في ظل غياب الآليات الدّستورية الضامنة لاحترامه( المحكمة الدّستورية) والهيئات ذات العلاقة المختصة بمقاومة الفساد وتبييض الأموال وغيرها، التي غيّبت على مدى عشر سنوات نتيجة السياسات الإخوانية المائعة والمخالفة للشرعية الدستورية. تحوّل الدّستور عند رئيس الجمهورية إلى”المتراس” ( La barricade)([1]) الذي يعتمده لصدّ كل سلطة تريد اختراقه وعدم الالتزام بجميع أحكامه، خاصة المتعلقة بمسارات تشكيل أعضاء الحكومة، سواء كان باسم “لغة التوافق” المفتعلة، أو باسم الشرعية الانتخابية والديمقراطية الكاذبة والوهمية، من أجل حفاظ حركة النّهضة وحلفائها على “غنائمهم الحزبيّة” على حساب مصلحة الشّعب.
فباسم “التوافق الحكومي” بين الخونة الذين تصدروا المشهد في تونس منذ 2011، تم اجهاض أهداف الحراك الشعبي وتعطيل بناء منظومة ديمقراطية فعلية وآلياتها الدستورية. وعملا بمقولة: ” تثبيت الأنظمة قبل عودة المقاتلين”، سعى حزب “حركة النّهضة” وداعميها المحليين والأجانب إلى جعل الأحزاب السّياسية في المعارضة ( الوطنية واليسارية والقومية) أن يقبلوا بالاذعان إلى الأمر الواقع والانحناء خارج الطريق، دون أن يدركوا حقيقة أبعاده هذه الخطوات ونتائجها التي ستترتب عليها( مثل إسقاط حكومة إلياس الفخفاخ التي كانت أكثر الحكومات تمثيلا دون أي مبرّر وجيه)، خاصّة في مستوى تعميق الأزمة الدستورية والدخول بالبلاد إلى نفق سياسي مظلم.
لقد بدأت تجليات هذه الأزمة في تونس، منذ انتخابات 2019، وتصاعدت بوتيرة أكبر نتيجة عجزها في تشكيل الحكومات، وعدم الاستجابة إلى مطالب مختلف أشكال الحراك الشعبي وعناوينه السّياسية والاجتماعية والاقتصادية، واعتمادها كغطاء في شرعيتها على الفساد والمال السياسي منذ 2011 والاستئساد بالسّفارات الأجنبية الدّاعمة لها..الخ. كل هذه الأسباب في رأينا وغيرها، وضعت حكومات النهضة المصلحة الوطنية ضمن قائمة آخر اهتماماتها، حيث تمكّنت حركة النّهضة الإخوانية، وبمساعدة “حكومة الظلّ”، من السّطو “غير الشّرعي” على الهياكل القضائية والدستورية والتشريعية، وتحكّمت في وسائل الإعلام لتوجيه الرأي العام بحسب ما يخدم مصالح هؤلاء السّماسرة وموكّليهم في الخارج، وعطّلت أشغال الهيئات الدستورية ( دائرة المحاسبات، المحكمة الدستورية..) من أجل تهيئة المناخ العام لإقامة نظام حكم فردي بتزكية خارجية أوروبية وأمريكية ــ صهيونية بشكل مباشر ويومي وعلني. ووضعت الشعب التونسي بين فكي كمّاشة “الفرجة” (البهتة) أو”التمرّد” من أجل تغيير ظروف لم تكن من صنعه ولم تكن نتائجها من انتظاراته.
لهذا، ينبغي أن نشير أنّ هذه الأزمة التي تبدو في ظاهرها دستورية، هي أعمق من ذلك. إذ منذ أن فازت “حركة النهضة الاخوانية” بأغلبية مقاعد “المجلس الوطني التأسيس” عام 2011، دخلت تونس في مسار”جديد” من التهديم لمؤسّسات الدولة وتمييع لسيادتها. فاتخذت مسارات أغلب الأحداث التي عاشها الشعب التونسي صفة “الهوجة” التي اقتلعت الصالح والطالح معًا. وتدعّمت هذه الأزمة اثر انتخابات 2019 لما فقدت النّهضة الأغلبية المريحة في مجلس نواب الشّعب، وهو ما دفعها إلى التحالف بشكل علني مع المافيا وحيتان الفساد المدعومة من قبل جميع الدّوائر الاستعمارية بما فيها الحركة الصهيونيّة.
هذا التحالف الذي أثار عديد التساؤلات حول مسوغاته وأهدافه بدأت تجلياته تظهر على السّطح، وأهمها التحالف من أجل خيانة الوطن في مختلف أبعادها: السياسية والأمنية والاقتصادية والمالية. وقد ابتلعت هذه الخيانة كل الآمال، وبدأ منسوبها يتراكم بالجملة والتفصيل وأنتج بيئة متوتّرة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ومحبطة لجميع القطاعات المهنية والفئات الاجتماعية وخاصة للشّباب الذين أشعلوا فتيلها وكان منهم أكثر الشّهداء. في مقابل ذلك، عمل هذا التحالف على دمج كل أصناف الخيانات واعتماد سياسات التبعية والتذلّل لأعداء الوطن.
في ظل هذه الأزمة أصبح الاخوان وحلفاؤها يطلبون من المستعمر (بحسب ما أشار إليه رئيس الجمهورية في عديد المناسبات) الذي سبب لهم هذه المحنة أن ينقذهم من مأزقهم ومحنة بلدهم؛ فكانوا سببا في عودة جميع أشكال الاستعمار (الخشنة والنّاعمة) إلى بلادنا، وتعطّلت مؤسّسات الدولة القضائية والتشريعية والرئاسية، لأنّهم أرادوها أن تكون أدوات لتحقيق مصالحهم ومصالح موكّليهم غير آبهين بما آل إليه حال الدّولة والمجتمع من “الموت البطيئ”.
لقد نكث رئيس الوزراء المكلّف بتشكيل الحكومة، منذ البداية العهد وفقد بصيرتهم وأخلّ بما أقسم عليه من واجب الدّفاع عن استقلال الوطن، وباتت حكومته عمياء تسيّرها فلسفة “التقطيع والترييش” القائمة على منطق “النّفْسَنة السّخيفة” ثقيلة الظلّ التي امتلأت بها القنوات التلفزية “اللاّوطنية” ( الخاصة والعمومية) ومواقع التّواصل الاجتماعي، حتى ارتبطت في أذهان عقلاء النّاس بغباء وعنجهية صاحبها أولا، وتعبّر عن فساد أهل السّلطة وخيانتهم للوطن ثانيا. وهذا كلّه يؤشّر على أنّ سُوسَ السّلطة في تونس بدأ ينخر عظامها ( مؤسّساتها وهياكلها الرّسمية)، ويبشّر بتهاويها وسقوطها في أيّة لحظة.
نرجو أن تفتح هذه “المَتْرسة الدستورية” لرئيس الجمهورية عيون بعض القادة السّياسيين والمحامين ورجال القانون النائمين في غفوتهم من السخرية وانهزامهم وخيانتهم لأوطانهم، لأنّ الذين صنعوا لهم هذه المحنة لن يعيدوا لهم أوطانهم إذا قذفتها أمواج التغيير أو السّقوط. فهل توجد غيبوبة أقبح وأسوأ من التّطبيع مع الفوضى الدّستوريّة والإذلال والارتهان السّيادي إلى أعداء الوطن؟ !
[1] ـ المتراس La Barricade أو الحاجز أو الجدار مهما كانت أشكالها ( ثابتة أو متحركة، مادية، معنوية/ قانونية، سلطة أمنية أو عسكرية..)، تعد من الوسائل المعتمدة في وضع خطوط الصد والدفاع، وتحديد خطوط المواجهة بين متخاصمين إثنين أو بين دولتين، من اجل التحكم في الحركة المجتمعية، وهو رمز يعطي إحساسا نفسيا بالأمن ضد الجهة التي تمثل الخطر على الدولة او المجتمع أو السلطة.