د. نعمان المغربي: (مختص فيعلوم الأديان المقارنة) |
-﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَد﴾: لا يقسم الله تعالى بمكة المكرمة- رغم أنها أعظم مكان على الإطلاق- في الوقت الذي محمد (ص) حال بها، لأنه أعظم منها، فالشمس دائما تحجب الكواكب لأنها هي التي جعلتها مضيئة.
صحيح أن الله تعالى أقسم بمكة المكرمة:﴿وهذا البلد الأمين﴾(التين، الآية3)، ولكن محمدا (ص) أعظم منها، وإذا كان موجودا بها كان الأولى لسكان مكة وكل سكان العالم أن يقسموا به، قبل أن يقسموا بأي عظيم.
-﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾: بل الأولى أن يقسموا به ووالديه المباشرين ، أي بعبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب، عليهما السلام(أو بِوَالِدِيه جميعا).فكيف نقسم بمحمد، ونتناسى القسم بوَالِدَيْه، الصِّدِّيقِين، اللذين اصطفاهما الله لولادة أعظم الخلق جميعا؟!
من الواضح أن جنس الوالد يعود إلى ضمير﴿ أَنْتَ﴾،فيجب أن نحترم نسقية السورة وتكاملها، فهي ليست أجزاء مبعثرة، لأنها﴿من لدن حكيم عليم﴾(النمل، الآية 6) إذ هي فضاء تعبيري مُسَوَّر.
-إن﴿وَالِدٍ﴾ جاءت في صيغة عموم الجنس، أي كل الوالدين ل﴿أَنْتَ﴾رجالا ونساء، أو بالأقل الصِّدِّيق الصالح، الوالد المباشر: عبد الله عليه السلام: ﴿وتقلبك في الساجدين﴾ (الشعراء، الآية219).
-﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ :أقسم بعظمتك وعظمة الصِّدِّيْقَين عبد الله وآمنة أننا خلقنا الإنسان المعاصر لك (في البلد الأمين وغيره) في«مكابدة ومشقة من نفسه وهواه أو مرض بطن وفساد قلب وغلظ حجاب». وبذلك خان قومك رسالة والديك إسماعيل وإبراهيم بن تارح (عليهم السلام الثلاثة)،
ووالديك الصِّدِّيقين: قريش وعبد مناف (اي عبد الرفيع او عبد الرفعة ) وهاشم وشيبة (عبد المطلب) وعبد الله .
-﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾ : إن حسبانه وهم « لغلظ حجابه ومرض قلبه لاحتجابه بالطبيعة»، ولذلك أصبح متكبرا متناسيا وجود الإله القدير على كل شيء.
-﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا﴾: يقول أنفقت مالا كثيرا جدا، من أجل الدعاية لنفسه ولكيانه، ومن أجل الإطاحة بالدعوة المحمدية وكيانها ومؤمنيها.
-﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ﴾ : « أيحسب أن لم يطلع الله تعالى على باطنه ونيته» وسَوْقِه الساذج الذي لن يؤدي إلى إطفاء نور الله تعالى . وهل أن نفخ نملة يطفئ حتى شمعة ؟!
-﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ﴾: ألم ننعم عليه بالعين المادية والعين العقلية-العرفانية اللتين يتمكن بهما «من اكتساب الكمال الإنساني ليبصر ما يعتبر به ويسأل عما لا يعلم ويتكلم فيه».
-﴿وَلِسَانًا﴾:أي بالبنية اللغوية للقوم الذين ينتمي إليهم، والتي يتفاعل معها النبي أو الصِّدِّيق لكي يقربهم إلى الهداية. فإذا فسر القرآن نفسه، سنقرأ :
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾(إبراهيم،الآية4). فتكون لغة الرسول منتزعة من البنية اللغوية العامة «على قدر عقولهم وإلا لم يفهموا» .
-﴿وَشَفَتَيْنِ﴾: لا نجد في القرآن الكريم مادة« شفة» إلا في هذا الموضع، وبالتثنية. ف«الشفة»هي قدرة الإنسان الاستعدادية على «النطق»(المعرفة العالية). فالشفة الأولى هي الشفة التعقلية، والشفة الثانية التي تعقب الأولى مشروطة بها ، وهي الشفة العرفانية ذات المقامات المتعددة. وبذلك يتدرج الإنسان الكمالات المعرفية، شكرا لله تعالى:﴿ ويتفكرون في خلق السماوات والأرض [ناطقة شفتاهم الأولى فالثانية] : ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار﴾(سورة آل عمران، الآية191 ).
وبذلك يخرج الإنسان من«العين» (النظر) إلى الممارسة والسلوك اعتمادا على «لسان» النبي الحكيم (أو«الصِّدِّيق » الحكيم مكانه) الذي أوتي «جوامع الكلم».
– ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾:«النجد» من الأرض هو«ما أشرف منها و ارتفع واستَوى» . فمحمول «النجد» في العربية هو إيجابي دائما.
أما النجد الأول، فهو نتيجة للعين الأولى إذ يصبح الإنسان نجدا عقلانيا. أما النجد الثاني فهو نتيجة لاستواء العين الثانية وتكاملها ليصبح نجدا على طريق السلوك والعرفان. والنجد الأول ضروري لارتقاء النجد الثاني: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾.
إن «النجد» الأول هو نجد «الوالد» (أي عبد الله أو جميع والدي النبي محمد المجاهدين قبل ظهوره).
أما «النجد» الثاني فهو نجد﴿بآياتنا﴾ أي نجد المولود المخَلِّص :محمد (ص).
-﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَة﴾ : إن العقبة الرئيسة أمام الإنسان المعاصر لكي يصبح إنسانا حقيقيا هي النخاسة واستعباد الآخرين بأشكالهما المختلفة. فمترفو قريش لم يصبحوا متنفذين بالعمل، بل بتجارة العبيد و ب«بخس» الناس أشياءهم (أي بنخاستين: نخاسة الأبدان ونخاسة قوة عمل الناس).
-﴿أَوْإِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾:«وهذا أيضا سعي في سبيل الحرية، لأن الجوع والفقر تعقبهما العبودية، أو إنهما يقويان قيود العبودية. وذلك عندما تنسد أبواب النجاة من الجوع في الظروف الصعبة بوجه الجائعين ﴿فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾» .
وإطعام القرآن الكريم ليس إطعام الترف القرشي والاستكباري، إطعام التفاخر والإذلال وإطعام الميسر، بل هو إطعام الطعام:﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَام﴾(سورة الإنسان ،الآية 8 )، فالإطعام الميسري هو إطعام الإهانة. وهو أيضا ليس إطعام الشفقة والاستزلام .
-﴿يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾: أهم من يجب أن نفكر فيهم لنكون من«المبادرين البارزين» (دعاء كميل) بمجتمعنا هم قرابتنا. فـ«الماعون» (أي التضامنية) ينبغي أن يتجسد في «مبادرات بارزة» عائلية لإنقاذ يتامى القرابة ومساكينها.
-﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾:
-﴿ثم ﴾: تفصل بين مرحلتين، تؤدي الأولى إلى الثانية، من مرحلة النجد العَبْدَلِي- القُصَوِي (مرحلة لسان الصديقين في البلد الأمين) إلى مرحلة﴿ بآياتنا﴾ (دورة الرسالة المحمدية).
-﴿مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾: الإيمان من فضيلة الحكمة، وأشرف أنواعها وأجلها، وهو الإيمان العلمي اليقيني.
والصبر على الشدائد من أعظم أنواع الشجاعة وآخره عن الإيمان لامتناع حصول فضيلة الشجاعة بدون اليقين و«المرحمة»، أي التراحم والتعاطف من أفضل أنواع العدالة. إنها الفضائل الأربع التي يحصل بها كمال الإنسان. أولا : عدم التفكير في استعباد الإنسان الآخر؛ ثانيا إطعام الطعام في سياق
المبادرة البارزة الباحثة عن شبكة«ماعون» اجتماعية (شبكة تضامنية)؛ ثالثا: الإيمان العلمي اليقيني؛ رابعا : الإنجاز المؤسسي لـ«الرحمة»=(المرحمة) في مكة ثم في الدولة.
-﴿وتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ كانت مؤسسة «المرحمة» في المرحلة القصوية-العبدلية (لمرحلة الوالدية) متجسدة في إنجازات التقريش مع قصي (ع) وإنجازات هاشم الثريد وسقاية الحاج مع شيبة الحمد(ع) ،وتضامنية التاجر العالمي سيدنا عبد الله ، أبي محمد (ع). أما مؤسسة المرحمة
المولودية فهي مؤسسة العدل الإنساني المطلق التي استطاعت أن تجسد إغناء الناس جميعا:﴿ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ ضْلِهِ ۚ ﴾. فالرحمة الوالدية والمولودية لم تكن مجرد شفقة أو تعاطف استزلامي او مصلحي يكرس الضعف والاستضعاف، لتصبح مؤسسة «المرحمة» فيضا رحيميا ورحمانيا متواصلا
وشاملا: ﴿رحمة للعالمين﴾.
-كيف يمكن للإنسان في هذا البلد الأمين المقدس أن يعجب بالوالد (عبد الله، آمنة، شيبة، هاشم، قصي..)، ولا يطيع مولودهم الذي هو أعظم منهم عندما يتكلم عن﴿آياتنا﴾؟!!
كان الوالد العظيم (الذي كان أعظم من عبد المطلب) يقوم بدعوة أخلاقية فيها تقوم على اقتحام العقبة النفسية بفك الرقاب من العبودية واطعام لليتيم القريب (أي المنقطع عن الدورة الاجتماعية المعروفة) والمسكين (ذي البطالة الدائمة).
قال سيدنا الصادق عليه السلام:«كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم». وقد مر النبي (ص) بمرحلة عبدليه حتى سن الأربعين، لكن بإبداعية مناسبة لعصره ولعظمته. وإيمانا بصديقية أبيه سمى (ص) ابنه (الذي توفي في حياته)عبد الله استرجاعا لأبيه العظيم. فلما توفي استرجعه الحسين فكان أبا عبد الله. وكذلك فعل علي وجعفر عليهما السلام. فكنيتا الحسنين تعنيان تغذية التذكير بالوالد والمولود المقدسين معا (أبو محمد وأبو عبد الله).
فلما أصبح محمد (ص) صاحب ﴿آياتنا﴾ (سورة البلد، الآية 20)، كانت مرحلة جديدة، في طور آخر، من الدعوة، تبدأ بالإيمان بالله وبـ﴿أنت﴾(سورة البلد، الآية2 ) وبـ﴿آياتنا﴾. فبعد المرحلة المحمدية-العبدلية كانت﴿ثم﴾.
و«ثم» تعني ما بعد المسافة الزمنية الطويلة:﴿آمنوا[بآياتنا] وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾(سورة البلد، الآية17) مستهدين في هذا النجد ﴿بآياتنا﴾ (سورة البلد، الآية20).
-إذا قَبِل الضمير القرشي المرحلة العبدلية، و قَبِل محمدا الذي كان عبدليا، فكيف لا يقبله وهو ﴿بآياتنا﴾ ؟! إن هذا يعني أن إنسان قريش-عموما- أصبح لا يرى:﴿ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ﴾. وإذا كان لا يرى الله تعالى، فهو متقوقع حول ذاته، منحصر في نفسه الشريرة. وإذا كان متقوقعا في بلده، حتى إن كان مقدسا، فإنه قد جعل«نارا» مطلقة موصِدة لإمكانية انفتاحه من أجل الخروج من «العقبة». فإذا لم يجعل هذا الإنسان كل بلد هو﴿هذا البلد﴾ فقد جلب لنفسه ﴿نَارٌ مُؤْصَدَةٌ﴾.
فلا قيمة لهذا البلد بدون هذا المولود الأعظم وارث أعظم الوالدين وقيمهم قَبْل ﴿ثم﴾ وبعدها.
**********************************************
. [1]ابن عربي، تفسير القرآن الكريم، دار الكتب العلمية، بيروت2001،المجلد1، ص369 .
. [2]ابن منظور، لسان العرب، مادة ن ج د.
. [3]الطالقاني(آية الله محمود)، إشراق من القرآن الكريممؤسسة الهدى،طهران،2000، ج4، ص 108 .