بقلم: مازن الحساسنه |
تحرك باص الركاب بداية ايلول 1957 متوجها من مدينة القدس الى الرياض السعودية ، وأن تغادر مدينة الانبياء وارض الرسالات وساحاتها وازقتها واسواقها الممتلئة باوجه الحضارة ودور العلم والادب ودي لاسال العبقرية ودور النشر والصحافة والبنوك والمصارف والاندية الرياضية والثقافية والمطلع الذي دشن بداية 1915 ، ان تغادر كل ذلك الى جهة تجهلها ولا تعلم ماهيتها لهو الشعور بالخوف الشديد من القادم .
سار الباص وعلى متنه عشرات المدرسين الفلسطينيين وبعد كيلو مترات معدودة لاحت من احدى نوافذه قبة الصخرة المشرفة الصامدة رغم كل ما مرت به هذه المدينة والشاهدة على عظمة هذا الشعب الاستثنائي الذي هو شعلة الشرق ومنارته ، لوح ناصر النابلسي بيده مودعا وعيناه الدامعتان ما زالتا ترقب اسوار القدس قائلا في قرارة نفسه لن نغيب طويلا ، وكما هو حاله ، كان الثلاثين معلما ” المبتعثون ” بذات المشاعر الجياشة وهم يتركون ارضهم وبيوتهم وعائلاتهم لكي يساهموا في إضاءة نور العلم والمعرفة في بلاد ذوي القربى وشركاء المصير العربي .
صديقنا الشاب اليافع ناصر هو ابن مدينة نابلس معلم لغة عربية وهو يتوق للسير على ذات نهج طوقان قنديل فلسطين والذي اعطى العلوم الشعرية الكثير وساهم في تعزيز المكتبة الادبية العربية بعديد الاصدارات والمؤلفات التي ما زالت حاضرة وبقوة ، لقد كان ناصرا متيما بالنحو والصرف والنثر وهو بارع كمعلم للمرحلة الثانوية ، وما فتئ يشجو القصيدة تلو القصيدة طوال الرحلة المتعبة وحين صدحت حنجرته بقصيدة موطني الطوقانية حتى انبرى كل من في الحافلة على تلاوتها بصوت اخترق المكان ليصل الى كل بيت وحقل وواد في فلسطين .
تخطى الباص الابيض ذو الخطوط الجانبية الحمراء الحدود الاردنية السعودية ، حيث بدت ملامح وتضاريس هذه المنطقة ناشفة كالجرد الواسع ، نائية ليست مأهولة سوى من حجارة سوداء عملاقة ورمال تغزو الفراغ كأن هذا المشهد من كوكب اخر ، استمرت دواليب الباص بالدوران تشق طريقها وتسحق الوقت الطويل ، أما الانهاك والتعب فحدث ولا حرج فقد تملكا من الكل الذي جحظت عيونهم وهم يتأملون النجوم البراقة وكأنها قريبة جدا من الارض ، وما هي الا ساعات قليلة حتى أعلن عارف ” السائق العتيد ” وصول مدينة الرياض البسيطة والطيبة والتي لا تشبه الكثير من المدن ، استراح الجميع في نزل وسط المدينة و بعد عدة ايام تم ارسال الثلاثين معلما كل الى مدرسته حسب جداول وزارة المعارف السعودية ، كانت قبلة المعلم ناصر نحو مدرسة تدعى ؛ ( مدرسة الملك عبدالعزيز آل سعود ) ، ليتفاجأ أن غالبية المدرسين فلسطينيين بمن فيهم المدير ، تم التعارف بينهم وانطلق ناصر الى حصته الاولى قرع الباب ودخل راميا السلام على التلاميذ معرفا بنفسه وطالبا منهم ذكر اسمائهم واحد تلو الآخر ، ليكون أخر اسم تم ذكره لطالب يدعى قاسم القصبي ، لفتت طريقته لذكر اسمه انتباه المعلم فسأله لما انت شبه نائم ؟ وشعرك منكوش ؟ وحالتك مزرية ؟ وثوبك متسخ ؟ ولما يبدو أن عمرك هو اكبر من مرحلتك التعليمية ؟
حينئذ تعالت ضحكات تلاميذ الصف الذين ليسوا بافضل حال من قاسم ، صرخ المعلم بصوت عال لا يجوز لكم ذلك ويمنع التصرف بهذا الاسلوب .
بدأ ناصر الذكي والمحترف اسلوبه التعليمي والتربوي وصار في كل مرة يحاول تغيير النمطيات المتبعة لدى الطلاب من خلال الفقرات اللامنهجية والتعبئة التوعوية التي مارسها فاثمرت فيما بعد حتى صار قاسم الشاب المهذب والتلميذ الذي يرتدي ثوبا ابيضا ناصعا ، ذا تسريحة شعر مصفف بطريقة لائقة ، والمنكب يتابع دروسه بنهم وشغف ، كذلك الامر انسحب على باقي التلاميذ الذين تبدلت سلوكياتهم ومسارهم وصاروا أكثر التزاما وأقل فوضوية وعشوائية ، فتخطى الجميع المرحلة الثانوية بنجاح وشق كل تلميذ طريقه حسب رغباته وطموحاته وتوصيات معلمه .
مضت اربعة اعوام وجاء تموز 1961 ليحين موعد مغادرة المكان والعودة الى الديار ، اربعة سنوات قضاها ناصر ورفاقه يحاربون الظروف والاختلاف والشمس من أجل تجسيد واقع أكثر إشراقا للشعب السعودي الحبيب من اجل إفراز أجيال متعلمة ، قادرة ، محصنة ، مبدعة لديها الامكانيات والقدرات في تنمية وتطوير المشروع والطموح السعودي كي تتبوأ مكانتها بين الامم ، لقد عزز الطبيب والمهندس والمحاسب والفني والقانوني ورجل الاعمال الفلسطيني ودعموا الحالة النهضوية التي شهدتها المملكة كما فعل ناصر النابلسي ، هم عشرات الالاف بل اكثر قاتلوا من أجل سعودية أكثر حضارة واكثر تطورا وأقل رجعية ، ولم يتخلوا ابدا عن مسؤولياتهم الاخلاقية يوما .
و قبل أن ينقضي اخر يوم للمعلم ناصر في الرياض ، قام بتلبية دعوة تلميذه قاسم القصبي لحضور زفافه ،ليصيبه الذهول حينما اعلن القصبي ” العريس ” بصوت عال ولكافة الحضور انه اذا رزق بمولود ذكر سوف يطلق عليه إسم ناصر تيمنا بمعلمه وصاحب الفضل عليه والذي اضاف الكثير ومنحه ما كان يحتاج .
عاد ناصر والعود احمد وعانق نابلس التي احب وبعد عام استلم رسالة من البريد مرسلة من قاسم القصبي يخبره انه رزق بطفل اسماه ناصر كما تعهد ، أسعد كثيرا ذلك الشاب الفلسطيني العشريني الذي استطاع تأدية واجبه العربي والاكاديمي والتربوي على اكمل وجه الى درجة أن يصبح أيقونة لطلابه ومثالا يحتذى به ونموذجا للقدرة على ترك الاثر الطيب ولو بعد سنوات ، ظلت الرسالة محفوظة في حقيبة جلد ، الى أن جاءت اللحظة بعد 58 عاما في ليلة رمضانية ان طلب ناصر النابلسي الذي بات في منتصف الثمانينات من حفيده احضار حقيبته وهو مرتعش الايادي وعيناه الصغيرتان تهمران دموعا عزيزة و جسده النحيل غير متماسك ، قرأ الرسالة على احفاده وذكر لهم قصته وهو يخاطب ناصر قاسم القصبي ، اهكذا علمت اباك ؟ اهكذا هو المعروف الذي تركت فيكم ؟ اليس الوفاء له حراس ؟ الم ندلكم على طريق المستقبل ؟ الم يخبرك والدك عنا ؟ الم يقل لك اننا جئنا قديما اليك