الثلاثاء , 26 نوفمبر 2024
أخبار عاجلة

تونس في ظل تفكّك “روح الدّولة” وهيمنة “رجال الظلّ”..”من أجل جبهة وطنية للتّحرير”..بقلم: د. مصباح الشيباني

تداخلت اللّوحات الاستعراضية لـ” الكولونيالية الغربية الجديدة” مع ما جدّ على المشهد العربي العام، منذ انفجار الأحداث في تونس أواخر عام 2010، بما يضاهي الزّلزال المباغت، فكانت روح “الدّولة الانتدابية” وسيادتها أولى ضحايا هذه الأحداث المستجدّة العميقة، وانكشف المستور ، وتعرّى للرأي العام ما كان محتجبًا أمامه على مدى عقود.  وأهم ما تم كشفه وتعريته أمام عامة الشّعب أن أزمة “الدّولة الانتدابية”( دولة سايكس ــــ بيكو)، لا تتمثّل في خطأ في حسابات ديون متخلّدة بذمّتها، أو غش في إحدى الصّفقات التجارية “الغذائية” أو “العسكريّة” التي أبرمتها، بل هي أزمة وجود وقضية مصيرية تتمثّل في عملية التفويت فيها”مجانًا” وجعلها فريسة على مائدة اللئام.

هذه القضية المصيرية للأمة العربية عمومًا،وتونس خصوصا، تفرض علينا أن نعيد البحث لمعرفة الوجه الذي ألّف به المستعمرون الغربيون لبلادنا ووكلائهم المحليين السّابقون “شيعتهم” وأتباعهم، وكيف نجحوا في تجهيل عامة الناس وتحقيق غفوتهم عن تصحيح مسارات تاريخ بلادهم. لقد كانت تلك “الغفوة” بمثابة “الخطيئة” الأولى أو “الكذبة” الأسوأ في تاريخنا التي ساهمت في تخريب الوطن في غضون العقود الستّة الماضية.  لهذا، ينبغي أن نصحّح هذا المسار ونعيد التفكير في معاني هذه المفاهيم السّياسية المجرّدة مثل : مفهوم “السّيادة” و”الدولة” والديمقراطية”…الخ، وأن نساهم في إضاءة محتوياتها بالصّورة التي تجعل تبيئتها وتوطينها أكثر واقعية، وحتى نتخلص من تجريديتها ونفك مغلقات إشكالياتها في الفكر والممارسة معًا.

فكيف يمكن أن نوصّف الوضع التّونسي اليوم؟

إنّ سقوط الدولة جوهريا يسبق اضمحلالها شكليًا، باعتباره النّقطة التي تفشل عندها في الاستجابة إلى التحديات الداخلية والخارجية، ولأنّ بناءاتها السياسية والمؤسساتية لا تنهدم في لحظة واحدة، بل تتحلّل بالتدريج، ويستغرق تحلّلها أحيانا سنوات أو عقود من الزّمن( ولنا في ذلك أمثلة في تاريخنا العربي المعاصر في ظل نظام البايات مثلا في تونس).

يُعدّ مفهوم “السّيادة” الذي يستعمل لتوصيف أحد المقوّمات الثّلاثة لـ”الدولة الوطنية” ( الشعب ـ الأرض ـ السيادة) من أهمّ المفاهيم السّياسية الفضفاضة والضبابية وغير اليقينية الذي يحتاج إلى المراجعة وإعادة التّدقيق، والذي بات يثير جدلاً سياسيا كبيرا في ظلّ انتزاع شرعية هذه السّيادة من الشعب والتّلاعب بإرادته لخدمة مصالح “رجال الظلّ” الذين صادروا “روح الدّولة” وأعادوا “منطق الشعبويّة”((Bertrand Badie et Dominique Vidal, Le retour des populismes)، وأصبحت مصلحة “الجماعة” ( بالنسبة إلى حركة النهضة) تعلو على مصلحة الوطن. لقد تعقّدت هذه الأزمة نتيجة انتهاز “المقاولون” في السّياسة والدّين فرصة غياب الآليات الدّيمقراطية الشعبية للانقضاض على نظام سياسي وُلِد مبتورًا وفاقدًا للشّرعية التمثيلية وأصبح معطّلا، فاستغلوه للهيمنة على السّلطة والهيمنة على مؤسّسات الدولة.

إنّ علامة الانهيار في الدولة كما في حضارة أي شعب أو أمّة ما هو إلا الفشل في إيجاد نظم ثقافية واجتماعية وسياسية جديدة، أو في تغيير النظم الحضارية والاجتماعية القديمة، بحيث لا يستطيع المجتمع التعامل بنجاح مع التحديات المستحدثة في العالم، وبذلك يصاب المجتمع بالتيبّس والجمود الفكري، ويكون عرضة للمخاطر الخارجية التي تؤدي إلى انهياره النفسي. وإن انقراض الأمم ليس غريبا على التاريخ الحضاري المعروف، فقد انقرضت عشرات الأمم والحضارات ولم يبق منها إلا بعض آثارها المادية والتراثية.

ومن تجليات هذه الأزمة في تونس، خاصة بعد انتخابات 2014، تصاعد وتيرة الضغوطات الحكومية على الحراك الشعبي بمختلف أشكاله وعناوينه كلما انكشفت غطاءات شرعيتها الحقيقية التي تستمدها من الخارج. هذه الحكومة التي شكلتها السّفارة الفرنسية ــ روحًا وجسدًا ــ ليس في قائمة اهتماماتها برامجها ومشاغلها حماية المصلحة الوطنية. فقد تمكنت، وبمساعدة “رجال الظل”، من السّطو “غير الشّرعي” على الهياكل القضائية ( من أهمها دائرة المحاسبات بحسب ما ورد في تقريرها الأخير حول الفساد)، وتحكّمت في توجيه نتائج مداولات المجلس التشريعي وتشريعاته القانونية بحسب ما يخدم مصالح هؤلاء السّماسرة وحماتهم في الخارج، وعطلت أشغال الهيئات الدستورية من أجل تهيئة المناخ العام لإقامة نظام حكم فردي بتزكية خارجية أوروبية بشكل غير مباشر، وفرنسية بشكل عيني ومباشر ويومي وعلني. ووضعت الشعب بين فكي كماشة “الفرجة” و”التمرّد” من أجل تغيير ظروف لم تكن من صنعه ولم تكن نتائجها من انتظارته.

وإدراكا منا لخطورة المرحلة الراهنة، وتفاديا لكل استغلال محتمل ( غير بريء) ومغالطات لفظية لخصائص التجربة “الديمقراطية” التي لن تتعدّى مستوياتها “الفنيّة” والاحتفالية في بلادنا مادامت نتائجها مقرّرة عبر مغالطات “سبر الآراء” وأصحاب “المال السّياسي” وغيرها، والموضوعة حاليا تحت المجهر باعتبارها بوابة العرب لتبييض الاستعمار الغربي الجديد. فهذه المغالطة الخارجية الممزوجة بالتمويهات الداخلية لم تعد يخفى على عاقل، ولا تحتاج إلى بيان أو برهان بأن “فرنسا” وحلفائها ليس لها اعتراض على بناء نظام داخلي، مهما كانت نعوته ومواصفاته الشكلية، المهم أن تكون فيه هي المتحكّمة والحاضرة في “اللسان” و”الوجدان” والثقافة( الفرنكفونية)، وتكون الأحزاب المشكلة للحكومة مطبّعة مع الكيان الصهيوني وحامية لمصالحه ومشاركة له في المناسبات الرياضية والفنية وحتى في احتفالات “أعياد اغتصابه” لأرضنا العربية في فلسطين وغيرها ( مثلما هو حال البعثة الشبابية التونسية التي شاركت الصهاينة اليوم في 10 ماي 2019 في فلسطين المحتلة)، وأن لا يكون دورها يتعدّى “النّائبة للفاعل” في تمرير المشاريع والبرامج والاتفاقيات التي تشرّع حالة التبعية المؤبّدة ( إتفاقية التبادل الحر الشامل والمعق( (ALECAمع الاتحاد الأوروبي،والتي لن تستثني سطح الأرض التونسية وباطنها.

فأمام هذه الحقائق “المرّة” وغيرها، وأمام حساسية المرحلة والمنعرج الخطير الذي تعيشه تونس، ينبغي مراجعة القوى الوطنية المعارضة لهذه المسارات بالرّشد والحكمة، وبدرجة من الوعي والمسؤولية الجماعية لتغيير مجريات الأمور وتعطيل مسارتها التخريبية، قبل أن يسود الظلم ويشتد الاستبداد ويزداد خشونة وقساوة أكثر من أجل فرض حالة التطبّع مع الاستعمار بكل أشكاله. وليس أمام هذه القوى إلا أن تجتمع وتتوحّد تحت راية مشتركة عنوانها “جبهة التحرير الوطني” في كل أبعادها السياسية والثقافية والديبلوماسية. فلا معنى لأية تجربة سياسية في ظلّ انهيار مؤسسّات الدولة وتفكك روح السّيادة فيها. ولا شيء يمكن أن يسكّن الآلام الاجتماعية التي يعيشها المجتمع في مظاهر البؤس والفقر والمهانة غير تغيير المسار التاريخي للأحداث برؤية واضحة ومتبصّرة تنطلق من التجارب التاريخية “الناجحة” حتى يتحرّر الشعب من إرث الأوهام والكذب أولاً. ولعلّ أكبر هذه الأوهام وأخطرها التي ينبغي أن يتحرّر منها هي الاعتقاد بأنّ تونس “دولة مستقلة” و”ذات سيادة” والإسلام دينها والجمهورية نظامها مثلما ينص الدستور.

لقد وصلت الأزمة في تونس إلى حالة من تقديس الانتهاك للسّيادة الوطنية، والاهتمام بالتّفاهات وتغييب جوهر الأشياء، وأفرطت شبكات الفساد في تعاظمها وتوسّعها أفقيا وعموديا، وبدأت خيبات الأمل في ضبطها أو الحد من سطوتها على مؤسّسات الدولة تتأكّد يوما بعد يوم. لقد تعدّدت مسالكها التنويمية ـ الظاهرة والخفية ـ التي راهنت أساسًا على منطق “التّكاثر” والتعدّد في الحاكمين الصّوريين، وعلى التّبعثر في مناويل السّلطة ومؤسسّاتها وآلياتها الزبائنية والعصبية والمحسوبية، فوصلنا إلى مرحلة معاودة إنتاج “التبعية” بأيدينا دون خجل أو حياء. ومن النّادر جدا أن يدخل الاستعمار ويستوطن في بلد ما إذا لم سبقه انحلال داخلي يعمل على تفتيت النسيج الجامع والمشترك بين الناس، وتستعمل فيه جميع الوسائل الممكنة في عملية التفكيك والتخريب الممنهج، سواء كان بطرق سلمية و”ناعمة” أو عن طريق الحروب العسكرية، ولا يمكن أن يستوطن الاستعمار في بلادنا إذا لم يجد فينا من يمارس “الأنشطة “الطاعوية” و”التعبديّة” التي ترعاه وتقدّسه!

ومن المسائل التي باتت واضحة ومكشوفة بالوثائق، هي أنّ القيادات السياسية الحاكمة هي أكثر القوى المناهضة لاسترداد تونس سيادتها كاملة ( الداخلية والخارجية)، والتي تعمل على الاستسلام والخضوع إلى الأمر الواقع، وهي المناوئة لأي حراك شعبي اجتماعي أو سياسي أو ثقافي يدعو أصحابه إلى إستعادة تونس سيادتها ومراجعة اتفاقيات نهب ثرواتنا الطبيعية مع فرنسا والاتحاد الأوروبي، وإن كانت متعارضة في ما بينها شكلاً، فإنها متوافقة في مضامين الخيانة والعمالة ومعاداة إرادة الشعب والمصلحة الوطنية. لقد تمكنت حكومة الظل التي يقودها السفير الفرنسي من تعبئة أغلب القوى السياسية التي كانت بالأمس القريب تعارض فرنسا وتنعتها بكلّ النّعوت (حركة النهضة، والتيار الديمقراطي وغيرهما)، وتمكّنت من التأثير في وعي النخبة السياسية ومن إخفاء أنشطتها الاستعمارية القائمة على منطق الوصاية ( عبر الاتفاقيات الاقتصادية والثقافية..)، كل ذلك في محاولة لحجب حقائق الأمور التي لم تعد غير واضحة إلا بالنّسبة إلى الذين فقدوا بصيرتهم ولم ينشأوا على حب وطنهم، وباتوا يفتقدون إلى إدراك “المعنى السّليم” للأشياء، وأهمّها معاني “السّيادة” و”الوطنية” و”الديمقراطية” وغيرها.

في ظلّ تفككّ منظومة “الدولة الوطنية” وأركانها الأساسية( الشعب ـ الأرض ــ السيادة)، فكيف يمكن أن نتحدث عن دولة في غياب مقوّماتها وشروط وجودها؟ أم أنّ مائة تكرار للكذبة تصنع حقيقة!

إنّ إعادة كتاب تاريخ البلاد مهمة صعبة وتحتاج إلى تضحيات مادية وبشرية ولا يوجد طريق للخروج من المأزق غير “مسلك التّحرير الوطني” من الفساد الداخلي والتبعية للخارج. وكلما تأخّرت القوى الوطنية في إعادة تنظيم صفوفها وتشكيل جبهة موحّدة لتحرير تونس من “رجال الظل” وسادتهم، إلا وتعقّدت الحالة أكثر وخرجت عن السّيطرة وزادت حالة الاختلال للهياكل السياسية والدستورية والتشريعية وفق ما يخدم تركيز أسس الهيمنة الاستعمارية بأدوات داخلية. إنّ وحدة الصف والإيمان بحقنا في الاستقلال في إطار المبادئ والشرعيات الدولية، ومن “أجل جبهة تحرير وطنية” تواجه المحتل وعملائه على مختلف الجبهات السياسية والديبلوماسية والاقتصادية والثقافية. من أجل “ثورة راشدة” تعبّر عن الحد الأدنى من النضج السّياسي والمسؤولية الوطنية والأخلاقية، وتستمد شرعيتها من قواها الوطنية دون غيرها من الهياكل والمؤسّسات. فنضج الثورة وأصالتها تقاس بمدى استقلال قراراتها السّياسية بعيدا عن أية تدخلات خارجية مهما كانت نوايا أصحابها.

إذا كانت الأمم المتحدة قد اتخذت قرارا بوجوب منح الاستقلال للمستعمرات وانتهاء الاستعمار بمختلف أشكاله منذ ديسمبر 1960، فإنّ ذلك لا يعني انتهاء الاستعمار، فقد تغيرت أشكاله وصوره واستراتيجياته في بلادنا. بماذا يمكن أن ننعت عملية استنجاد “رئيسة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية” بالسّفير الفرنسي وطلب “التدخل العاجل” و”وفق الصيغ التي ترونها مناسبة”بحسب ما ورد في نص الرسالة المؤرخة في في 29 ماي 2015 لمواجهة الحراك الشّبابي في تطاوين الذي يطالب بالتّنمية وتأميم ثرواتنا النفطية؟  لماذا لم تستنجد برئيس الدّولة أو رئيس الوزراء  أو غيرهما من المسؤولين في الدّولة التونسية؟ هل يوجد استعمار أقبح من هذا!

من منا مازال لديه شك في أن تونس غير مستقلة بعد أن نشرت “هيئة الحقيقة والكرامة” عددا من الوثائق المتعلقة بالاتفاقيات الخاصة باستغلال ثروات البلاد، والتي دعّمتها المحكمة الإدارية في القضية عدد711807 بتاريخ 30 جويلية 2012، التي أكدت فيها أن وثيقة الاستقلال الداخلي” ( 3 جوان 1955) وبروتوكول الاستقلال التام المؤرخ في 20 مارس 1956 لم يتم نشرهما بالرائد الرسمي للبلاد التونسية، ألا يعني عدم نشرها أنّها “غائبة” تمامًا،  أو مضامينها لا تتوافق مع عناوينها؟

هل يكمن لشعب أن يبني دولته ويؤسّس تجربته”الدّيمقراطية” قبل أن يحرّر بلاده من الاستعمار مثلما تأكّد لنا من عديد الأمثلة والوثائق التي تحصلنا عليها في مختلف القطاعات: التعليم والإعلام والمال والميراث وغيرها؟ أليس الحديث عن “الديمقراطية” و”الانتخابات” في واقع الاحتلال والفساد وفقدان السّيادة على الأرض والعباد، هو مضيعة للوقت لن يخدم سوى أعداء الوطن، ولن يكون إلا كـمن يحرِثُ في البحر!

 

 

شاهد أيضاً

 “جَرَسِيّة الارهاب” في تونس وإيقاعاته على أوتار الأحداث الوطنية !…بقلم: د. مصباح الشيباني

  لم يعد الفساد في تونس ظاهرة شاذّة أو مخفية، كما لم يعد فشل الحكومة …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024