الجدران التي تفصل بين الأعراق والديانات، ولعله من الجدير كذلك بعد تبوئه عرش البيت الأبيض لاحقا، التذكير بما جاء على لسانه في جامعة القاهرة عام 2009، حين استلهم من التاريخ عن الرئيس الأمريكي الثالث، توماس جيفرسون مقولته “إنني أتمنى أن تنمو حكمتنا بقدر ما تنمو قوتنا، وأن تعلمنا هذه الحكمة درسا مفاده، أن القوة ستزداد عظمة كلما قل استخدامها”، في إشارة واضحة إلى الحماقات التي اتبعها سلفه، مجرم الحرب بوش الإبن وإدارته! وما أن أدرك الإنتهازي أوباما المعادلة التي أوصلته إلى سدة الحكم، حتى سرعان ما تجاهل الوعود من برلين وحتى القاهرة، بل أنه لم يكتفي بالتراجع عنها، إنما من ضمن خطوات أخرى، تبنيه للعقيدة العسكرية الوقائية كما أسماها، القائمة في الإعتماد على الطائرات المسيرة، وسيلة في مواجهة من وصفهم بالأعداء، التي أسفر دخولها مسرح العمليات الحربية ولا تزال، عن إزهاق أرواح الأعداد التي لا تحصى من المدنيين الأبرياء!
بالتأكيد أن دخول أفريقي أمريكي إلى البيت الأبيض، كان قد أثار حفيظة الكثيرين من أصحاب نظرية تفوق العنصر الأبيض، ويكفي للدلالة على ذلك ما كان يطرحه من تساؤل عن مكان ولادته، وإلقاء الشكوك حول خلفيته الدينية، تاجر العقارات في حينه دونالد ترامب، الذي خلافا لكل التوقعات نجح في التناوب على كرسي الحكم، وما لبث نتيجة إفتقاره للعمل السياسي والدبلوماسي، ناهيك عن نزعته الفوقية وأوهام العظمة التي لم تبارح يوما مخيلته الصبيانية، حتى ضجر الكون من غوغائيته وعنصريته وضحالة فكره، التي أدت إلى عزلته وبلاده معه، كي تتفق مرة أخرى من وراء الكواليس، قوى الضغط في الغرف المظلمة، على ضرورة التخلص منه وإسقاطه، وهكذا للمرة السادسة بعد الأربعون يمني الناخب الأمريكي نفسه، الواقع تحت تأثير وسائل الإعلام الموجهة، بالآمال والأحلام المعقودة على مرشح الحزب الديمقراطي، جو بايدن الذي من ضمن ما قاله بعد نجاحه بأن “أمريكا قد عادت”، وأن سياسة إدارته الخارجية سوف تقوم، على قاعدة ما وصفها “قيمنا وليس من خلال قوتنا”!
وإنصافا للحق وللحقيقة، فإنه ليس بمقدور أي باحث أو مهتم بالقيم الأمريكية، أن يتجاهل ما ينص عليه “كتابة” الدستور الأمريكي، من الدفاع عن حقوق الإنسان، ودعوته إلى نشر الحرية والديمقراطية، الذي على الرغم منه لم يسعف عشرات الملايين، من سكان الأرض الأصليين النجاة بأرواحهم، حتى حين فرضت نفسها زعيما على ما أسمته “العالم الحر”، وراحت كالشرطي تحاول أن تدير وتتدبر أموره، تارة بزعم نشر قيمها وأخرى بدعوى الدفاع عن مصالحها، إلى حين أن أصبح من العسير، حتى على مواطنيها السذج الطيبيين، القدرة على التمييز بين القيم والمصالح بعد أن تداخلت فيما بينها، حيث عمت الفوضى والخراب والقتل والدمار، كل بقعة أرض وطأت أقدامهم فيها!
وفي الخلاصة نقول، أنه ما بين التغني بالقيم الإنسانية والإلتزام بها، فإنها ما لم تقترن الأقوال بالأفعال، وتحترم فيها قيم الآخرين من غيرها، فإنها لا تعدو كونها شعارات، التي فضحتها الغارات الجوية بالأمس القريب على سورية، والإستمرار في الحصار المفروض ظلما على شعبها، حتى لا ننسى معاناة أهلنا في غزة التي تمتد إلى أكثر من عقد، ناهيك عن إعادة التأكيد على قرارات الإدارة السابقة، في الإعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني المسخ ويهوديته، ، التي إن دلت على شيء، فإنها تؤكد على السياسات الإزدواجية في المعايير المتبعة، عندما يتعلق الأمر بالمصالح الأمريكية، حيث تغيب الحكمة وتختفي معها القيم المزعومة!
وعلى الهامش في الختام نذكر ونقول، أنه إذا كانت سياسات المنصرف ترامب، التي وصفت بالسطحية والتهور والإرتجالية، في غياب الخبرة السياسية والدبلومسية، فلعله من المفيد كذلك أن لا ننسى، خطورة بايدن الثعلب العقائدية الملتزمة، التي تستند في دينها وقيمها، على حماية أمن الكيان الصهيوني، وما تنتظره منطقتنا من عراب تقسيم العراق، وما خفي منها والله أعلم!
*فلسطيني واشنطن