من أسرار محمّد علي إلى عرس التجديد لترامب مروراً بانتخابات الكيان العبري..فيسبوك: أثينا المزيّفة

من أسرار محمّد علي إلى عرس التجديد لترامب مروراً بانتخابات الكيان العبري..فيسبوك: أثينا المزيّفة

لقد انتهى عهد التلفزيون رسمياً، لم تقض عليه “نيتفليكس” وأخواتها من شبكات البث الرّقمي التي غيّرت طريقة استهلاك المنتجات البصريّة بشكل نوعيّ، أو حتى ثورة الإنترنت التي سمحت لكل صاحب “قرشين” بإطلاق قناته الفضائيّة الخاصّة، ووفرت لمستهلكي الإعلام مصادر متعددة بديلة للاطلاع. كما لم توجه إليه الضربة القاضية تلك الرّقابة الذاتيّة التي تفرضها معظم القنوات على بثّها حتى انصرف عنها الجمهور غير آسف.

لقد صمدت الشاشة الفضيّة في وجه هؤلاء الأعداء عديمي الرحمة لعقد من الزّمن أو أكثر، لا بل وحاولت بعض القنوات العالميّة الكبرى أن تعيد بناء ذاتها كمنصات إعلاميّة متعددة الوسائط تقدّم خدمة متكاملة بين التلفزيون التقليدي المباشر إلى منصة رقميّة للمسلسلات والأفلام، مروراً بالطبع بالبث الإذاعي ومواقع الإنترنت الحيّة. بينما لجأت أخرى إلى بناء التحالفات العابرة للحدود، متغاضية عن المنافسات الضيّقة بين القنوات فيما بينها سعياً لمواجهة الغيلان صفاً واحداً، كصناعة استجمعت أركانها في صراعٍ للبقاء.

لكن ذلك كله لم يكن كافياً. لقد تلقى التلفزيون الضربة القاضية الحاسمة من عدوّ سيبيريّ شبحيّ ليس عنده استوديوهات أو صفحات على الإنترنت ولا يدفع رواتب لطاقم أغلبهم أبواق لا إعلاميين محترفين، وليس مستعداً حتى لشراء حقوق المنتجات البصريّة أو الاستثمار في تقنيّات البث المباشر.

إنّه فيسبوك، وسيتم دفن التلفزيون الذي مضى غير مأسوف عليه خلال أشهر مقبلة، ونعلم الآن الموعد الرّمزي المحدد لإجراء مراسيم الوداع. إنّه الثالث من نوفمبر 2020 موعد إجراء جولة الانتخابات الرئاسيّة الأمريكية المقبلة.

فيسبوك: ملعب السّياسة المُعاصرة

لم يعد دور فيسبوك في الحياة السياسية لشعوب العالم أمراً سرياً تناقشه غرف الدردشة الخلفيّة على الإنترنت ويقتصر العداء له على دائرة ضيقة من الجمهور المولع بنظريّات المؤامرة.

لقد كشفت فضيحة “كامبريدج أناليتيكا” الشهيرة عام 2016 عن رأس جبل جليد هائل لتحالف آثم من قبل نخب مشبوهة للتأثير على الأوضاع السياسيّة لبلدان العالم والتلاعب بتوجهات النّاخبين يتم أساساً من خلال أدوات ولوغاريتمات متقدّمة تعتمد بالكليّة معلومات تتوفر على موقع التواصل الاجتماعي الأزرق، وهي في غالبها تتوفر طوعيّاً من قبل المشتركين.

“كامبريدج أناليتيكا” جاءت لتؤكد مخاوف كثيرين من تنسيق عالٍ بين أجهزة الاستخبارات وفيسبوك للسّيطرة على المعارضات السياسيّة واحتوائها بل وتوجيهها إلى حيث ترغب تلك النّخب.

وتحدّث كثيرون عن دور استثنائي لعبه فيسبوك في التّمكين لنشر فوضى ما سُمي بالربيع العربيّ، ولاحقاً بتقديم معلومات للسّلطات (الحليفة للولايات المتحدة حصراً) سهّلت القبض على الناشطين وإقصاء الحراكات المعارضة. ناهيك عن مروحة عريضة من المجتمعات التي تدّعي الديمقراطيّة وتعرض النّاخبون فيها للخداع: من الأرجنتين إلى الهند، ومن جمهوريّات الماس الإفريقي إلى جمهوريّات الموز اللاتيني، ومن الولايات المتحدة إلى بريطانيا (بريكست تحديداً)، مروراً بإيطاليا وعدد من دول شرق أوروبا.

رغم موجة التشكيك الواسعة بشركات التكنولوجيا الكبرى – وعلى رأسها فيسبوك – نتيجة لتأكد التوقعات بشأن الدور السلبي لمواقع التواصل الاجتماعي على العمليّة السياسيّة، فإن الأرقام التي تعلنها تلك الشركات تشير إلى أن أعمالها تنتقل من ازدهار لرخاء، وأن أرباحها (من بيع معلوماتها المتراكمة عن مستخدمي الموقع للراغبين من تجّار ونخب وحكومات) تتضاعف إلى مستويات فلكيّة. فيسبوك مثلاً – مع تعرضها لغرامات حكوميّة كلفتها ملايين الدّولارات إثر فضيحة أناليتيكا – حققت أرباحاً قياسيّة تجاوزت 2.6 مليار دولار بينما وصل عدد مستخدمي الموقع إلى 1.6 مليار حساب يومياً، و 2.4 مليار حساب شهرياً.

وحتى الذين هجروا فيسبوك، بقوا بشكل أو آخر في شبكته العنكبوتيّة المسمومة عبر حساباتهم على واتس أب أو انستغرام وهما ممتلكات سيبيريّة تتبع الشركة المالكة للموقع الأزرق ذاته.

أسرار محمّد علي: السيسي خسر المعركة على فيسبوك

اجتاحت مصر في الأسابيع القلية الماضية حُمّى البث عبر فيسبوك بعد أن بدأ مقاول مصريّ كان مقرباً من النظام لسنوات كثيرة ببث سلسلة مقاطع يوميّة من منفاه الاختياريّ بإسبانيا أطلق عليها اسم “أسرار محمّد علي” ،كشف فيها عن حجم فساد هائل في المؤسسة العسكريّة المصريّة لا سيّما داخل الدائرة الضيقة من القيادات العليا، وعلى رأسها الرئيس نفسه عبد الفتاح السيسي. وللحقيقة فإن تلك الأسرار الموصوفة لم تكن سوى تأكيد للمعلوم بشأن طبيعة الدّولة العميقة التي تحكم مصر، تقدّم بطريقة شديدة الشعبويّة دون أيّ إطار نظريّ أو فكري، إلا أنها انتشرت في الفضاء المصري انتشار النّار في الهشيم، وأصبحت بيوم وليلة الشغل الشاغل لكتلة هائلة من المصريين العاديين الذين صُدموا بتصريحات رجل كان إلى وقت قريب أحد اللاعبين الكبار في قطاع المقاولات المصري الاستراتيجي ومقرباً من السّلطة، متوفرة لهم على هواتفهم النّقالة بأسهل الطّرق، وبلهجة شوارعهم المفهومة.

إستنفار أجهزة السلطة للتعامل مع “فيديوهات محمد علي” فشل إلى الآن في استيعاب حجم الضربات المعنوية التي تلقاها النظام، ولم يفلح طقم الرّدح المعروف على قنوات التّلفزيون المصري إلا في زيادة شعبيّة القائد الثوريّ الجديد الغاضب، بينما بدت تعليقات الرّئيس العلنيّة أمام حشود مؤيديه أقرب إلى مواد خام جديدة لمزيد من الفيديوهات بدلاً من أن تطيح بالقديم منها. وحتى لمّا تفتقت عقليّة النظام عن خطّة مواجهة جديدة في إطار “داوني بالتي كانت هي الداء”، فإن عشرات أصحاب الفيديو الجدد من المسبحين بحمد السيسي ولاعني صاحب الأسرار لم يتمكّنوا من الوصول، ولو إلى عشر شعبية محمّد علي.

لكن هذا الصدام العلني الذي يتم لحظياً على ساحة فيسبوك ليس بالطبع مكسباً للديمقراطيّة بمصر. فالموقع الأمريكيّ يمكنه أنّى شاء إعدام وشنق أيّ صوت لا يناسب مصالح الإمبراطوريّة، وهو – كما فعل مراراً – يستطيع تمرير معلومات متابعي محمد علي إلى السلطات الأمنيّة المصريّة، ولذا فإن الطرفين يلعبان حصراً ضمن شروط فيسبوك. والأهم من ذلك، أن الأخير سيضيّق أمام الغالبية من المصريين العاديين مجال الاختيار الحقيقي بتغييبه الحاسم لأي صوت عقلاني مختلف، ليقتصر التنافس على ثنائيّة ممثل المنظومة مقابل الثريّ الشّعبوبيّ (الذي كما تتوالى التكهنات يتلقى دعماَ من مراكز قوى داخل النظام نفسه)، تماماً كما كان حال المسرحيّة الديمقراطيّة في واشنطن ذاتها (هيلاري المنظومة في مواجهة ترامب الثريّ الشعبوي).

ماذا تفعل طائرة فيسبوك الخاصة في تل أبيب؟

مسرحيّة الديمقراطيّة الإسرائيليّة انتقلت بقضّها وقضيضها في انتخابات الأسبوع الماضي إلى فيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي على حساب قنوات الإعلام التقليدي. وقد بذلت السّلطات الحكوميّة هناك جهوداً استثنائيّة لمواجهة الاستخدام المكثّف من قبل الأحزاب السياسيّة والأطراف المرشّحة لأدوات التأثير السيبيريّة على النّاخبين. ولعل رحلة غامضة لطائرة خاصة تتبع شركة فيسبوك وصلت إلى مطار بن غوريون قبل موعد الانتخابات بأيّام وأقلت عدداً من كبار الموظفين بالشركة بغرض التواصل مع الجهة الناظمة لخدمات الانترنت في الأراضي المحتلّة تشير إلى تلك السلطة المتزايدة لموقع فيسبوك تحديداً في إدارة وهم العمليّة الديمقراطيّة حتى في دولة مصابة ببارانويا أمنيّة مزمنة مثل الكيان العبري.

أثينا مزيفة، وموعدنا عرس التّجديد لترامب 2020

هي أوهام الديمقراطيّة إذن، تلك البضاعة التي نشتريها من المالك السبيري الشبحي نفسه “فيسبوك”، مقدّماً اوراق اعتماده فضاء أثينياً جديداً حيث يتداول المواطنون شؤونهم علناً ومباشرة ويُدلي كل بآرائه بالكتابة والصوت والصورة دون قيود حتى للمغفلين منهم. لكن هذه الأثينا الأمريكيّة المدّعاة ليست سوى بائعة هوى فاجرة، تقدّم للجمهور المغيّب بدائل لا يتعارض أيّ منها مع مصالح الإمبراطوريّة، ولا تخدم في النهاية سوى ديمومة هيمنة النخب الحاكمة بغض النظر عن الأسماء والوجوه الفرديّة. مع ذلك، فإن هذا التزييف يبدو قادراً بالفعل على إنهاء الحاجة إلى التلفزيون وقنوات الإعلام التقليدي برمتها، وسيتسبب في تحقق كارثة التجديد لترامب لفترة رئاسة ثانية. فالرئيس العتيد الذي نُصِرَ بفيسبوك عام 2016، لا مندوحة لديه الآن من تكرار ذلك التعاون البنّاء مرة ثانية في 2020، لا سيّما وأن أغلب قنوات التلفزيون الجماهيريّة الكبرى في الولايات المتحدة لا تكنّ له عميق ودّ، وعندها سيكون انتصار ترامب إشارة البدء لأعمال دفن الرّاحل الكبير (التلفزيون) على الهواء مباشرة، وعبر خدمة البث الحيّ على فيسبوك حصراً.

 

ندى حطيط – كاتبة وإعلامية لبنانية بريطانية – لندن

القدس العربي

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023