تقدير موقف حول ترشّح الأستاذ “قيس سعيّد” للرّئاسة
في البداية من المؤْسف أن يقرأ المواطن أو يشاهد حالة الانهيار الأخلاقي والتفكك القيمي والتّفاهة السياسية والميوعة الإعلامية لدى بعض النّخب الفكرية والسياسية، من خلال ما يبثونه على الهواء مباشرة عبر مختلف الوسائط الإعلامية، وضمن المعارك المفتعلة التي غيّبوا فيها متون الثورة منذ 2011، وركّزوا على هوامشها. وباعتباري أحد المتابعين لهذه الحالة من الضّجيج المشوشة على مسارات المشهد السّياسي في تونس، لم أكن من المتحمّسين للكتابة في هذا الموضوع، ولكن استفزّني، اليوم 25 سبتمبر 2019، تصريحات بعض السّياسيين الذين كنت أحسبهم من ذوي الفكر اليساري “الراديكالي الوطني”، في تهمجّمهم على الأستاذ “قيس سعيّد” مستندين في ذلك إلى أسباب غير منطقية وليست لها أيّة وجاهة في علاقة ببعض المتطفّلين والانتهازيين السّياسيين والخاسرين في الدّور الأول، ومن بين الذين عبّروا عن نيّتهم مساندة “سعيد” في الدور المقبل.
في البداية، وانطلاقا من هذا الموقف وغيره، سوف أطرح عددًا من الأسئلة المنهجيّة من أبرزها: هل في ظلّ النّظام الدّيمقراطي تتمّ محاسبة الشّخص ــ المترشّح ــ عن أخلاقه وسيرته الذاتية وبرنامجه الانتخابي الذي أعلنه أم نحاسبه عن خصائص الجمهور ونوايا الأشخاص المساندين له؟ وهل أن السّيد “قيس سعيّد” “المترشّح المستقل” هو الذي اختار هؤلاء أم العكس؟ وهل هو المسؤول عمّا يحمله هؤلاء من أفكار ومعتقدات سياسية أم العكس؟ ثم لماذا لم نسمع مثل هذه المواقف والافتراءات حول بقيّة المترشحين الذين عاثوا في البلاد فسادًا، في الخفاء والعلن، بيعًا وشراء للأصوات والأقلام…….؟
أعتقد أنّنا لم نشهد في تونس بعد 2011 سيولة في عدد المقالات والتّدوينات، المؤيّدة والمعارضة، مثلما شهدناه حول شخصية الأستاذ” قيس سعيد” الفائز بالدور الأوّل في الانتخابات الرئاسية السّابقة لأوانها. وقد دمغتنا بعض هذه التدوينات الألكترونية والتصريحات الإعلامية من مختلف المسؤولين وأشباه المفكرين والأكادميين بوابل من الافتراءات والأكاذيب وسوء تقدير لنتائج الانتخابات، وهو ما يوحي بأنهم يحاولون أن يقوّضوا، أولا وأخيرا، هذه التجربة التي كانت نتائجها بالنّسبة إليهم صدمة وزلزالاً عكس ما كانوا يتوقعون، فعملوا ومازالوا يعملون من أجل الانقلاب على هذه النتائج عبر مختلف الآليات القانونية وغير القانونية، على الرّغم من تعارض توجهاتهم السياسية وانتماءاتهم الأيديولوجية، إلا أنهم التقوا بقدرة قادر حول عدو مشترك “أسمه “قيس سعيّد” لأنه شخص مفرط في الوطنية!
وهذه التّهمة نفسها التي اتّهَم بها الرّئيس الرّاحل “الجبيب بورقيبة” المناضل الوطني “صالح بن يوسف” عندما عارضه في ابرام ما تسمى بــ”اتفاقية الإستقلال الدّاخلي” مع الاحتلال الفرنسي، والتي مازالت تونس تدفع ضريبتها إلى اليوم. أمّا الفريق الثاني، فقد التجأ إلى مهاجمته من خلال الجمهور والأحزاب وبعض الأشخاص الذين عبروا عن مساندتهم له في الدّور الثاني للانتخابات الرئاسيّة المقبلة، سواء كانوا هؤلاء صادقين في أقوالهم أم لا.
من المؤْسف أنّ أغلب هذه التدوينات لم تجد في شخص السيد “قيس سعيّد” أيّة نقطة أو سببًا وجيها أو ثغرة قانونية، سواء كانت شكلية أو جوهرية، يمكنهم من خلالها أن يبطلوا نتائج هذه الإنتخابات. فلجأ فريق منهم إلى شتْمه ونعْته بكل النّعوت التي تعبّر عن درجة السّفاهة والانحطاط الأخلاقي لأصحابها، فكانت التّهمة المركزية وغير المعلنة هي نزعته “الوطنية المطلقة” (Nationalisme intégral)التي أفصح عنها من خلال برنامجه الانتخابي وعدم تلقّيه أية مساعدة ماديّة أو معنويّة أو خضوعه لأيّة جهة سياسية داخلية كانت أو خارجية.
في الواقع لا يمكن أن تعبّر هذه المواقف إلا عن حالة من التفكير “البافلوفي”( القائم على ردّات الفعل) الذي يتحكم فيه قانون “الانعكاس الشرطي” للسّلوك الحيواني عند بعض الأشخاص؛ وهو التفكير الذي يتحكم فيه منطق السّرديات الشخصية المتصلّبة “أيديولوجيا” والممزوجة بالغباء السياسي والتطبّع مع الخيانة والتبعية للإستعمار، ومع التمويه والكذب عن الشعب. وعوض أن يسمّوا هؤلاء الأشياء بمسميّاتها ويبحثوا عن أسباب هذا الزلزال الانتخابي في سيرهم الذاتية، و في نقاط ضعف مشاريعهم السياسية، وجّهوا أقلامهم ــ دون الالتزام بالحد الأدنى من الضوابط الأخلاقية والسياسية ــ بالسّب والشتم إلى الأستاذ “قيس سعيّد” في محاولة يائسة وبائسة من أجل نشر حالة من التفخيخ الفكري والسياسي لدى عامة الناس والتّلاعب بعقولهم، ومن أجل امتصاص حالة الخيبة والشعور بالهزيمة والخوف من عودة الأوضاع في تونس إلى الانفجار الأول (17 دسمبر 2010)، خاصة أن شعار حملته الانتخابية كان تحت ” الشّعب يريد” ،وهو من أهم الشّعارات التي رفعها التونسيون في حراكهم الأول ضد الرئيس الرّاحل “بن علي”، وفي هذا دلالة رمزيّة مهمّة بالنّسبة إليهم وإلى كل أعداء الوطن الذين ظنوا أن هذا الشعار قد ولى وانتهى ولن يعود إلى السّاحة السياسيّة.
نعتقد أنّه، عندما يكون المزاج الشخصي معيارا للحكم على الأشخاص في شأن سياسي عام ( الترشّح للّرئاسة)، تنفلت المفاهيم وتغيب الحقائق، وتقوّض كل أسس النقد الموضوعي، ويفقد استقلاليته عن الخطاب والرأي والتفضيل الشخصي لبعض الوقائع دون غيرها. ومن شأن الكلام العام وغير المدروس حول شخص المترشح للرئاسة أن يثير العواطف والحساسيات والانفعالات غير الطيبة وغير السليمة سواء من قبل المؤيدين أو من قبل المعارضين له. فعندما يسلك بعض السياسيين والنقابيين والأكادميين ، الذين يدّعون الديمقراطية والحداثة والمعرفة، هذا الأسلوب من التنظير العقيم في محاولة منهم لترقيع نظام الحماية الذي يحرس مصالحهم الشّخصيّة، فيتحوّل الخوف عندهم من “الآخر”( الذي ظنوا أنه لم يعد يوجد رجال وطنيون في تونس) إلى عقيدة سياسية تنشئ الكراهية والسلوك الحيواني الغريزي وغير العقلاني. فعوض أن يتلمس هؤلاء أخطاءهم ويعالجوها ويعتبروا منها في المستقبل، يختلقون أخطاء الآخري للتغطية على نقائصهم، وهم بهذا السّلوك “البافلوفي” سوف يمكّنون تاريخ البلاد من أن يعيد نفسه مرارًا وتكرارًا عوض أن يتقدم إلى الأمام.
إلى هؤلاء الحاقدين وفاقدي المقامات السّياسية عند قواعدهم أو قُطعانهم المغلوبة على أمرها، احذروا الفتنة في خطاباتكم، فأشد فتنة في اللّغة، لأنّها تُولد من رَحمِها الأكاذيب والافتراءات وتُحْجب بها المظالم السّياسية والحقائق الموضوعيّة، وتُولد من خلالها الأحقاد بين الأشقّاء. وإذا عمّت الفتنة في البلاد، سوف تكون سببًا في تدمير الرّكائز الأساسية للمجتمع الذي هو في غنى عنها في ظلّ بيئة داخلية مازالت محروسة سياسيًا ومفقّرة اقتصاديًا ومهمّشة اجتماعيًا ومغيّبة معرفيًا. وما لم يقتنعوا بأن التعامل مع البيئة الحاضنة ومع المدخلات والمسبّبات، يتقدم دائما على التّعامل مع مخرجاتها ومحصّلاتها، فإنّ مشكلة الغُبن السّياسي والعمى في البصيرة سوف يبقى ويتفاقم عندهم. لقد كانت “الدّولة التسلطيّة” في تونس، التي يدافعون عنها بوعي أو دون وعي، هي الحاضنة والمولّدة للفساد والتخلف والإرهاب، وكانت هي الجالبة لكل أنواع التدخّلات الأجنبية، وكانت جسرا للغزاة في بلادنا عبر التاريخ، وهُما معًا (الغزاة والدولة التسلطيّة) الوصفة السّريعة لصعود الغلاة في الفكر والسّياسة والتطبّع مع خيانة الوطن، ولكن، يبدو أنّ أكثرهم مازلوا لا يفقهون!