الاستقطاب الجديد، الذي يعيشه العالم مع التحولات الناتجة عن نهوض قوى الشرق العظمى روسيا والصين وكذلك إيران توفّر فرصا جديدة وثمينة لشعوب العالم الثالث، وما عرّفه علماء الاقتصاد السياسي منذ مطلع القرن العشرين بالبلدان المتخلفة، واصطلح على تسميته لاحقا بالدول النامية، التي أحكم الغرب الاستعماري قبضته في مواجهة طموحاتها باحتكار، التكنولوجيا وباستتباعها اقتصاديا وماليا، ومنعها من سبل التصنيع وتطوير الموارد المستقلة للثروة وقيادة تراكم وطني مستقل، أدرك المستعمرون أنه ركيزة التحرّر الناجز من الهيمنة.
أولا: إن صعود القوتين الروسية والصينية اقتصاديا وسياسا وعسكريا، يغيّر في الخارطة الاستراتيجية للعالم، ليس فحسب على مستوى التحدّي، الذي يمثله نهوض هذه القوى العملاقة في الشرق، بل في إشعاعها عبر المحيطات، وبصورة خاصة في اتجاه البلدان، التي شكّلت تاريخيا مرتكزات نهب واستغلال في منظومة الهيمنة اللصوصية الغربية على العالم الثالث، وحيث تقدم الشراكة مع الصين وروسيا فرصا ثورية في احتضان ورفد مشاريع التصنيع والتنمية الزراعية الواسعة، وتحديث البنى الأساسية، مما ينذر بتحولات ثورية تراكمية في الواقع الدولي، تفلت بنتيجتها دفعة واحدة، كمية متراكمة من موارد الثروات والأسواق من براثن اللصوصية الإمبريالية الدولية، التي تحكّمت برقاب الشعوب والبلدان منذ قرون. وبهذا المعنى فإن سطوع نجم العملاقين الشرقيين روسيا والصين الى جانب إيران، هو بشارة سعيدة لشعوب العالم الثالث، وبداية تاريخ جديد، يُفترض أن تتأهّب لملاقاته جميع قوى التحرّر والطلائع التقدّمية.
ثانيا: لسنا في وارد التسويق الإنشائي لفكرة البديل الشرقي، الذي يسمح للبلدان المتخلفة بالتحرّر من الهيمنة، وطرق أبواب التنمية والتصنيع والبناء الحديث للدول، التي حكم عليها الاستعمار بالتخلّف والتبعية منذ مطلع القرن العشرين، بل وأبعد من ذلك بعهود. إن الطابع المتكافئ للعلاقة الاقتصادية والسياسية، التي تقيمها كلٌّ من روسيا والصين مع شركائها في العالم الثالث، يحرّر تلك البلدان من الاستتباع القسري واللصوصية المهينة، التي يفرضها الغرب. فإن أهم ما في سلوك الصين وروسيا، هو احترام الإرادة السيادية للشعوب واحترام الخصوصيات الثقافية والقومية، وإقامة علاقات قاعدتها المصالح المشتركة والمتكافئة. وجميع نماذج الشراكة، التي تقيمها دول الشرق الصاعدة، أي الصين وروسيا وإيران، خالية من الإملاءات وتحوير الهويات الثقافية والحضارية قسريا لحساب السيطرة على الأسواق. فالشرق الصاعد يحترم خصائص الدول وهويات الشعوب وإراداتها الحرّة. وهذا أمر حاسم في تغيير البيئة الدولية، وتحريرها من نمطية الاستتباع والاستعباد، التي فرضها السلوك الإمبراطوري الأوروبي، ومن ثمّ الأميركي على العالم الثالث، وبصورة خاصة في منطقتنا العربية.
ثالثا: إن صعود رسيا والصين ومعهما إيران يوفّر فرصا جديدة سياسيا واقتصاديا لجميع حركات التحرّر. وتَبلور الشراكة السياسية والاستراتيجية بين دول الشرق الجديد، هو بمثابة الفرصة والتحول الثوري الكبير في البيئة الاستراتيجية العامة للعالم المعاصر. وعلى الرغم من مساعي الإعاقة والعرقلة الاستعمارية لهذا التحول، فإن الواقع التاريخي يشير الى تراكم مقدمات انعطافة كبرى في الوضع العالمي اقتصاديا واستراتيجيا. وبالتالي سنكون أمام اكتمال عناصر نضج الظرف الجديد في زمن لن يطول. ومن هنا تتراكم عناصر الفرص الجديدة للشعوب ولحركات التحرّر الطامحة. وهو ما يفسّر شراسة ردّ الفعل الاستعماري الغربي تجاه التحولات والسلوكيات، التي تعكس التوتّر والقلق من إفلات كثير من البلدان من قبضة الهيمنة وبراثنها. إن التغيير العالمي المتراكم والتحولات الاستراتيجية الناشئة عنه، هو بشارة مخاص جديد ستفيد منه جميع حركات التحرّر ومبادرات التنمية المستقلة والتصنيع في العالم الثالث بشراكات ندّية، تنقل التكنولوجيا، وتحقّق التصنيع والازهار بعيدا من قيود الاستغلال والنهب والاستتباع السياسي والاقتصادي. وهذا سيزيد من فرص التحول العالمي، كما أنه يفسّر حالة التوتّر والعُصاب في سلوكيات القوى الاستعمارية، التي تميد الأرض من تحتها.
إن عالما جديدا يتشكّل، وعهود السيطرة الاستعمارية والهيمنة الأحادية تداعت. وبالتالي باتت فرص المستقبل في متناول الإرادات الحرّة، التي تتسلّح بالوعي والتصميم على تحقيق مصالح الشعوب والدول طموحاتها بعيدا عن الإملاءات والسيطرة الأجنبية. ولن يطول الزمن قبل ارتسام خرائط جديدة. وعلى المثقفين الثوريين العرب ودعاة التحرّر في الوطن الكبير أن يفكروا بجدية في كيفية اللّحاق بركب التحول الجاري، ليلتقطوا الفرص، وليطلقوا المارد العربي المحبوس في قمقم الاستعمار الغربي الخانق.