تظل معركة التصدي للفساد في أي دولة من الدول هي المعركة الأصعب والانتصار فيها لا يتحقق بسهولة ما لم تتوفر إرادة فوقية قوية من هرم السلطة ودعم شعبي غير محدود.. و إن استمرار العدالة في معالجة الملفات المرتبطة بالفساد، و معركة التحرير الوطني ، ليست حدثا عابرا يرتبط بإستثنائية مرحلة، وإنّما سياسة منتهجة من السلطات العليا للدولة، قصد استئصال هذه الآفة بتداعياتها الخطيرة، و يجب مرافقة هذه العملية بمراجعة الترسانة القانونية بما يسمح بالتصدي المسبق لها.
من المعروف أن الفساد أينما وجدت أوكاره وكيفما ابتكرت أساليبه وطرائقه فإنه يمثّل تهديداً حقيقياً وتردياً معيشياً واجتماعياً واقتصادياً في حياة المجتمعات عامة وأن الفساد هذه الآفة الخطيرة المدمّرة للشعوب والأوطان تنمو وتترعرع وتعشعش أوكارها ومواقعها غالباً في البلدان النامية التي تعاني من أوضاع اقتصادية صعبة ويكون جهاز دولتها الإداري ضعيفاً وإن كانت تبذل جهوداً للقضاء عليه ووضع حد للمافيا التي تقف وراءه وتوظفه لصالحها ضاربة عرض الحائط بما يمكن أن يترتب على ذلك من مساوئ وسلبيات جمة لا تمت بصلة إلى المصالح العليا للوطن والشعب، ومكامن الفساد ومصادره تمارس أشكالا وأساليب في الالتفاف والتحايل على أكثر من اتجاه وصعيد ومن ذلك على سبيل المثال ما كان يحدث في بلادنا سابقا.. ما مثلته وتمثله أوكار الفساد والإفساد وما تمارسه من العبثية واللصوصية ويكون ضحية ممارساتها المواطن بل ولن تعود سوى بالأضرار البالغة على الوطن و الدولة، لذا فإن خوض معركة القضاء على مافيا الفساد التي تعبث بقوت التونسيين وتستغل كل محاولة من محاولات الإصلاح التي تقوم بها الدولة استغلالاً لا يخدم سوى مصالحها الذاتية والضيقة الأفق وهو ما يجعلنا نقول إن كل وراء فاسد ظهر يحميه وعليه فإن معركة القضاء على مافيا الفساد تتطلب مواجهة حاسمة ورادعة ومحاربتها أو مكافحتها كونها رديفة للتخريب وتخدم تحالف المافيا و اللوبيات، وتستدعي هذه الظاهرة الضرورة القصوى الوقوف أمامها بكل حزم من قبل الجميع سلطة وأفراداً دون هوادة أو مواربة، مثلما ينبغي على وسائل الإعلام المختلفة إيضاح الحقائق للناس عن أوكار الفساد والتصدي لها بكل شجاعة بالكلمة الصادقة التي تضع المواطن أمام حقيقة الإدراك الواقعي للأعباء التي تتحملها الدولة خاصة في ظل وجود تزييف الحقائق و بث الشائعات جراء ممارسة العناصر الفاسدة والتي إن استمرت في ممارسة فسادها فلن تزداد هذه الظاهرة إلا استفحالا وفوق ما يتصوره العقل.
لقد إبتكر الفاسدون باختلاف صورهم وأفكارهم وأثوابهم، نتيجة تربعهم الطويل في مواقع حساسة، أشكالاً لا تحصى لإجهاض المحاولات التي من شأنها الخروج من مستنقع التخلف والترهل الذي توشك البلاد أن تغرق فيه، وهم يبذلون الآن أقصى ما بوسعهم للاستمرار على سيرتهم ونهجهم، ولكن المختلف اليوم، أن أدواتهم وأساليبهم وذرائعهم أصبحت قاصرة وسافرة أمام التطور والتراكم الحاصل في المجتمع، وأمام بداية اليقظة التي تشهدها بعض الفعاليات الوطنية والشعبية، والأمل بات كبيراً في إزاحتهم أو الحد من تغلغلهم في المدى المنظور، وما على الشرفاء إلا الاستمرار بالصمود أكثر، فلعبة عض الأصابع قد شارفت على نهايتها.. يمر وقت طويل قبل أن يستطيع القلة من الشرفاء الصامدين في أجهزة الدولة المختلفة الظفر بقرار يمكن أن يؤدي بالمعنى الاستراتيجي إلى السير بالبلاد خطوة إلى الأمام، فالفساد الذي راح يحكم ويتحكم بمصائر الإجراءات والتوجهات و التشريعات منذ زمن طويل، وأسس في هذه الإطار سلسلة متشعبة من نقاط الارتكاز البيروقراطية والنظرية القادرة على عرقلة أية مشاريع أو أفكار أو إصلاحات تنأى عن منظومته، بات أقوى من أن يتم تجاوزه كثيراً بقرارات قد يكون لها انعكاسات إيجابية على الشعب والوطن.. وبالتالي، وضمن هذه الخريطة المعقدة التي يضطر كثر من أصحاب الأيدي النظيفة غير اليائسين على العمل في ظلها وتحت سطوتها، يصبح من الصعب جداً إحداث أكثر من اختراق واحد في جبهة ما، والأصعب هو المحافظة على محتوى هذا الاختراق وإبقاء إحداثياته في الاتجاه ذاته..
أمامنا اليوم معركة مصيرية، وهي (معركة مكافحة الفساد ) والعمل على إنهاء حقبة طويلة من الفساد والفشل في إدارة البلاد ، إنّ هذه المعركة ـ التي تأخرت طويلا ً- لا تقلّ ضراوة عن معركة الإستقلال إن لم تكن أشد وأقسى، والتونسيون الشرفاء الذين استبسلوا في معركة الإستقلال قادرون على خوض غمار هذه المعركة والانتصار فيها أيضاً إن أحسنوا ادارتها..بعد الخامس و العشرين من جويلية إنتقلت تونس من وضعية إنكار الفساد إلى وضعية الإقرار به و مكافحته.. وباتت مكافحة الفساد من أولويات الحكومة الحالية، و الفساد أصبح قضية كبيرة في تونس تشغل الجميع وهذا معطى شديد الأهمية، و أصبح قضية وطنية، ملفاً وطنياً بامتياز، هذا الأمر يحتاج إلى إرادة سياسية، وهذه الإرادة السياسية لا يمكن أن تتحرك إلا بوجود رأي عام وطني مناهض للفساد، و على الحكومة وكل هياكل الدولة حشد كل طاقاتها وإمكانياتها للمضي قدما في هذه الحرب الصعبة التي ستكون بلا شك طويلة المدى وستتطلب إمكانيات بشرية ومادية هائلة وخاصة شجاعة وإرادة سياسية لكسبها….معركة مكافحة الفساد ليست معركة الرئيس قيس سعيّد وحده ولا حكومته ومؤسسات الدولة وأجهزتها، بل هي معركة التونسيين جميعا، وينبغي أن لا تنطلي مناورات اللوبيات وزعماء المافيا وأصحاب المصالح الضيقة على الوعي الجمعي.. إنّ معركة مكافحة الفساد يجب أن تكون معركة وطنية و معركة كل التونسيين..