تدرك المقاومة الفلسطينية أن المعركة السياسية التي تخوضها ضد العدو الإسرائيلي وحلفائه على طاولة المفاوضات غير المباشرة في القاهرة والدوحة، هي أشد صعوبةً بكثيرٍ من المواجهة العسكرية التي تخوضها على الأرض وفي الميدان، فهي قد خبرت العدو في الحرب وعرفته، وجربته في القتال وعركته، وعرفت أنه لا يستطيع كسرها والقضاء عليها، ويعجز عن استئصالها والسيطرة عليها، وقد فشل مراراً في تحقيق أهدافه التي أعلن عنها، وعجز عن تحقيق أيٍ منها، رغم المجازر التي ارتكبها، والمذابح التي قام بها، والغارات التي نفذها، والأسلحة التي استخدمها، والطائرات الحديثة التي استعان بها، وبقي على مدى أكثر من مائتي يوم الحرب على بعد خطوةٍ واحدةٍ من أول الحرب وبداية العدوان.
ولعل المقاومة قد صمدت في وجه العدوان وأعيته، وأفشلت مخططاته وأحبطته، وبددت جهوده وأربكته، وكبدته خسائر وأوجعته، وأعلنت أنها قادرة على الصمود في وجهه لأشهرٍ أخرى قادمة، وقد أثبتت بالقوة والفعل، على الأرض وفي الميدان، أنها ما زالت تسيطر وتتحكم، وأنها تنظم وتنسق، وأنها قادرة على إعادة تنظيم صفوفها وترتيب أمورها، وترميم ما أصابها والنهوض من جديد بعد كل غارةٍ وجولة، وقد أطلقت من جديد صواريخها على الوسط ومستوطنات الغلاف، وقنصت جنود العدو ونالت منهم، وقصفت حشوداتهم وأصابت تجمعاتهم، واستهدفت مجمع نتساريم وبيت حانون، وكرم أبو سالم وغيرها من الأهداف العسكرية، التي ظن العدو أنه آمن فيها، وأن المقاومة عاجزة عن الوصول إليها وإصابتها.
أما على طاولة المفاوضات وخلال جلسات الحوار غير المباشرة، فإن المقاومة تدرك أن أطراف معسكر الأعداء يتحالفون مع الكيان الصهيوني، ويتآمرون معه عليها وعلى الشعب الفلسطيني وحقوقه، وأنهم جميعاً يتكالبون ضدهم ويتحدون في مواجهتهم، ويريدون أن يستفردوا بها على طاولة المفاوضات، وأن يأخذوا منها بالحيلة والخديعة ما عجزوا عن تحقيقه بقوة السلاح ووحشية العدوان، ويرون أنهم بالسياسة أقدر وبالحنكة أقوى، وأنهم يملكون ما يهددون به، وعندهم ما يخيفون المقاومة ويدفعونها إلى التراجع عن شروطها، والتنازل عن مواقفها، وإلا فإن الحرب ستستمر، والاحتلال سيبقى، ولن يتمكن الفلسطينيون من العودة إلى بيوتهم، وإعادة إعمار مناطقهم، وتحسين شروط عيشهم، وترميم ما أصاب مناطقهم ومنازلهم من خرابٍ ودمارٍ.
إلا أن المقاومة المتمسكة بحقوقها والمصرة على شروطها، والثابتة على مواقفها، تدرك خطورة المعركة السياسية وخبث أطرافها، وتعلم يقيناً أنها مليئة بالفخاخ والشراك، وأنها وحدها في مواجهة الذئاب والثعالب، الذين يتربصون بها ويحاولون خداعها، ويتآمرون عليها ويريدون الفتك بها، وأنهم جميعاً يريدون كسرها وهزيمتها، ونزع أسلحتها وتقليم أظافرها، والقضاء على كل مظاهر قوتها، ويطمعون في إقصائها واجتثاثها من جذورها، والحيلولة دون عودتها إلى السلطة، أو التقاط أنفاسها والعودة إلى بناء قوتها وإعادة تنظيم صفوفها، والسيطرة على مقاليد الحكم في قطاع غزة.
لهذا فهي كما تميزت وشعبها بقدرتها على الصمود والثبات في مواجهة المذابح والمجازر الهمجية المنظمة، واستطاعت مواصلة القتال على مدى سبعة أشهرٍ، فقد تميزت أيضاً برشدٍ سياسي كبيرٍ، وعقلٍ راجحٍ وحكمةٍ وزانةٍ، واستطاعت بما تراكم لديها من خبرةٍ وتجربةٍ أن تعي المخاطر التي تحدق بها، وأن تستكشف طريقها الوعرة، وتعرف المسارات الصعبة التي يجب أن تسلكها، وأن تتجاوز ما يراد بها ويخطط لها، ولهذا فهي تركن بعد الله عز وجل إلى صبر شعبها وثبات أهلها، وقوة سواعدها وصلابة رجالها، وتعتمد على قوتها لضمان أمنها وسلامة مستقبل شعبها، إذ بغيرها يستفرد العدو وحلفاؤه بها، وينال منها ومن أهلها، ويحقق ما كان يحلم به ويتمناه، وما عجز عنه وأعياه.
وعليه فإنها لن تقبل على طاولة المفاوضات، مهما بلغت ضغوطات الوسطاء وتهديدات الوكلاء، وجعجة العدو وهرطقة قادته وجنرالاته، بغير إعلان إنهاء الحرب رسمياً، ووقف العدوان قولاً وفعلاً، وانسحاب جيش العدو من كل القطاع وتفكيك تجمعاته وإعادة وحداته، ولن توقع على اتفاقٍ مع العدو يرجئ القتل ويؤخر العدوان، ويتهيأ به بعد أيامٍ مهما طالت لمواصلة الحرب واستئناف القتال، فعهد المقاومة به أن يكذب ويخدع، ويناور ويحتال، ولولا أنه في مأزقٍ يعجر عن الخروج منه، وأنه وصل إلى طريقٍ مسدود لا منفذ فيه، ما لجأ إلى المفاوضات ووكل بشروطه الوكلاء.
استناداً إلى التجربة والوعي، فإن المقاومة لن تطمئن إلى وعود الوسطاء وضمانات الكفلاء بأن ربيبتهم ستخضع وستلتزم، وستقبل بالشروط وستحترم، ولن تعاود بعد استعادة أسراها واستنقاذ جنودها الحرب من جديد والغارات مرةً أخرى، لعلمها أنها ضماناتٌ واهيةٌ ونوايا كاذبة، وهم أضعف أمام الكيان من فرضه عليها وإلزامه بها، فضلاً عن أنهم والعدو شركاء في العدوان، وأصلان لا يفترقان، وصنوان يتفقان، وحليفان يتشابهان ولا يختلفان، ويكذبان ولا يفيان.
moustafa.leddawi@gmail.com