يُخطيء من يظن أن اتفاقات التسويات المنفردة التي تعقدها «إسرائيل» بينها وبين أطراف عربية لتمزيق العالم العربي يجري الإعداد لها على أيدي «السياسيين الإسرائيليين» لأن من يعدها في البداية هو رئيس جهاز الموساد «منظمة التجسس والمهام الخاصة» فهذا ما جرى في أول اتصالات عقدها الكيان الصهيوني لإعداد اتفاقية «كامب ديفيد»، فقد اجتمع رئيس الموساد اسحاق حوفي – بشكل سري – مع حسن التهامي مستشار الرئيس أنور السادات في عام 1977 في المغرب، وأعد له حوفي اجتماعاً في أيلول من العام نفسه في المغرب أيضاً مع موشيه دايان (الذي كان وزير خارجية في حكومة مناحيم بيغن في ذلك الوقت وباطلاع ومساعدة الحسن الثاني ملك المغرب) وترتب في ذلك الوقت مع دايان السيناريو العلني لزيارة السادات إلى تل أبيب من دون أي شروط مسبقة.. إلى أن جرى التوصل لاتفاقية «كامب ديفيد» عام 1979 التي أخرجت مصر من الصراع العربي – الإسرائيلي.
وحين عجز الموساد عن إيجاد أي طريقة سرية بعد عام 1979 تتيح فرصة إجراء مفاوضات مع سورية، قرر بيغن وشارون اجتياح لبنان لضمه إلى اتفاقية تسوية منفردة لتشديد الحصار على سورية، وكانت عملية الاجتياح قد رافقتها – إن لم يكن قد سبقتها – اتصالات سرية بين نائب رئيس الموساد في ذلك الوقت ديفيد كيمحي وبعض الأطراف اللبنانية لتحقيق هذه الغاية 1982 – 1988 وأصبح كيمحي مسؤولاً عن الملف اللبناني وتحضيره لتسوية أسقطتها المقاومة اللبنانية بدعم سوري وفلسطيني مباشر في أيار 1983.
ومنذ ذلك الوقت بدأ الكيان الصهيوني يتجه -في الثمانينيات وبداية التسعينيات- إلى توسيط الولايات المتحدة لإقناع منظمة التحرير الفلسطينية بالتفاوض مع تل أبيب مباشرة إلى أن تحقق ذلك بعقد مفاوضات سرية إسرائيلية- فلسطينية في مدينة أوسلو انتهت في أيلول 1993 باتفاقية أوسلو التي حقق فيها الصهاينة عدداً كبيراً من أهدافهم خصوصاً التنكر للحقوق الفلسطينية المشروعة.
وبعد أن بدأت «صفقة القرن» تترنح وتهوي وهي آخر المشاريع الصهيونية – الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية بكل أبعادها.. ها هو رئيس الموساد يوسي كوهين يقول أمام مؤتمر هيرتسيليا للدراسات نقلته صحيفة «يديعوت أحرونوت» في الأول من تموز الجاري: «إن فرصة السلام الإقليمي الشامل التي أتيحت في هذه الأوقات سُدت طرقها» والمقصود هو «صفقة القرن» وأضاف «لكن دور الموساد في قيادة أي جهود لخلق فرصة أخرى ستستمر».. وألمح كوهين «إلى خوف بعض الحكومات العربية من نقل التطبيع السري إلى الحالة العلنية لأن أطرافاً إقليمية مثل إيران وسورية وحزب الله لا تزال تشكل عاملاً يُعرقل مثل هذا التطبيع».. ودعا كوهين إلى التخلص من أطراف محور المقاومة لأنها «تعارض وتقاوم مثل هذه السياسة في المنطقة». واعترف بأن الموساد قام بعمليات سرية وغير سرية ضد سورية لضرب التحالف القائم بينها وبين إيران وحزب الله وتأثير هذا التحالف على السياسة العراقية.
من الواضح أن حديث رئيس الموساد بهذا الشكل يدل الآن على أن الكيان الصهيوني أخفق في جر الولايات المتحدة إلى شن حرب شاملة ضد إيران وهو الهدف الذي يتطلع إلى تحقيقه الكيان الصهيوني «لتفتيت» قدرات إيران وسورية وحزب الله من جهة، وتشجيع بعض الحكومات العربية على إنهاء خوفها من هذا المحور والشروع فوراً بتطبيع علاقاتها والإسهام في تصفية قضية العرب المركزية فلسطين وحقوق شعبها الوطنية المشروعة.
فتاريخ السياسات الصهيونية منذ نشوء هذا الكيان كان هدفها دوماً شن الحروب المباشرة العلنية حين لا تنفع وسائل الموساد السرية في استسلام العرب لشروط الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، وكذلك حين تزداد قدرات الدول الممانعة من الناحية العسكرية.
ومثلما شن الكيان الصهيوني عدوان حزيران عام 1967 على مصر وسورية لإخراج القوات المصرية من مناطق آبار النفط في شبه الجزيرة العربية حين كانت تدافع عن اليمن ضد الرجعية العربية قام هذا الكيان باجتياح لبنان عام 1982 لإخراج القوات السورية من لبنان حين كانت تدافع عن مقاومته وسيادته واستقلاله، وهاهو الكيان الآن يرى أن جبهة الشمال السورية مع جنوب لبنان والمقاومة اللبنانية وإيران تشكل أكبر قوة إقليمية تهدد خططه التوسعية الاستيطانية.