الولايات المتحدة تطلب من إيران العودة إلى المفاوضات. إيران بدورها ترفض التفاوض وهي موحدة خلف هذا الموقف، بكل اتجاهات الحكم فيها، وهذا مؤشر حاسم يحدد طريقة تعاطي الدول الغربية معها خلال المرحلة المقبلة، حيث أن جزءاً أساسياً من الرهانات الغربية كان منصبّاً على إحداث تباينات داخل إيران تساعد على ضعضعة الموقف الداخلي من دون حرب. وبما أن الموقف الداخلي موحد، على عكس الموقف الداخلي في إدارة ترامب، وفي الموقف الخليجي، فإن موقف السعودية وأهدافها من عقد القمم الثلاث لا يبدو سهل التحقق.
مع تبادل الرسائل الحامية بين واشنطن وطهران، وصمود هذه الأخيرة تحت وطأة التهديدات التي تبادلها رموز اليمين في الإدارة الأميركية مثل بولتون وبومبيو، وظهور تباين حاد في المواقف بين هذا الخيار وخيار الرئيس دونالد ترامب المتردد والخائف من خوض مواجهة واسعة مع إيران، وجدت الرياض نفسها أمام حقيقة الحاجة إلى تحصين موقفها المؤيد للمواجهة بأكثر مما تحتمله الحماية الأميركية لها.
فالرئيس الأميركي دائماً ما يشدد في خطاباته من وصوله إلى السلطة على أنه لا يدافع عن أحدٍ من دون ثمن. واتخاذه موقف تفضيل الحرب الاقتصادية على التدخل العسكري المباشر ترك حكام الرياض أمام مأزق مواجهة ردود الفعل الإيرانية، وتلك التي تتلقاها من حلفاء إيران في المنطقة، حيث لوحظ في الأسابيع الأخيرة ارتفاع حدة هجمات أنصار الله وتمددها جغرافياً لتطال العاصمة الرياض.
أمام هذا الواقع المتفاقم، دعا الملك سلمان بن عبد العزيز، إلى عقد قمتين خليجية وعربية في مكة المكرمة، يوم 30 أيار-مايو، كما أعلن مصدر مسؤول في وزارة الخارجية السعودية السبت، أن الملك سلمان “يوجه الدعوة لأشقائه قادة دول مجلس التعاون وقادة الدول العربية، لعقد قمتين خليجية وعربية طارئتين في مكة المكرمة يوم الخميس… 30 أيار-مايو 2019، لبحث ما وصفها بـ”الاعتداءات وتداعياتها على المنطقة”.
وفي الأسباب التي عددها البيان، أتى أن هذه الدعوة تأتي “حرصاً من خادم الحرمين الشريفين… على التشاور والتنسيق مع الدول الشقيقة في مجلس التعاون لدول الخليج العربية وجامعة الدول العربية في كل ما من شأنه تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، وفي ظل الهجوم على سفن تجارية في المياه الإقليمية لدولة الإمارات العربية المتحدة”، وأضاف إلى هذه الأسباب “التداعيات الخطرة على السلم والأمن الإقليمي والدولي وعلى إمدادات واستقرار أسواق النفط العالمية”، جراء هجمات “أنصار الله” المدعومين من إيران على محطتي ضخ نفطيتين بالمملكة.
أما القمة الثالثة التي ستستضيفها مكة المكرمة، فهي القمة الإسلامية العادية في الأيام العشر الأواخر من شهر رمضان، بمشاركة ملوك ورؤساء مختلف الدول الإسلامية الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، البالغ عددها 57 دولة، باستثناء سوريا المعلقة عضويتها.
ويبدو أن الرياض تريد أن تقول من خلال هذه القمم أنها ليست وحدها في مواجهة القوة الإيرانية المتحفزة للرد على أي اعتداءٍ يستهدفها، بعد أن لوحظ تراجع أميركي عن سقف التصريحات الحامية التي أطلقها بولتون وبومبيو. الأمر الذي يضع السعودية امام خطر البقاء وحيدةً في موقف متقدم داعٍ إلى التصعيد، ومواقف حليفة متراجعة تدريجياً، كالموقف الإماراتي على سبيل المثال.
ويشير اختيار مكة المكرمة مكاناً لعقد القمم الثلاث مؤشراً على حراجة الموقف الذي تقف فيه الرياض، التي تستخدم الرمزية الإسلامية لمكة في سياق مواجهةٍ سياسية مع دولة إسلامية أيضاً، ما يؤشر إلى نية باستغلال الاختلاف المذهبي بين الدولتين، والرهان على حشد الدول الإسلامية في مواجهة مذهبية ضد إيران.
هذه المحاولة السعودية لا تمتلك فرصاً كبيرة للنجاح لأسباب عديدة. أهم تلك الأسباب هو امتلاك إيران مجموعة من عوامل المناعة ضد هذا النوع من الاستهداف. فلطهران حلفاء مهمين في قلب الدول الإسلامية الحليفة للرياض، وهم من القوى الفاعلة اجتماعياً وسياسياً في قلب هذه الدول، نظراً لتصدر إيران محور المقاومة الذي يمتلك حضوراً شعبياً قوياً في الدول العربية والإسلامية، وخصوصاً تلك الواقعة في محيط السعودية، كالعراق واليمن ولبنان وسوريا، وصولاً إلى الدول الأبعد كدول المنطقة المغاربية.
يضاف إلى هذه الوسائل السياسية، قدرات عسكرية كبيرة تعكف أجهزة الاستخبارات الغربية على بحث تفاصيلها، تجنباً لمفاجآتٍ قد تكون قاتلة فيما لو وقعت المواجهة الكبرى. وهو معطى شديد الأهمية بالنسبة للدول الغربية تحديداً. فما تحسب له واشنطن والدول الأوروبية ألف حساب لن يكون أمراً هيناً على الرياض وبعض حلفائها المتحمسين للمواجهة.
من ناحية ثانية، أورد البيان السعودي الداعي إلى القمة عبارة “التداعيات الخطرة على السلم والأمن الإقليمي والدولي وعلى إمدادات واستقرار أسواق النفط العالمية”، وهذا يؤشر إلى مراهنة سعودية على إخافة الدول الكبرى من ارتفاع أسعار النفط والخطر على امداداته إلى الأسواق العالمية، في سياق تحشيد هذه الدول ودفعها إلى اتخاذ مواقف أكثر حدة ضد طهران.
بهذا المعنى، تصف السعودية أنصار الله بأنهم جزء من حرس الثورة الإيراني، بينما تشير السنوات السابقة من عمر الأزمة اليمينية إلى أن هذه الفئة التي تواجه العنف السعودي طوال سنوات، هي فئة سياسية تشكل جزءاً من نسيج الشعب اليمني. وهو ما ترفض الرياض الإقرار به، والذي يعتبر بحد ذاته سبباً لاستمرار الحرب إلى اليوم.
لقد أدى إرسال الولايات المتحدة إلى منطقة الخليج، مجموعة سفن حربية بقيادة حاملة الطائرات “Abraham Lincoln”، رفقة عدة قاذفات تكتيكية من نوع “B-52″، والتصريحات التي رافقت ذلك إلى تضليل الدول الحليفة لأميركا في المنطقة. ودفعهم إلى اتخاذ مواقف تصعيدية قبل أن تتراجع واشنطن رويداً عن هذا السقف المرتفع.
واتخذت السعودية العديد من الإجراءات السياسية والعسكرية في محاولةٍ منها لاستيعاب حجم الأضرار التي أحدثتها القوات اليمنيّة عبر طائراتها المسيّرة، بحسب مراقبين.
ويدخل المعطى الاقتصادي هنا كعامل تهديد للسعودية حيث أبرز الهجومان على محطتي ضخ خط أنابيب لنقل النفط من حقول المنطقة الشرقية إلى ميناء ينبع بالساحل الغربي بطائرات مسيرة الخسائر الإقتصادية الكبيرة للرياض، وما يمكن أن يحدث فيما لو اندلعت المواجهة.
كما أن استهداف ناقلتين سعوديتين على أيدي مجهولين، وهما في طريقهما لعبور الخليج قرب المياه الإقليميّة للإمارات باتجاه ميناء الفجيرة البحري، أحدث قلقاً لدى الدول الخليجية التي شهدت تدهوراً ملحوظاً في أسهمها وصل إلى أكبر انخفاض يومي منذ سنوات.
أما القلق الآخر الذي تستبطنها الأجواء المتوترة اليوم في المنطقة، وأمام السعودية تحديداً، هو موقف نصف دول المنطقة على الأقل. فقطر وتركيا وعمان لديها مواقف متمايزة عن كل أجواء العداء لإيران، وكل من اليمن والعراق ولبنان تشهد انقساماً لا يؤهل القوى المؤيدة للسعودية فيها إلى لعب دورٍ فاعل مؤيد لها في مواجهة إيران. بينما تقف سوريا والمقاومة في لبنان وفلسطين إلى جانب ما تحمله إيران من عناوين إقليمية تمثل وجدان شعوب هذه الدول المعادي لإسرائيل، والمستند أساساً إلى دعمٍ إيراني مستمر، ختم خلال العام الحالي أربعة عقودٍ من عمره.
وتأكيداً لهذا التباين الكبير، أكد وزير الدولة للشؤون الخارجية القطرية سلطان المريخي، أن قطر لم تتلق أي دعوة لحضور القمتين العربية والخليجية الطارئتين. وأضاف ليل الأحد أن “قطر التي لا تزال معزولة من جيرانها الخليجيّين، ولم تتلقّ دعوة لحضور القمتين” الخليجية والعربية الطارئتين، واللتين دعت إليهما السعودية لبحث التطورات الأخيرة في المنطقة.
وأوضح أن بلاده تدرس المشاركة في القمة الإسلامية المقرر عقدها في مكة المكرمة، بعد أن وصلت لها دعوة من منظمة التعاون الإسلامي. وأشار المريخي إلى أن الرئيس الأميركي دونالد “ترامب قال إنّه لا يريد الحرب، ولا أعتقد أنّ إيران تريد الحرب أو عدم استقرار في المنطقة”.
كما يتأكد هذا التباين من خلال ما أشار إليه المريخي حين تحدث عن تصريحات وزير الشؤون الخارجية السعودي عادل الجبير، والتي اتهم فيها قطر بدعم الإرهاب قائلاً إنها “عبارة عن أسطوانة مشروخة يكررها في كل لقاء أو مؤتمر صحافي منذ بدء الحصار ولم يقدموا أي دليل عليها”.
الجبير نفسه بدأ ولأول مرة بتخفيف حدة تصريحات بلاده ضد إيران، وصوّب تركيزه على قطر، حين قال في مؤتمر صحفي السبت إن “قطر أساءت لدول مجلس التعاون منذ عام 1995″، مضيفاً: “نحن لا نريد إلا الخير لقطر لكن لا نسمح لقطر أن تتدخل في شؤوننا الداخلية وأن تقوم بأعمال تخريبية في بلداننا. لا نسمح لقطر أن تدعم التطرف والإرهاب”. كما شدد على عدم السماح للدوحة باستخدام منصاتها الإعلامية للتحريض على أعمال العنف، حسب تعبيره.
تصريحات الجبير التي تضمنت تخفيقاً لسقف الطموحات السعودية ضد إيران، قال فيها إن المملكة لا تسعى إلى حرب مع إيران، لكنها سترد بكل قوة وحزم في حال اختيار إيران الحرب. غير أن الإضافة الأكثر دلالة هي التي قال فيها إن”المملكة لا تريد حرباً في المنطقة ولا تسعى لذلك وستفعل ما بوسعها لمنع قيام الحرب”، متمنياً “أن تتحلى إيران بالحكمة وأن يبتعد النظام الإيراني ووكلاؤه عن التهور والتصرفات الخارقة وتجنيب المنطقة المخاطر وألا يدفع النظام الإيراني المنطقة إلى ما لا تحمد عقباه”. ودعوته إيران إلى الالتزام بالقوانين الدولية، وإشارته إلى أن “دول مجلس التعاون كلها تعمل مع الولايات المتحدة على حفظ أمن المنطقة”.
هذا الشرخ الواضح في العمل الخليجي المشترك يتضح أكثر فأكثر، وهو يهدد بتفاعلاته القمم التي تنوي الرياض عقدها في مكة. خصوصاً وأن الرد القطري على تصريحات الجبير أشار باستغراب إلى تناسي “السياسات التي تمارسها الدول الأربع (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) التي تفرض حصاراً على قطر منذ أكثر من سنتين هي السياسات التي مزقت الشمل الخليجي”، والتي اتهمت الدول الأربع بأنها “أحدثت شرخاً في العمل العربي والخليجي المشترك، وتمارس ضغوطاً لا على دولة قطر فقط بل على عدد من الدول العربية”. وهو شرخٌ لا يبدو أن القمم الثلاث سوف تتجاوره، خصوصاً وأن الراعي الأميركي للدول الخليجية يحاول النزول عن الشجرة والحصول على موافقة إيرانية على العودة إلى طاولة المفاوضات من دون الوصول إلى نقطة التصادم المباشر عسكرياً.
الولايات المتحدة تطلب من إيران العودة إلى المفاوضات. إيران بدورها ترفض التفاوض وهي موحدة خلف هذا الموقف، بكل اتجاهات الحكم فيها، وهذا مؤشر حاسم يحدد طريقة تعاطي الدول الغربية معها خلال المرحلة المقبلة، حيث أن جزءاً أساسياً من الرهانات الغربية كان منصبّاً على إحداث تباينات داخل إيران تساعد على ضعضعة الموقف الداخلي من دون حرب. وبما أن الموقف الداخلي موحد، على عكس الموقف الداخلي في إدارة ترامب، وفي الموقف الخليجي، فإن موقف السعودية وأهدافها من عقد القمم الثلاث لا يبدو سهل التحقق.
المصدر/ الميادين