منذ وصوله إلى الرئاسة الأميركية، لم يتوقف هيجان الرئيس ترامب عن اتخاذ قراراته التعسفية ضد دول وحركات وشخصيات وطنية، ترفض الهيمنة الأميركية وإملاءاتها بكل أشكالها، وتحرص على سيادتها واستقلالية قرارها ونهجها الحر. فمن روسيا وإيران والصين وكوريا الشمالية مروراً بسورية وفنزويلا وكوبا ونيكاراغوا، وصولاً إلى حركات المقاومة ومناضليها في فلسطين ولبنان والعراق واليمن، يصرّ «الكاوبوي الأميركي» على تطويق الدول والحركات، ومعاقبة المقاومين للهيمنة والاحتلال، لأنهم يشكلون له ولعلمائه تحدياً مباشراً، يحبطون سياساته المتهورة، التي أفقدت الولايات المتحدة صدقيتها ونزاهتها، لعدم التزامها بالاتفاقيات الموقّعة من جانبها، وبالقوانين الدولية، وعدم الاكتراث بالأحكام وبميثاق الأمم المتحدة وهي تتعاطى مع دول العالم. إجراءات وقرارات وعقوبات وحصار يصبّ في كل الاتجاهات، يتخذها ترامب بكل عنجهية واستبداد، ضد هذه الدول، ظناً منه، أنه يستطيع لوي ذراعها، وحملها بالقوة على الإذعان لإرادته وسياساته. وما إيران إلا واحدة من هذه الدول، التي تجد نفسها، منذ قيام ثورتها عام 1979، أمام مواجهة شرسة ومتواصلة مع الجبروت الأميركي، الذي لم يتوقف يوماً، عن محاولاته في زعزعة النظام الإيراني، والانقضاض على الثورة، وإطاحتها. والتي تشكل له ولحلفائه في المنطقة، تحدياً متواصلاً، وخصماً عنيداً وشرساً، وهو يتصدى لمشاريعه ومؤامراته، ويعمل على إفشال خططه الرامية إلى احتواء المنطقة كلها، وجعلها داخل دائرة نفوذه، يحقق له المزيد من الهيمنة عليها، واستغلاله بشكل كامل لثرواتها وخيراتها، دون أي معارضة أو مقاومة، وهو الذي تعوّد أن يتعاطى مع نماذج من «حكام» في المنطقة والعالم، يأمرهم ويطيعون، يحاسبهم ويدفعون، يحميهم وينوخون، ويذلهم وهم قانعون.
هي حال إيران الثورة اليوم، وهي في مواجهة القرصان الأميركي الذي يستعد يوم 2 أيار المقبل، لفرض المزيد من العقوبات الأميركية الظالمة الأحادية الجانب عليها، التي لم تتوقف منذ أربعين عاماً، وتأتي بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، غير مكترثة بالمجتمع الدولي ولا بالدول الموقّعة عليه، ولا بقرار مجلس الأمن ذات الصلة القاضي برفع العقوبات عن إيران. انسحاب يعرّي أخلاق سياسة ترامب، ويكشف زيف صدقيتها ونزاهتها، ومدى احترامها للمبادئ والقيم التي رفعتها الثورة الأميركية.
بعد ان تقدمت إيران بشكوى ضد الولايات المتحدة أمام محكمة العدل الدولية في 16 تموز 2018، احتجاجاً على إعادة فرض عقوبات اقتصادية ومالية عليها، وذلك بعد خروجها، أصدرت المحكمة الدولية حكمها في 3 تشرين الأول 2018، ألزمت بموجبه الولايات المتحدة، برفع العقوبات التي تطال السلع «ذات الغايات الإنسانية» عن إيران، على أن لا تؤثر هذه العقوبات على المساعدات الإنسانية، وسلامة الطيران المدني الإيراني. ورغم ذلك لم تكترث واشنطن بقرار المحكمة الدولية، بل ذهبت بعيداً لكي تفرض عقوبات أكثر شدة في 5 تشرين الأول 2018، تشمل صادرات النفط، والشحن، والمعادن، وكل القطاعات الأساسية في الاقتصاد الإيراني.. عقوبات رأى فيها ترامب، أنها الأشد على الإطلاق. وأن الولايات المتحدة سوف تستهدف بحزم أي شركة أو كيان يتحايل على العقوبات.
واشنطن تريد من دول العالم تحت التهديد، وقف العمل مع طهران، والالتزام الكامل بالعقوبات الأميركية الأحادية الجانب المفروضة عليها، وذلك من أجل تحقيق أهداف عدة:
1 – وقف تدفق النفط الإيراني إلى دول العالم، وتصفير صادراته إليها مما سبّب حتى الآن، في انسحاب أكثر من 100 شركة عالمية ضخمة من إيران، ووضع 700 كيان وفرد على اللائحة السوداء.
2 – قطع أنظمة السويفت جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك تعاملها مع البنوك الإيرانية، لعزل إيران عن النظام المالي الدولي.
3 – خنق الاقتصاد الإيراني دولياً، من خلال التهديد الأميركي بفرض العقوبات على كل جهة تخرق العقوبات الأميركية، ولا تتقيّد بها نصاً وروحاً.
4 – الضغط على الداخل الإيراني، لحمل الشعب على التحرك والانتفاضة ضد النظام، وتحميله المسؤولية، وتحريضه على العصيان، وإيجاد الشرخ بين النظام والشعب الإيراني، وحضّه على الثورة وتغيير النظام.
5 – تدهور العملة الإيرانية وتراجع قوتها الشرائية وارتفاع معدل التضخم.
6 – التأثير السلبي للعقوبات على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي، والارتفاع العشوائي لأسعار السلع الاستراتيجية.
7 – تدهور الاقتصاد الإيراني وإعاقة التطور للبلاد، والحد من النمو للإنتاج القومي، وارتفاع البطالة، وضمور خطط التنمية الخمسية.
وللعودة عن هذه العقوبات، تشترط واشنطن على إيران أن تستجيب لاثني عشر مطلباً أبرزها:
أ – وقف تخصيب اليورانيوم وإغلاق المفاعل العامل على الماء الثقيل. وهذا يعني عملياً وقف البرنامج النووي السلمي الإيراني بالكامل.
ب – منح مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، حق الوصول إلى كل المواقع العسكرية في البلاد. والغاية الأميركية من ذلك، كشف المواقع العسكرية الإيرانية كلها للعدو وللعالم، وبالتالي تعريض الأمن القومي الإيراني للخطر.
ج – وقف نشر الصواريخ البالستية والتطوير اللاحق للصواريخ القادرة على حمل الأسلحة النووية. بهذا تريد الولايات المتحدة حرمان إيران من أي قوة ردع صاروخية مهمتها الدفاع عن أرضها وحماية أجوائها.
د – تنسحب كامل القوات التي تخضع للقيادة الإيرانية من سورية. والهدف هو تجريد سورية من دعم حلفائها وتركها فريسة لواشنطن وقوى الإرهاب المدعومة من الخارج، التي تعمل على إطاحة النظام والإتيان بنظام عميل يتماشى مع سياسات واشنطن وحلفائها في المنطقة.
هـ – فك ارتباط إيران مع دول الجوار، لا سيما العراق الذي يشكل لها بوابة رئيسة تطل منه على المنطقة، نظراً لما يشكله هذا الارتباط من تعزيز العلاقات الثنائية المشتركة للبلدين، وحضورهما الفاعل على الساحة المشرقية.
و – التوقف عن تقديم الدعم «للمنظمات الإرهابية». وهو وصف تطلقه واشنطن والعدو الإسرائيلي على حركات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن وغيرها، حتى تتمكّن من القضاء عليها، وبسط نفوذها، واستئثارها بالمنطقة ومن ثم إدخالها في صفقة العصر.
ز – وقف دعم المقاومة، أي «الإرهاب» – بمفهوم واشنطن – من قِبَل فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني.
مطالب واشنطن التعجيزيّة، يريد منها ترامب تحجيم وتقزيم الدور الإيراني وشلّ قدراته، والنيل من سيادة إيران، وقرارها المستقل، والالتفاف على الثورة وجعلها أسداً من دون أنياب، أمام هجمة أميركية شرسة لن تتوقف ضدها، تهدف أولاً وأخيراً إلى تصفية حساب واشنطن مع النظام والثورة، وإطاحتها بكل الوسائل، لإعادة إيران من جديد، إلى بيت الطاعة الأميركي، بكل ما يحويه هذا البيت من تسلط وهيمنة وابتزاز، واستبداد وتوحش واستغلال.
بعد أربعين عاماً من الثورة، وما رافقها من سياسات أميركية وصهيونية – عربية وقحة تجاه طهران، ورغم مروحة العقوبات الواسعة والظالمة المفروضة عليها، التي آذت دون شك إيران وشعبها، وأعاقت طموح الإيرانيين في تنمية البلاد وتحقيق إنجازات أكبر من الإنجازات الكثيرة الباهرة التي حققوها على الصعد كافة، فإن هذه العقوبات لم تستطع أن تلوي ذراع الثورة الإيرانية وقيادتها، ولا أن تحبط من عزيمة الإيرانيين وعنفوانهم وإصرارهم، بل أعطت إيران زخماً وحافزاً قوياً للاعتماد على الذات، ونقل إيران إلى مواقع متقدمة على الصعيد العلمي والصناعي والعسكري والبحثي والتكنولوجي والاستراتيجي.
تصفير صادرات النفط الإيرانية لن ينجح وسيُمنى بالفشل. فإيران لديها الوسائل العديدة، والخبرة الكافية لإفشال العقوبات في هذا المجال، كسبتها على مدى عقود وهي تتعامل مع سياسات الولايات المتحدة المستبدة حيالها، وحيال شعبها وثورتها.
مشكلة الرئيس ترامب تكمن في أنه لا يعرف بعد، مدى صلابة الشعب الإيراني، ولم يختبر عن قرب معدنه وعقيدته. شعب خبِر جيداً سلوك الولايات المتحدة، وما سببت له من ويلات، عانى منها الأمرّين على مدى عقود، جراء سياساتها المستبدة، ودعمها المتواصل لقوى الشر والإرهاب التي فتكت بدول المنطقة، وحمايتها لطغاة العالم، من أجل الحفاظ على مصالحها واستغلالها لثروات الشعوب المستضعفة ونهب خيراتها.
لم يدرك ترامب بعد، أن الشعب الإيراني الملتف حول قيادته، وحول جيشه وحرسه الثوري، والمتمسك بحقه وكرامته دون هوادة، قادر على أن يتحمل المزيد من العقوبات الشرسة وإحباطها دون التفريط بمبادئه وحقوقه وعقيدته وانتمائه ومواقفه الثابتة، في الدفاع عن وطنه وقيمه، ومواجهة قوى الاستبداد السياسي، والإرهاب الاقتصادي، بكل أشكالهما مهما كلّف ذلك من ثمن.
أمام العقوبات المنتظرة، ليس من خيار لإيران إلا الصمود. فهذا قدرها… صمود وإن طال الزمن، فسينتصر في نهاية الأمر، لأنه يعبّر بكل قوة، عن إرادة شعب في الحياة الحرّة الكريمة، ويعبّر أيضاً عن ثورة ارتضاها لنفسه، يحصّنها ويحميها، وإن تربّص بها طغاة العالم، يرعاهم ويقودهم قرصان هائج.
*وزير خارجية لبنان السابق
الوسومالاتفاق النووي العقوبات الامريكية عدنان منصور
شاهد أيضاً
العلماء الإيرانيون ينجحون في إنتاج “نواة السيزيوم 137 المشعة”
نجح العلماء النوويون والمتخصصون في الصناعة النووية الايرانية لأول مرة في إنتاج “نواة …