د. نعمان المغربي: (مختص في علوم الأديان المقارنة، جامعة الزيتونة – تونس)
|
||
|
موضوع السورة الكريمة:
تتناول السورة الكريمة صراط النبي محمد (ص) حتى يوم الحساب، مبينة منافع الاهتداء به ومضار التنكر عنه.
-
صراط محمد (ص) والذين يتلونه:
محمد (ص) ليس ﴿بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ﴾ (الأحقاف،9)، بل كل ما كان لهم كان له: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيكَ مِن أَنباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ في هـذِهِ الحَقُّ وَمَوعِظَةٌ وَذِكرى لِلمُؤمِنينَ﴾ (هود،120)، فكل ما قص في القرآن الكريم من أحوال المرسلين إنما سيحدث مثله على صراط محمد (ص) إلى يوم القيامة.
إن محمدًا (ص) هو الإبراهيم العالمي («الأب الرحيم» في اللغة الآرامية/السريانية). وأهل بيته هم مهبط رحمة الله تعالى وبركاته. ولقد مات كل أولاده من زوجته السَّارَّة التي «كلما نظر إليها سرّته»[1] (خديجة (ع))، حتى جاءه «الرَّوْع» على مصير الرسالة الإسلامية بعده، ولكنْ﴿جَاءَتْهُ البُشْرَى﴾ (الآية،74). وكانت متعلقة بمجيء «الإسحاق» الذي سيسحق تربص المنافقين من بني أمية بالإسلام[2]،﴿وَمِن وَراءِ إِسحاقَ يَعقوبَ﴾ (الآية،71)، أي العقب باللغة السريانية إذ سيكون أهل البيت (الآية 73) في ذلك العقب الحسيني.
نعم لقد ولدت الخديجة السَّارَّة عليها السلام وهي قد تجاوزت سن الحمل العادي الفاطمة/البشرى عليها السلام، و«الكوثر» من معانيه الحافة: البشرى: ﴿فَلَمّا ذَهَبَ عَن إِبراهيمَ الرَّوعُ وَجاءَتهُ البُشرى يُجادِلُنا في قَومِ لوطٍ﴾ (الآية،74).
-
الشاهد منهُ الأوّل:
كان رأس الصراط سيدنا محمد (ص)، وكان على بَيّنة من ربه (الآية 17)، وسيتلوه في قيادة هذا الصراط المستقيم، من الذين أنعم الله عليهم من الصديقين ﴿شَاهِد مِنْهُ﴾(الآية 17)، يشهد على بينة سيدنا محمد (ص). وهذا الشاهد هو الإمام علي كرم الله وجهه، وقد كان ﴿إِمَامًا وَرَحْمَةً﴾(الآية 17). وقد كان كل مِنْ قَبْله كتاب موسى، أي نظام الدعوة لدى المُوسى العالمي (محمد (ص))، تماما كنظام الدعوة في أمر موسى الشّامِ ابنِ عِمْران (ع)، فالرسول محمد (ص) ليس ﴿بِدْعًا مِنَ الرُّسُل﴾(الأحقاف، الآية 9)،﴿أَفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ وَيَتلوهُ شاهِدٌ مِنهُ. وَمِن قَبلِهِ كِتابُ موسى[القرآن الكريم] إِمامًا وَرَحمَةً. أُولـئِكَ يُؤمِنونَ بِهِ. وَمَن يَكفُر بِهِ مِنَ الأَحزابِ [حزب بني أمية ومَنْ تحالف معهم مِن العَالَمين]فَالنّارُ مَوعِدُهُ فَلا تَكُ في مِريَةٍ مِنهُ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ وَلـكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يُؤمِنونَ[بذلك الشاعد]﴾ (هود،17).
2.1. الشاهد منهُ الثاني: الإسحاق:
لقد كان إسحاق الكتاب المحمدي، أي إسحاق نظام الدعوة المحمدي، سيدنا الحسن (ع)، وهو (هود) أي الهادي المهديّ في اللغات اليمانية. فلقد كان يعيش في بيئة يمانية بالعراق، تميزت بالافتراء على الإسلام وعلى الشاهد، أي الإمام كرم الله وجهه.فقد تولى أكثر هؤلاء اليمانيين (إلا قليلا) مجرمي بني أمية. فوعظهم: ﴿قَالَ يا قَومِ اعبُدُوا اللَّـهَ ما لَكُم مِن إِلـهٍ غَيرُهُ إِن أَنتُم إِلّا مُفتَرونَ﴾(الآية 50)، وقال:﴿وَيا قَومِ استَغفِروا رَبَّكُم ثُمَّ توبوا إِلَيهِ يُرسِلِ السَّماءَ عَلَيكُم مِدرارًا وَيَزِدكُم قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُم وَلا تَتَوَلَّوا مُجرِمينَ﴾(الآية 52). لقد أنكروا عليه أنه على بَيّنة جده، صلى الله عليه وآله وصحبه: ﴿قالوا يا هودُ ما جِئتَنا بِبَيِّنَةٍ﴾(الآية 53)، مدعين أن أهتهم الأمويين في طريقهم إلى القضاء عليه: ﴿وَما نَحنُ بِتارِكي آلِهَتِنا عَن قَولِكَ وَما نَحنُ لَكَ بِمُؤمِنينَ (53) إِن نَقولُ إِلَّا اعتَراكَ بَعضُ آلِهَتِنا[إله المال، إله الشهوات، إله السلطة…] بِسوءٍ قالَ إِنّي أُشهِدُ اللَّـهَ وَاشهَدوا أَنّي بَريءٌ مِمّا تُشرِكونَ(54)﴾(هود). لقد أنكروا أجر المودة في قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه:﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾(الشورى، الآية 23). فقال لهم أن هذا الأجر هو لهم، وأن أهل البيت حاملون لرحمة الله تعالى وبركاته فلا يحتاجون إلى هذا الأجر: ﴿يا قَومِ لا أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجرًا إِن أَجرِيَ إِلّا عَلَى الَّذي فَطَرَني أَفَلا تَعقِلونَ﴾ (هود،51)، وتبرأ من إشراكهم الإسلامَ بالملة الأموية: ﴿قالَ إِنّي أُشهِدُ اللَّـهَ وَاشهَدوا أَنّي بَريءٌ مِمّا تُشرِكونَ﴾ (هود،54).
لقد كان الكيد من هؤلاء «العَادِينَ»[3] أكثريا فكان تحدي الإمام الهود، الإمام الحسن عليه السلام: ﴿فَكيدوني جَميعًا ثُمَّ لا تُنظِرونِ﴾ (هود،55) وكان عليه أن يعيد بناء الصراط المحمدي المستقيم حتى يوم القيامة، غير هياب، من جسامة المهمة الإلهية التاريخية: ﴿إِنّي تَوَكَّلتُ عَلَى اللَّـهِ رَبّي وَرَبِّكُم ما مِن دابَّةٍ إِلّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبّي عَلى صِراطٍ مُستَقيمٍ﴾ (هود،56) وكان من الطبيعي أن ينبههم أن الاستخلاف الإلهي على بناء دولة الإسلام الحقة في آخر التاريخ سيكون لقوم آخرين إذ سيخسرون فخر هذه المهمة: ﴿فَإِن تَوَلَّوا فَقَد أَبلَغتُكُم ما أُرسِلتُ بِهِ إِلَيكُم وَيَستَخلِفُ رَبّي قَومًا غَيرَكُم وَلا تَضُرّونَهُ شَيئًا إِنَّ رَبّي عَلى كُلِّ شَيءٍ حَفيظٌ﴾ (هود،57).
3.1. الشاهد منهُ الثالثُ: الرجُلُ الصَّالِحُ/اليَعْقُوبُ:
فهو الذي سيتولى حفظ البينة المحمدية السمحاء. وهو الرجل الصالح سيدنا الحسين (ع). وأمَّا قومه فهم «الثمود» أي «ماء قليل لا مادة له»[4]، يظهر ليغيب، والنافد عند الزحام[5] أي عند الزلزلة التاريخية العظمى[6]. وما لا مادة له لا وجودًا حقيقيا له. وقومه غطوا الجزيرة العربية والشام والعراق ومصر وإيران. فذكرهم أنه ﴿عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبّي﴾ (هود،63)، أي على البَيِّنة المحمدية، وأن الله تعالى جعله من أهل البيت الذين أتاهم الله الرحمة والبركات (كما جاء في الآية 63 من سورة هود): ﴿قالَ يا قَومِ أَرَأَيتُم إِن كُنتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبّي وَآتاني مِنهُ رَحمَةً﴾، و«الرحمة» هي هوديّتُهُ القابلة للإفاضة على العالمين – إن أرادوا-. وبشرهم وأنذرهم في الآن نفسه أن أهل بيته هم ناقة الله تعالى لهم، أي المتأنقون بالكمالات الإلهية،فليحفظوا وصية الشورى ووصية رسول الله (ص) في أهل البيت: «الله الله في أهل بيتي! أوصيكم الله في أهل بيتي!».
فقال الصالح عليه السلام: ﴿وَيا قَومِ هـذِهِ ناقَةُ اللَّـهِ[عَقِب رسول الله (ص)] لَكُم آيَةً فَذَروها تَأكُل في أَرضِ اللَّـهِ وَلا تَمَسّوها بِسوءٍ فَيَأخُذَكُم عَذابٌ قَريبٌ﴾ (هود،64). ولكنهم أصروا على الجريمة ﴿فَعَقَروها[فقتّلوهم تقتيلا]﴾ (هود،65)، فكانت النتيجة أن أصبح الثموديون (وكل ثمودي يتجاسر على أهل البيت، هل الرحمة والبركات، وأتباعهم) نتيجة عملهم جاثمين وهم في ديارهم، أي عبيدا للآخرين وهم في ديارهم: ﴿وَأَخَذَ الَّذينَ ظَلَمُوا الصَّيحَةُ فَأَصبَحوا في دِيارِهِم جاثِمينَ(67) كَأَن لَم يَغنَوا فيها﴾ (هود،67 و68) وبذلك أبعدهم الله تعالى طويلا على القيادة العالمية، رغم إغنائهم طويلا بسرقة الثروات والمعادن من الأمة الإسلامية وبخسهم: ﴿أَلا إِنَّ ثَمودَ كَفَروا رَبَّهُم أَلا بُعدًا لِثَمودَ﴾ (هود،68).
أما أتباع الرجل الصالح/اليعقوب، الحسنيون/الحسينيون، فهم بعيدون عن خزي التبعية الامبريالية، أقوياء بالقوى سبحانه وتعالى، آخذون بأسباب العز التقاتي والروحاني. ولذلك لما يجيء أمر حسم الصراع بين الحق والباطل سينتصر أتباع الرجل الصالح، عليه السلام: ﴿ فَلَمّا جاءَ أَمرُنا نَجَّينا صالِحًا وَالَّذينَ آمَنوا مَعَهُ بِرَحمَةٍ مِنّا[7] وَمِن خِزيِ يَومِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القَوِيُّ العَزيزُ﴾ (هود،66).
ولقد جعل أبو ذر، رضوان الله تعالى عليه، أحد رسل البينة المحمدية في مدين، أي بلاد الشام المدينة لمجرمي بني أمية، ضمن سياق دعوة الشاهد من الرسول، عليهما السلام: ﴿قالَ يا قَومِ اعبُدُوا اللَّـهَ ما لَكُم مِن إِلـهٍ غَيرُهُ وَلا تَنقُصُوا المِكيالَ وَالميزانَ إِنّي أَراكُم بِخَيرٍ وَإِنّي أَخافُ عَلَيكُم عَذابَ يَومٍ مُحيطٍ﴾ (هود،84)، ﴿وَيا قَومِ أَوفُوا المِكيالَ وَالميزانَ بِالقِسطِ وَلا تَبخَسُوا النّاسَ أَشياءَهُم وَلا تَعثَوا فِي الأَرضِ مُفسِدينَ﴾ (هود،85) محاربا البَخْس الذي استشرى في العهد الأموي الأول (عهد الخليفة الثالث) مؤكدا أنه ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾ وهي البيّنة المحمدية، وأن مسعاه إصلاحي[8]، لا يريد به سلطة: ﴿ أُريدُ إِلَّا الإِصلاحَ مَا استَطَعتُ﴾ (الآية 88). فكان أبو ذر شُعيب ذلك الزمان، ولكل زمان أبو ذَرِّهِ، أي شُعَيْبُهُ.
كما دعاهم إلى الانتماء ببقية الله (86)، أي ما بقي من أهل البيت النبوي، أولي الرحمة والبركات الإلهية: ﴿بَقِيَّةُ اللَّـهِ خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم مُؤمِنينَ﴾ (الآية 86)، وكان يقصد ما بقي من أهل الكساء عليهم السلام، بعد وفاة سيدتنا فاطمة عليها السلام، فرفضوا كلامه: ﴿ما نَفقَهُ كَثيرًا مِمّا تَقولُ﴾ (الآية 91). وقد حذرهم إن واصلوا في مسعاهم البَخْسي معاشَ المسلمين ومعاش الطبقات الضعيفة أن يتطوروا إلى مشروع لقوم عادِيّن أو قوم ثموديين، أو أن يصبحوا مشروعا لشامٍ سدوميةٍ (قوم لوط)، أو مشروع القوم الذين سيدمرهم الجهاد والطوفان النوحيُّ، منبها أن سدومية الشام لن تكون ببعيدة إذا استمروا في هذا المسعى البخسي والمنكِر لنور بقية الله تعالى: ﴿وَيا قَومِ لا يَجرِمَنَّكُم شِقاقي أَن يُصيبَكُم مِثلُ ما أَصابَ قَومَ نوحٍ أَو قَومَ هودٍ أَو قَومَ صالِحٍ وَما قَومُ لوطٍ مِنكُم بِبَعيدٍ﴾ (هود،89).
ولقد استضعفوه، فأطردوه من الشام، ثم حكموا عليه بالمنفى بالرَّبذة حتى وفاته: ﴿إِنّا لَنَراكَ فينا ضَعيفًا﴾ (هود،91)، ولولا رهطه، أي الشاهد والإسحاق واليعقوب وأتباعهم القليلون، لكان العقاب أفدح، وهو رَجْمُهُ: ﴿وَلَولا رَهطُكَ لَرَجَمناكَ﴾ (هود،91). فكان أن تُوفّي، رضوان الله عليه، جائعًا في مَنْفَاهُ بالربذة، ومعه زوجُهُ المجاهدة.
-
السدومية تُهَدِّدُ بلاد الشام:
السدومية هي اتجاه انتحالي تاريخي يريد جعل بلاد الشام غير مستقيمة وغير فِطرية في تفكيرها الديني. ومقاومها هو اللوط، كما في لفظ السرياني، أي قشر القوس والقناة[9]، وهما رمز الاشتداد والقوة، والقشر هو رمز البداية والظهور.
لقد نبه الحكيمُ اللوطُ، عليه السلام، السدوميين إلى أنهم يعملون السيئات (هود 48)، وأن بناته الفكرية التي هي من الإبراهيم الأعظم، محمد صلى الله عليه وآله وصحبه: ﴿هـؤُلاءِ بَناتي هُنَّ أَطهَرُ لَكُم﴾ (هود،78). وتجاسروا على محاولة الاعتداء على «ضيفه»، أي على سلاحه، لأن الضيف «فرس من نوع الحرون»، وكذلك على ظهيره السَّوْقي لأن الضيف هو «الملجأ»[10]. فالسدوميون العرب يريدون ضرب الحكمة المقَاوَمِيّة في سلاحها وملجئها/ظهيرها. وفي ذلك شذوذ عن الفطرة الإنسانية التي تأبى الذُّلَّ.
وهنالك قال لهم الحكيم اللوط: ﴿فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَلا تُخزونِ في ضَيفي [في سلاحي]. أَلَيسَ مِنكُم رَجُلٌ رَشيدٌ﴾ (هود، 78).هنالك شعر الحكيم اللوط، وأنصاره القلائل بالضعف الشديد، وطلب المدد من الله وحده، فلم يعد ما عندهم كافيا لمواجهة كيدهم: ﴿قالَ لَو أَنَّ لي بِكُم قُوَّةً أَو آوي إِلى رُكنٍ شَديدٍ﴾ (هود، 80). هنالك تتكون عزيمة الحكيم اللوط بالجوسان في اتجاه أرض الإسراء، وهي عزيمة تبدو انتحارية، ولكن فيها كل الانتصار الأول على الإمبريالية والمَلَكِيَّة اللتين ساعدتا على السدومية ببلاد الشام: ﴿قالوا يا لوطُ إِنّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلوا إِلَيكَ. فَأَسرِ بِأَهلِكَ بِقِطعٍ مِنَ اللَّيلِ وَلا يَلتَفِت مِنكُم أَحَدٌ إِلَّا امرَأَتَكَ (أي القوى ذات المِرْية ممن هم ظاهرًا من أهلك). إِنَّهُ مُصيبُها ما أَصابَهُم. إِنَّ مَوعِدَهُمُ الصُّبحُ. أَلَيسَ الصُّبحُ بِقَريبٍ﴾ (هود، 81). هنالك يكون صبح الانتصار الانتظاري، أي بدايته، فتنهزم الإمبريالية والصهيونية والسدومية العربية المساندة لهما: ﴿فَلَمّا جاءَ أَمرُنا جَعَلنا عالِيَها سافِلَها وَأَمطَرنا عَلَيها حِجارَةً مِن سِجّيلٍ مَنضودٍ﴾ (هود، 82)،﴿مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظّالِمينَ بِبَعيدٍ﴾ (هود، 83)، أي أن نهاية الظلم بالأرض –بذلك الإسراء إلى أرض الإسراء– ستكون غير بعيدة، بل ستصبح قريبة جدا.
-
بقية الله الأخيرة في وجهها الموسوي ووجهها النُّوحي:الشَّاهِدُمِنْهُ النُّوحُ:
لا بد من موالاة بقية الله تعالى في كل مرحلة تاريخية: ﴿فَلَولا كانَ مِنَ القُرونِ (من كل الأجيال)مِن قَبلِكُم أُولو بَقِيَّةٍ(موالون لبقية من الله تعالى)يَنهَونَ عَنِ الفَسادِ فِي الأَرضِ إِلّا قَليلًا مِمَّن أَنجَينا مِنهُم﴾ (هود، 116). وأما المُحَادُّون لصراط بقية الله تعالى فهم أتباع المترفين الباخسين مشتركين معهم في الإجرام في حق الإنسانية إذ يؤخرون خلاصها: ﴿وَاتَّبَعَ الَّذينَ ظَلَموا ما أُترِفوا فيهِ وَكانوا مُجرِمينَ﴾ (هود، 116)، ﴿وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهلِكَ القُرى بِظُلمٍ وَأَهلُها مُصلِحونَ﴾ (هود، 117).
فالمطلوب من أجل ظهور النّوح الأخير للعالم، أي بقية الله تعالى، أي بقية محمد (ص)، هُو الانتظار الحقيقي العامل التوكلي: ﴿وَانتَظِروا إِنّا مُنتَظِرونَ﴾ (هود، 122)، ﴿اعمَلوا عَلى مَكانَتِكُم إِنّا عامِلونَ﴾ (هود، 121)،﴿فَاستَقِم كَما أُمِرتَ وَمَن تابَ مَعَكَ وَلا تَطغَوا﴾ (هود، 112)، ﴿وَلا تَركَنوا إِلَى الَّذينَ ظَلَموا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ﴾ (هود، 113). فلا بد من عمل «ذا مكانة» أي سَوْقيّ مقاوم للطغيان الداخلي والخارجي (الآية 112) وممانع للظلم الداخلي والخارجي حتى لا تَمَسَّنَا نار التبعية والجثوم في ديارنا (هود 113). ولا يهم إن رفضت أكثرية القوم كتاب الصراط المحمدي فقد اختلف من قبل في كتاب الموسى الأعظم: ﴿وَلَقَد آتَينا موسَى الكِتابَ فَاختُلِفَ فيهِ وَلَولا كَلِمَةٌ سَبَقَت مِن رَبِّكَ لَقُضِيَ بَينَهُم وَإِنَّهُم لَفي شَكٍّ مِنهُ مُريبٍ﴾ (هود، 110).
فالمطلوب منا أن نستقيم على مكتوب الصراط المحمدي، مكتوب بقية الله تعالى، واحدًا منهم يتلو واحدًا: ﴿فَاستَقِم كَما أُمِرتَ وَمَن تابَ مَعَكَ﴾ (هود، 112). سيكون بقية إليه تعالى الأخير الذي أمرنا بانتظاره: ﴿فَاستَقِم كَما أُمِرتَ وَمَن تابَ مَعَكَ وَلا تَطغَوا﴾ (هود، 112)،(إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) الموسَى أي «موجود الماء»[11]الملكوتيّ والمُنقذ للرّحيم، إذ هو يقود حياة العالم الجديدة.حاملاً آياتِ جدِّهِ رسول الله (ص) إلى كل فرعون بالعالم: ﴿وَلَقَد أَرسَلنا موسى بِآياتِنا وَسُلطانٍ مُبينٍ﴾ (هود، 96)، أي بالحكمة الكافية للإقناع وتدبير العالم وسلطانه. سيكون: ﴿ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأَرضُ إِلّا ما شاءَ رَبُّكَ. إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِما يُريدُ﴾ (هود، 107)، ﴿ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأَرضُ إِلّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيرَ مَجذوذٍ﴾ (هود، 108). فهو يفعل ما يريد وهو كريم جدا مثبتا جدارة الإنسان بالاستخلاف. وهنا يصبح المنتظِرُ نوحيّا في طول بركته ورحمته. فبعد صبره الطويل ﴿خَائِفًا يَتَرَقَّبُ﴾ (القصص، 18)، أمر الله تعالى النوح الأخير بأن يُصبح المُوسَى المحمّديّ الناسف لكل فرعون بالأرض. فيكون النوح ذا العمر الأطول والأكثر بركة وروحانيةً، ويصبح المَلِك الأعدل بعد الرسولية (هود 28).
إنه مشروع الانتصار بما هو استعدادات بشرية وتقانية وروحانية، مؤكدا أنه ﴿عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبّي وَآتاني رَحمَةً مِن عِندِهِ﴾ (هود، 28). فهو على البَيِّنة المحمدية وآتاه من رحمة الله وبركاته وعطائه غير المجذوذ، الأكمل تاريخيا، وآتاه مِنْ رحمة ﴿عَلَيكُم أَهلَ البَيتِ إِنَّهُ حَميدٌ مَجيدٌ﴾ (هود، 73). وسيسمع دعوتَهُ الأراذلَ، أي الطبقات الضعيفة: ﴿وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذينَ هُم أَراذِلُنا﴾ (هود، 27) فيملأ الأرض عدلا وقسطا. وسيطلب الملأ المهيمن على العالم الإسلامي منه أن يطرد هؤلاء الأراذل، فيصرّ النوحُ على المجادلة الحِكمية صابرا عليها: ﴿قالوا يا نوحُ قَد جادَلتَنا فَأَكثَرتَ جِدالَنا﴾ (هود، 32).
-
القرية[12] السَّدُومية والرَّشَاديّة اللُّوطية:
-
مظلومية مصلح:
ربما لم يظلم حكيم نبيّ في التراث «الإسلامي»، مثلما ظُلِم نبيّ الدورة الرسالية الإبراهيمية الأولى، الحكيم لوط البابليّ عليه السلام. فنحن نجد مفسر القرآن الكريم، و«الفقيه»، والكاتب في الأخلاق، طيلة «العالمية الإسلامية الأولى» يُسمُّون المَنْكحِيّة «الفاسِقة» (=المنحرفة عن «المعروف»، باصطلاح سورة القرية العنكبوتية في آيتها 34): «لوطية» و«لِوَاطية»، بينما بَقِيت القرية «الفاسِقة» في مَنأى عن وَصْمِ المُثقَّف المسلم، ليصبح الحكيم اللُّوط البابلي هم الموصُوم!! وذلك رغم أنه ليس مُنحدرًا من سَدُوم وعمّورة (تجَمُّعَيْ القرية «الفاسِقة»[13]) أصْلاً،فهو بابليّ «عِراقي» (أي مِن سوريا الشرقية بالاصطلاح القديم)، والأهم: رغم أن «مشروع» القرية التي يدعو إليها مناقِضَة مُطلقًا للقرية السدومية!!!
-
القرية السَّدُومية: منكحية فاسِقة وجسديّة مَحْصوبَة:
يُقارن القرآن الكريم بين سوريا «المعروف» الإبراهيمي، وبين سوريا «المُنكَر» الثمودي والسَّدومي ﴿وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ﴾ (ص، 13). وذلك غير مختص بسوريا وحدها، بل هو عامّ لكل البشرية، باعتبار أن سوريا في المضمون القرآنيّ هي «أرض العالَمين»، من دون غيرها مِن أراضي البشر.
و«السَّدُومية»، هي مِنوال قريةٍ (=نسق اجتماعي) «يردّ»[14]«السُّبُل الرُّشْدية»،في المَنكحية، وفي نمط العيش، وفي المِنوال الجسدي: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾ (العنكبوت، 29)؛ ﴿الَّذينَ يَصُدّونَ عَن سَبيلِ اللَّـهِ وَيَبغونَها عِوَجًا﴾ (هود، 19). و«العِوَج» هو الانفساق عن العَرْشيّة الطبيعية.
وتلك المَنْكحية ونمط العيش والمنوال الجسدي، تؤدي إلى التغير سَلْبًا، كما «يَسْدِمُ الماءُ» «لطُول عهده» ولتكاثر الطحلب عليه[15]، ولوقوع التراب فيه «حتى اندفن».
فالسدومية بما هي الإصرار على «الانفساق» الأخلاقي والجسدي والمَنْكَحي، تؤدي إلى «التغيّر» التآكليّ إلى حدّ الانحِصاب: «تناثُر»[16] القَرْيَة: فردًا وجماعة، حسدًا وعلاقاتٍ، نحو «الدُّقاق» فـ«الانْدِفان»[17]. فهي خروج عن «الأمل» المَنْكحي الفِطْري: ﴿مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾ (العنكبوت، 28).﴿بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ (العنكبوت، 34). و«فِسْقُ الرُّطْبَة» إنما هو «خروجها مِنْ قِشرها»[18]. فكل «الْعَالَمِينَ»، أي كل الأنساق المخلوقية مُسْلِمَةٌ لعَرْشِ مَنْكحِيّةٍ أو تكاثرية، باستثناء البَشر الشيطاني، الذي يتعسّف على عَرْشِيّته (=نظامه الطبيعي)، مؤدّيًا إلى «انْحِصاب» تَدْريجي: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا﴾ (القمر، 34)، ﴿جَعَلنا عالِيَها سافِلَها﴾ (هود، 82).
إن السدومية ليست مجرد مَنكحية ومِنوال جسدي، بل هي نمط عيش، يرفض الحب، فالحكيم السوري، لوط البابلي، يقترح على بعضهم الزواج ببناته «الرَّشيدات»، ولكنهم كانوا «سَادِمين» لسبيل «التعقّل» و«الرّشاد»: ﴿جاءَهُ قَومُهُ يُهرَعونَ إِلَيهِ وَمِن قَبلُ كانوا يَعمَلونَ السَّيِّئَاتِ قالَ يا قَومِ هـؤُلاءِ بَناتي هُنَّ أَطهَرُ لَكُم﴾ (هود، 78). فلقد أصبح بناؤهم النفسي والسّلوكي عُصابيّا: ﴿يُهرَعونَ﴾، وذلك ما يَجعلهم «سَادِمين»، أي غير قابلين للعَرْشِيّة الطبيعية: ﴿قالوا لَقَد عَلِمتَ ما لَنا في بَناتِكَ مِن حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعلَمُ ما نُريدُ﴾ (هود، 79).
وهذا ما يخلّف في هذا البناء النفسي اكتئابية مترسّخة، لأن هذه المنكحية غير المُسْلِمة للعَرْشية الطبيعية لا يمكن أن تجد تَلْبية، مُطلقا. فـ«السَّدَم» هو «الهمّ مع الحزن»[19]، إلى حدّ اليأس و«الانحصاب» الانتحاري: ﴿سيءَ بِهِم وَضاقَ بِهِم ذَرعًا وَقالَ هـذا يَومٌ عَصيبٌ﴾ (هود، 77). وبذلك يُصبح يَوْم هذه «القرية» يومًا عُصابيًّا. ولذلك كانت «القُرى»، كانت على اختلاف أنماط عَيْشها ومَنكحيّاتها ومناويلها الجسدية (وهي اختلافات توْقيفيّة)، قُرًى اكتئابية، أي إن «الهم والحزن» فيها بِنْيوِيَّان.
ورغم أن «الجنُوسَة» الأنوثية، أي المِلَّة النسوانية، متضررة مِن هذا الانفساق الذكوري عن العَرْشية الطبيعية، إلاّ أن أكثرية مِن نساء القرية السَّدُومية دُون «رشاد»، «غابرات»، أي «مندمِلات على فساد»[20]، وذلك هو عمق الانفساق السّدومي. و«الغِبْر» هو «الحقد»[21] على الراشدين والحُكماء بما آتاهم الله من فضله. وأصْل «الغابِرِية» النسائية، إنما هو «تردِيدُ الصوت» الانفساقي الرجالي، فـ«التغْبِيرُ» هو «تَردِيد الأصوات»[22]، حتى يُصبح «المردِّدُ» الببّغائي «ذِئبِيًّا»[23]، والذّئبيّة هي السَّبُعيّة غير المنضبطة لأي قانون أو عَرْشية. فإحدى زوجات الحكيم السوري، لوط البابلي، كانت من المتماهيات بالانفساق الرجالي: ﴿فَأَنجَيناهُ وَأَهلَهُ إِلَّا امرَأَتَهُ كانَت مِنَ الغابِرينَ﴾ (الأعراف، 83).
والقرآن الكريم، يُعَمِّمُ، ليؤكد أن الاسترجال إنما هو مَرَضٌ في السَّجِيّة الإنائية، يعني «تَغبيرًا» وتبعيّة انتحالية للرجال، أي انفكاكًا عن «الحرية» الإنائية، فهو في كل الحالات المختلفة، سَدُومية نِسائية. ولذلك كان تحذير سورة التّحريم للمرأة المسلمة مِن تقمص النساء «الذِّئبيّة»الرجالية، والتي تؤدي حتى إلى التبرّج السياسي، بما هو استثمار للزواج مِن رجُل ذي مَقام عِرْفانِيّ أو سياسي صالح، من أجل قيادة الفتنة السياسية المؤدية إلى تسبب الكيان الإناثي الذّئبيّ في تقاتل «ناريّ» رجاليّ عظيم محتوًى وعَدَدًا: ﴿ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ (التحريم، 10). فخيانتهما للحِكمة النبوية، التي كانا يريانها رأي العين، فكانتا تَحت تَوَاضُعٍ رجالي من «عَبْدَيْنِ» لله تعالى[﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الشعراء، 215)]، جعلتهما يوقِدان النار ضدّ الحكمة النبويّة المبشّرة بالسّعادة الإنسانية. تمامًا كأخت أبي سُفيان: ﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [السَّادِم عن سُبُل الرشاد]، فِي جِيدِهَا[في مكانتها الاجتماعية] حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ[تؤجّج به استخفاف عقول القرشيين]﴾ (سورة المسد).
ولقد كانت السدومية، مستثمِرة في انفساقها، للذين انقطعت بهم السُّبل الإجتماعية والمعاشية: ﴿أَئِنَّكُمْ (…)وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾ (العنكبوت، 28)، وخاصة المضطرّين للهجرة إلى حِمَاهُم: ﴿وَلا تُخزونِ في ضَيفي﴾ (هود، 78) بابتزاز حاجتهم المَعَاشية من أجل الاستجابة لنهمهم الانفساقي. وهي قرية تعتدي على حق المواطنة: ﴿لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ﴾ (الشعراء، 167)،﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ﴾ (النمل، 27).
تعمُّ السدومية كل حقول القرية، حتى أطرها السياسية، (البرلمان، الحكومة..) والسيرورة السياسية: الانتخابات، العزائم[24]: ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ﴾ (العنكبوت، 29)، وهو كل التوظيفات المنكحية في «التنادي» السياسي، وليس المنكحية الشَّبيهيّة وحْدها.
-
ترسيمة القوة السَّدومية
إنها قرية آيِلةٌ للفساد والسقوط، حتما: ﴿انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾ (العنكبوت، 30)،والحكيم المُلْتَاطُ بالإبراهيمية يرى سقوطهم قبل وقوعها: ﴿جَعَلنا عالِيَها سافِلَها﴾ (هود، 82).
-
الرَّشادية اللوطية:
حِكمة لوطٍ البابلي-الإبراهيمي ورشاده، هما نتيجة تربيته على يد إبراهيم بن تارح (عليهما السلام): ﴿وَنَجَّيناهُ وَلوطًا إِلَى الأَرضِ الَّتي بارَكنا فيها لِلعالَمينَ﴾ (الأنبياء، 71). ولذلك نشأ الشاب الإبراهيمي لوطٌ حكيمًا عالِمًا: ﴿وَلوطًا آتَيناهُ حُكمًا وَعِلمًا﴾ (الأنبياء، 74).
لقد قاوم السدومية بتربية شيعته على مِنوال قُوِّيٍّ جديد (مَطْعم، مَشرب، طب، رياضة، معيشة، عادات صحية..): ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّة﴾، مِن يحث حكمته وعلمه الواقعي-العَرْشِيّ[25]. وثانيا بالبحث عن «الركن الاجتماعي» الكفيل بالتعويض عن التنادي السياسي الفاسد (﴿أَو آوي إِلى رُكنٍ شَديدٍ﴾ (هود، 80)﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ (…) فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ﴾). والشدة الرُّكْنية هي المتانة التجمعية قُبَالة الفساد التجمعي للقرية السدومية، بحثا عن الانتصار جدّيّا: ﴿انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾ (العنكبوت، 30).
وثالثا، بتشجيع المَنكحية العَرشية (=الطبيعية): ﴿بَناتي هُنَّ أَطهَرُ لَكُم﴾ (هود، 78)، دون تكلف ولا تعقيد، بل مباشرة عند اكتشاف المرض الانفساقي. فالمنكحية العَرْشِية هي الكفيلة بتطهير هذا الاجتماع نفسيًّا (من «الهروع» العُصابيّ) وعلائقيا (مِنْ «قَطْع السُّبل»).
إن «المَسْعَى» (= المشروع اللوطي) إنما هو بحث عن «الرجل الرشيد»: ﴿أَلَيسَ مِنكُم رَجُلٌ رَشيدٌ﴾ (هود، 78)، والمرأة «غير الغابرة» أي «الطّاهرة»: ﴿بَناتي هُنَّ أَطهَرُ لَكُم﴾ (العنكبوت، 30)، لأنهن بنات الالتياط بالحكمة الإبراهيمية، أي حكمة الأب الرحيم للعالمين.
كان بحث النبي لوط (ع) المنتمي إلى الدورة الرسالية الإبراهيمية الأولى دون كَلل، ودون «مُغَاضبة»، إلى درجة أن المسؤول الأول عن الدَّورة (إبراهيم بن تَارح) ﴿يُجادِلُنا في قَومِ لوطٍ﴾ (هود، 74). وهي مجادَلة محمودة، إذ يُعرب المسؤول الأول، أنه والإمام لُوط (التابع لرسالته) ما زالا صابريْن على محاولة ترشيد سدوم وعمّورة، فهو إبْـ-رَاهيم (=أبٌ رحيم) للسوريين جميعا، وللبشرية التي تَقْبل هيمنته الرسالية. وتلك من أخلاق الدعاة الحقيقيين إلى «سُبل الرشاد».
ولكنْ، من سوء الحظ، كان للمَسْعى اللوطيّ الرشادي، نهاية. فكان الأمر له بالإسراء الثاني. كان إسراؤه الأول مع سيده إبراهيم بن تارح مِن سوريا الشرقية (العراق) إلى سوريا الغربية، وكان الإسراء الثاني من القرية السدومية إلى القرية الإبراهيمية-الإسلامية، لبناء سوريا الجديدة، سوريا «الطاهرة» والقوة «العزيزة» بالله تعالى، وسوريا الرشيدِين والرشيدات، سوريا «أهل الكتاب» (= صُحف إبراهيم في ذلك الأمد الإبراهيمي الأوّل)، سوريا الأركان الاجتماعية الشديدة بالمحبة والسعادة العامَّيْن. قال رسول الله (ص): «يرحم الله أخي لوطًا. كان يأوي إلى ركن شديد!»، فنبَّه الرسول إلى «أنّه كان مع الله مِن كَونه شديدًا»[26].
-
«مشروع» القرية اللوطية – الرشادية
خاتمة:
إن أسماء الأنبياءوالصديقين ليست اعتباطية. و«لوط» إنما سُمِّي كذلك، لأنه شديد الالتصاق بالإبراهيمية وحُبّا لها[27]، تربيةً ومعايير رسالية، وأبوّة حَانّة على البشرية[28]. وهو ابن إبراهيم بن تارِح رُوحيًّا: لاط فلانا بفلان: ألحقه به ونسبَه إليه». وهو مُلح في أمر الترشيد والصبر في الدعوة حتى مجادَلة الله تعالى في قومه: «لاط لاطًا في الأمر: ألحَّ».
و«اللُّوطُ» في نهاية الأمر هو «الرداء»، فلقد لبس ثوب التّقى والطّهارة ودعا السوريين إليهما، بإلحاحٍ شديدة وأبوة إبراهيمية مجادلة، وهو «لُوطٌ» بمعنى «الرجل الخفيف» إذ كانت «القوة» الجسدية التي تدعو إليها قوة خفة الحركة في مناقَضة للقوة السدومية الذِّئْبيّة الخنزيرية[29] المُخلِدة إلى الأرض. فاللَّوْطُ إنما هو تَمْدِيرٌ«لئلاّ يَنْشِفَ الماءُ»[30]، مِنالجَسد:﴿وَجَعَلنا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ﴾ (الأنبياء، 30).
**********************************************************
[1] من حديث له (ص) في خصال المرأة الصالحة.
[2] … عن طريق تأسيسه لخط الإمامة وكذلك تأسيسه لخط الطريق العرفاني.
[3]عصى العادون في الكوفة رسل سيدنا محمد (ص) من علي إلى الحسن والحسين ﴿وَتِلكَ عادٌ جَحَدوا بِآياتِ رَبِّهِم وَعَصَوا رُسُلَهُ وَاتَّبَعوا أَمرَ كُلِّ جَبّارٍ عَنيدٍ﴾ (هود، 59).
[4] الفيروزأبادي، القاموس المحيط، عالم الكتب، بيروت، د.ت، المجلد 1، ص280.
[5] م. س، ص 280 أيضا.
[6] انظر تدبر سورة الزلزلة.
[7] هذه الرحمة هي رحمة في رحمة أهل البيت وبركاتهم التي هي من الله تعالى (هود، الآية 73) فهو الحميد المجيد، و«الحميد» هو رب محمد، و«المجيد» هو ذو الرحمة المهدية المستمرة حتى يوم القيامة ببقيته.
[8] أعاد ذلك إسحاق الرسالة المحمدية: «إنما خرجت لأطلب الإصلاح في أمة جدي».
[9] الفيروز الأبادي، القاموس المحيط، عالم الكتب، بيروت، د. ت، المجلد 2، ص 383.
[10] م. س، ص 383.
[11] الفيروز أبادي، م. س، المجلد 2، ص 252.
[12] القرية: هي النسق الاجتماعي الخصوصي في المصطلحية القرآنية (راجع سورة ياسين، الآيتان 19 و 20).
[13]«سَدَم البَابَ: رَدَّهُ».
[14]﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾(غافر،38).
[15] راجع: ابن منظور، لسان العرب، مادة «سَدَمَ».
[16] جاءت تلك المعاني في م. س.
[17] جاءت تلك المعاني في م. س.
[18] جاءت تلك المعاني في م. س أيضا.
[19] ابن منظور، م. س.
[20] ابن منظور، لسان العرب، مادة «غَبَر».
[21] م.س.
[22] م.س.
[23]«الأغْبَرُ: الذئب»، م. س.
[24]«العزيمة» في لغتنا غير العربية: «القَرار».
[25] راجع تدبرنا في سورة ص.
[26] ابن عربي، فصوص الحِكم، دار المحجة البيضاء، بيروت، 2001، ص187.
[27]«لاط الشيءُ بقلبي»: «لصق به وأحببْتُهُ».
[28]«لاط الشيءُ بالشيء ألصقه به».
[29] راجع مفهوم «الخنزيرية» في تدبرنا في سورة المائدة.
[30] ابن منظور، م. س، مادة «لاَط».