بقلم د. مصطفى یوسف اللداوي |
لیس مثلك یا رسول الله أحدٌ من الخلق، فأنت سید الأولین والآخرین، وخاتم الأنبیاء
والمرسلین، والمبعوث رحمةً للعالمین، والشاھد على العباد یوم الدین، سادن البیت
الحرام، وآمر الحوض الأكبر وصاحب الكوثر، أول من ینشق علیھ قبره، ویبعث من
موتھ، لھ أبواب الجنة تفتح والسماوات السبع بعروجھ تسعد، قد اجتباك الله وانتقاك،
وتكفل بك ورعاك، وحفظك من كل سوءٍ وأعطاك، وأنزل علیك الكتاب وعلمك، وأیدك
بالقرآن وأدبك، ورفع بالإسلام قدرك وشرح بھ صدرك، فكنت الرسول الأكرم والنبي
الأشرف، صلیت بالأنبیاء والمرسلین في الأقصى إماماً، وتجاوزت الأمین جبریل إلى
سدرة المنتھى قدراً ومقاماً، وتشرفت برب العزة إذ خاطبك، فكنت صاحب الحظوة
والمكانة والدرجة العالیة الرفیعة، التي لا یحلم بمثلھا ملكٌ مقربٌ ولا نبيٌ مرسل، فأعظم
بك یا حبیب الله رسولاً ونبیاً، بك نتشرف وإلیك ننتسب، ولدینك نتبع، ونشھد ألا إلھ إلا
الله وحده، وأنك رسولھ الأكرم، ونبیھ الأمجد، خیر من سكن الأرض وأشرف من طلعت
علیھ الشمس.
بأبي أنت وأمي یا رسول الله وحبیبھ، وصفیھ من خلقھ وخلیلھ، ما أحوجنا إلیك، وما أشد
حاجتنا إلى سنتك، وما أعظم حنیننا إلى نھجك، وما أسمى أمانینا معك، وما أجمل أیامنا
وأفضل زماننا بصحبتك، وما أسوأ حالنا بدونك، وما أشقانا من غیرك، وما أضلنا بعیداً
عن دینك، وما أضعفنا بغیر كتابك، وما أھوننا على الناس من بعدك، وما أتعسنا إذا
انتسبنا لغیرك، وما أضلنا إذا اھتدینا بسواك، فقد سدنا یوم كنا معك، وتقدمنا عندما اتبعنا
سنتك، وأصبحنا سادة الأمم عندما حملنا رسالتك، وآمن بنا الناس وصدقتنا الأمم یوم أن
روینا أحادیثك، ونقلنا سیرتك، واقتفینا أثرك وعملنا بسنتك.
لكننا الیوم یا رسول الله في حالٍ سیئٍ وواقعٍ تعیسٍ، وحیاةٍ مذلةٍ وظرفٍ بئیسٍ، تداعت
علینا الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتھا، اجتمعت علینا واتحدت ضدنا، وتآمرت علینا
ونالت منا، ونھشتنا وألقت بنا، وفرقت بیننا وتغلبت علینا، وأشعلت بیننا الحروب
وجلست تتفرج علینا، وساعدھا كثیرٌ من بني جلدتنا ومن أھل ملتنا، ممن خانوا أماناتھم
وانقلبوا على عھودھم، وتآمروا على أمتھم ولم یحفظوا دینھم، فكانوا أداةً للتخریب
ومعولاً للدمار، وسبباً فیما نحن فیھ من تیھٍ وضیاعٍ، وفرقةٍ وتشرذم، وضعفٍ وقلة حیلةٍ،
2
إذ اشتركوا في الجریمة على أمتھم فكانوا للعدو شریكاً وسنداً، فخسروا أنفسھم وأھلیھم،
وفقدوا أملاكھم وبلادھم، وضیعوا حیاتھم وأوطانھم، وبددوا ثرواتھم وخیراتھم.
لا یسرك یا رسول الله ما نحن فیھ ولا یرضیك، فما كنت تظن یوماً أن یحل بأمتك ما
أصابھا، أو ینزل بھا ما أھمَّھا، فقد أصابنا السقم وحل بنا السأم، وفقدنا الطریق وأضعنا
الھدف، وَحِدْنَا عن الصراط المستقیم الذي رسمتھ لنا، وابتعدنا عن الغایة التي حددتھا
لنا، فأصبحنا في آخر الركب وفي أذیال الأمم، نلھث ولا نلحق، ونجري ولا ندرك،
فاستعبدتنا القوى واستعمرتنا الدول، وسرق خیراتنا الأقویاء الظالمون، واعتدى علینا
الفاسدون المجرمون، ولم یعد لنا حولٌ فنمنعھم ولا قوة فنصدھم، إذ عرفوا كیف یبعدوننا
عنك یا رسول الله، وكیف یجعلوننا عن دینك غرباء، وللدنیا عبیدٌ وأجراءٌ، بعد أن زینوا
لنا الضلالة وجملوا لنا الفسق، وصدروا لنا كل غریبٍ لا ینفعنا، وكل ضارٍ یفتك بنا،
فضللنا إذ صدقناھم، وانحرفنا عن الحق وجادة الصواب إذ اتبعناھم.
یا رسول الله لم نعد من بعدك على خلقٍ عظیمٍ، ولم تعد أخلاقنا القرآن كما كانت أخلاقك
وشھدت بذلك أم المؤمنین عائشة وصحابتك الكرام، فقد ساءت أخلاقنا، وتردت قیمنا،
وتبدلت مفاھیمنا، وانحرفت سبلنا، وانحطت ھممنا، وفقدنا النبل والشھامة، والصدق
والشرف والأمانة، وأصبحنا نكذب ونسرق، ونخون ونغدر، ونعتدي ونظلم، ونفتك
ونقتل، ولم تعد بیننا أواصرٌ ووشائجٌ، ولا محبة ولا تراحم، ولا أخوة رحمٍ ولا صلات
قربى، إذ حكمتنا المنافع والمصالح، وسیطرت علینا الدنیا والمطامع، وتحكمت بنا
الأھواء والفواحش، فَعَمّتَ بیننا الحروب، وسكنت بلادنا المطاحن، حتى غدت الدماء
سیولاً، وصارت البیوت أطلالاً، وأصبحت المباني والمساكن ركاماً وخراباً.
یا رسول الله لم نعد نحن كما كنت فینا رحیماً بأمتك، محباً لھا شفوقاً علیھا، تحزن لأجلھا
وتبكي خوفاً علیھا، ویضطرب قلبك حباً لھا وشفقةً بھا، بل أصبحنا قساةً عتاةً جفاةً غلاظ
القلب، لا نرحم بعضنا ولا نحب أنفسنا، ونفضل العدو على أبناء دیننا وأھل ملتنا، حتى
غدا الأعداء في بلادنا كرماء أعزاء، وأصبحنا نحن فیھا غرباء أذلاء، وصرنا أشداء
على بعضنا رحماء على غیرنا، نھرب من بلادنا، ونفر من أوطاننا، ونستجیر بالعدو
خوفاً من حكامنا، وطلباً للعدل والأمان من جور أنظمتنا، ونحن الذین نتبع النبي العربي
الذي أرسلھ الله بالھدى ودین الحق رحمةً للأمم ورسولاً إلى العالمین، ھادیاً ومبشراً
ونذیراً، إلا أن بعضاً من أمتك یا رسول الله قد بدلوا وغیروا بعدك، وإني لأكاد أسمعك یا
رسول الله تقول “سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي”.
3
یا رسول الله نحن لم نعد الأمة الوسط التي أرادھا لنا أن تكون خیر أمةٍ أخرجت للناس،
والتي تباھي بھا الأمم یوم القیامة، وتفتخر بھا بین یدي الله عز وجل في حضرة الأنبیاء
والمرسلین، فنحن لم نعد الأفضل ولا الأمثل، ولم نعد النموذج ولا المثال، بل صرنا
مضرب المثل في الفسق والضلال، وفي الانحراف والفساد، وفي البغي والظلم، وفي
الاعتداء والخیانة، وفي الكذب وفقدان الأمانة، وصارت صورتنا أمام الآخرین سوداء
مظلمة، حالكة معتمة، لا قیمة للإنسان فینا، ولا قدر للمواطن بیننا، ولا قداسة للقیم ولا
حرمة للحقوق والدم، ولا ضمانة للحریات والممتلكات، ولا صدق في الكلام ولا أمانة
في التعامل.
محمدٌ یا رسول الله یا نبي الرحمة ورسول السلام، یا خیر من وطئت الأرض قدماه، في
یوم مولدك الأغر، وفي یوم میلادك العظیم، نسأل الله الرحمة بأمتك، والرفق بأتباعك،
والنجاة لأصحابك وإخوانك، ونرفع بعالي الصوت إلى الله بالدعاء ونجأر، أن أعدنا إلى
نھج نبیك، وحصنَّا بكتاب رسولك، وأعدنا إلى المحجة البیضاء التي لیلھا كنھارھا، لنعید
مجد المسلمین وعزة الأولین، ونستعید وسطیة الأمة، ونكون فیھا الأقوى والأفضل،
والأكثر خیریةً ونفعاً، وصلى الله علیك یا رسول الله في الملأ الأعلى وفي أعلى علیین
إلى یوم الدین، وعلى آلك الأبرار، وصحبك الكرام وأھل بیتك الطیبین الأطھار، ومن
تبعك بإحسانٍ إلى یوم الدین.
moustafa.leddawi@gmail.com