د. منصف بن حمْدة (باحث في العلوم السياسية)
أدهشني خطاب رئيس الدولة، قيس سْعَيد، في رمضان الفارط (18 أفريل 2022) في حفل تسليم جوائز الفائزين في المسابقة الوطنية لحفظ القرآن الكريم. فلقد اكتشفت، مرة أخرى، عديد الإشكالات في الثقافة الدينية للرئيس. وهاهي أدلتي أسوقها إليكم.
1_ المشكل البيداغوجي والتَّرَفيَّةُ:
لم يكن الرئيس بيداغوجيّا. فجمهوره في ذلك الحفل من الأطفال والمراهقين والشيوخ غير المختصين في القانون الدستوري ليقول لهم إن الدولة «خيال»، «الدولة لا وجود لها»، «هي ذات معنوية»، فهذا الخطاب لا يهم جمهوره المباشر في تلك الليلة، ولا أكثرية شعبه التونسي. بل يهم جمهورًا نخبويا، يبحث في القانون الدستوري والفلسفة السياسية. كما أن تلك الليلة ليست مناسبة لذلك المضمون.
إنه خطاب ترفيّ ـــ نخبويّ، فلقد ظُلِم الرجل باتهامه بالشعبوية!!
2_ «دين الدولة» أم «دين الأفراد» أم «دين الأمّة»؟!
صَدم الرئيس جمهوره المباشر، وجمهوره الواسع، بقوله: «ليس الإسلام دين الدولة. وإنما هو دين الأفراد». فلم أكن أدري أن الرجل فرداني التفكير إلى هذه الدرجة.
ولم أكن أدري أنه لم يلتفت إلى أن الخطاب القرآني تَعامَل مع الفرد: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، وتعامل مع المُثَنَّى: ﴿قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍ : أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ، ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ﴾. وكما سيحاسِب الله تعالى الفرد، سيحاسب الجماعة والأمّة أيضا: ﴿وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰٓ إِلَىٰ كِتَٰبِهَا﴾.
فهناك كتاب للفرد، وكتاب للأمّة. فللأمّة كيان حقيقي، موضوعي، وليست وهما، ولا «خيالا»… وهنا أنصح الرئيس بالتواضع مع كتاب «مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم»، للمفكر العربي الكبير: محمد باقر الصدر، كي يتعمق في هذه النقطة.
لقد أَدخل فينا غولةً. «كانِت تِشْخِرْ، زَادِتْ بُفْ!».
فهل سيصبح للدولة التونسية دينًا آخر في الدستور الجديد؟! أم ستصبح فيه دولتنا دون دين؟! أم هذا تمهيد نفسي لنا حتى نقبل دستورا جديدا يلغي أن دين الدولة الإسلام؟!!
3_ المصطلح السياسي القرآني غائب في خطاب الرئيس:
يريد الرئيس من القرآن الكريم أن يكون فيه مصطلح «دَوْلة»، بينما هذا المصطلح (وبهذا المعنى) لم يكن في التنزيل. فنحن نجد عوض مصطلح «دَوْلة»، مصطلح «المدينة» (مكانُ «الدين» أي القانون أو السلطة. كان يوسف ﴿في دين المَلِك﴾). فلم تكن في العربية كلمة «الدَّوْلة» بالمعنى المتداول منذ العصر العباسي.
ولكننا نجد في القرآن الكريم ما يقابل هذا المصطلح العباسي: مصطلح «المُلْك» («مُلك طالوت»، «مُلْك سليمان»، «مُلْك فرعون»، «مُلْك بلقيس»، «مُلْك آل ابراهيم العظيم»…). وإذا كان منهج تفكير الرجل تجزيئيًّا (كما هو فرداني)، لا نسَقيًّا، فلن يجد «الدولة» في القرآن الكريم.
وإنني لأستغرب من مدرّس قانون دستوريٍّ لا يذكر لجمهوره دستورَ النبي(ص): «الصحيفة». فعليه أن يتواضع معها، إن أراد أن يقوم بأي إصلاح دستوري. وهل هناك ﴿أقوم قيلا﴾ في البشر من الرسول(ص) (والصحيفة مِنْ قِيلِه)؟!!
ــــــ*ــــــ
_ إذا كان الله تعالى لن يحاسب «الدولة» و «المجلس النيابي» و«الحكومة» ولن «يكب دولة في النار» ـــ كما ذكر الرئيس في ذلك الحفل ـــ فلماذا يحاسِب الرئيس الحكومةَ، ويلغي المجلس النيابي ويحاسب الأحزاب مادام الله لن يحاسبها؟!! عجيب أمرُه: ألمْ يمرّ بسورة الجاثية: ﴿وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰٓ إِلَىٰ كِتَٰبِهَا﴾؟!!
_ وإذا كانت «الدولة» خيالاً، فإن «الأمّة» ــــ التي يتحدث عنها الرئيس في ذلك الحفل ــــ خيال أيضا، تمامًا كـ«الشركة التجارية» (في استدلال الرئيس). فكيف يكون الإسلام «دين الأمّة وليس دين الدولة»؟!! أليست «الأمّة» ذاتًا معنوية أيضا؟!!
إنها سَفْسَطة لا داعيَ لها!! بينما الأوْلى أن نكون سُقراطيين!!
4_ الغائب في الخطاب الديني للرئيس:
كُنا نرجو وُجود خطاب يحث على العطاء: العمل لا الكسل، وعلى «الزكاة» (التي خرجتْ من فمه ليتراجع عنها!!)، وعلى بناء «الأحباس الحديثة» في اقتصاد حديث (كأحباس جامعة تل أبيب الصهيونية وجامعة بوسطن…)، لمواجهة الأزمة الاقتصادية.
ـ(أ)ـ كنا نرجو توجيها نحو الاقتصاد الاجتماعي ــــ التضامني(اقتصاد «الماعون» كما في الخطاب القرآني).
ـ(ب)ـ كنَّا نرجو تأكيدا لـ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾، أي تحريمًا للتبعية للظالمين الإمبرياليين( فعلينا أن نعيد بحثنا في مقولة «الكفر» بالقرآن الكريم). فنؤسس منوال تنمية قائم على السيادة، ويعيد للفلاّح ولصاحب رأس المال الصغير كرامتَيْهِما المفقودَتَيْن مُنذ قرون.
ـ(ت)ـ كنّا نرجو نقْدَا أمام رئيس رابطة القرآن الكريم لسيطرة حزب النهضة عليها(كما لو كانت حكرا عليها)، ولفتحها أبوابها منذ عام 2011 إلى عام 2015 للسلفيين الجهاديين(محمد حسان، بشير بالحْسَن، محمد العريفي…). وكنا نرجو نقدا لرفض الرابطة طلباتِ المثقفين المتدينين المستقلين أن يحاضروا بفروع الرابطة(ومنهم أنا)… فيطلبُ الرئيس مِن الهيئة أن تبدأ عصرًا جديدًا ينشُرُ الفكر الديني الوسطي، لا الفكر الديني الوهابي المنحرف، كما فعلت الرابطة في تلك الفترة، خاصة أن رئيسها رجل فاضل ومستقل (الشيخ محمد مَشْفَر).
5_ هل مازال «التطبيع خيانة عظمى» عند الرئيس؟
بعد تطبيعية بن علي، وبعد أن دشّن حزب النهضة سيرورة التطبيع التونسيةِ قطرةً قطرةً(عهود رئيسه للصهاينة في آي باك بواشنطن قبل انتخابات عام 2011)، مرورا بتطبيعية الحكومات المتعاقبة منذ تلك الانتخابات، ها إننا نشهد سيرورة تطبيع جديدة.
من المعلوم أن الكثيرين ممّن صوّتوا لقيس سْعَيّد عام 2019، راهنوا عليه، رغم أنه ـــ كما صرح ـــ كان «دون برنامج انتخابي»، لأنه قال في آخر المناظرة التلفزيونية: «التطبيع خيانة عظمى»، مكررا ذلك ثلاث مرات.
بعدها مباشرة، لم يُعد قيس سْعَيّد تلك الجملة، ولو مرة واحدة … فلم يصدر مرسوما لتجريم التطبيع حتى بعد 25 جويلية 2021. بل تقارب مع الدول العربية المطبّعة مع الكيان الصهيوني، دون أن يجني دولارَ مساعدة واحدًا… واعتبر أن الاحتلال الفرنسي لتونس لم يكن «كولونياليةً» نهبيةً وتدميرية، بل كان مجرد «حماية» هيّنة لا تستحق تعويضات مالية وإنسانية.
ولم تكن بيانات وزارة الخارجية(وهي تحت سيطرة الرئيس من قَبل 25/07/2021) في حجم أحداث الاضطهاد الصهيوني للشعب الفلسطيني وشعوب بلاد الشام طيلة هذه السنوات، بل غضّت وزارة الخارجية الطرف عن عديد الأحداث الاضطهادية. كما لم تندد بالخطوات التطبيعية العربية عامي 2020 و2021.
على عكس ذلك وجدناها مندّدة بالهجومات اليمنية على المجال السعودي، في حين أنها كانت صامتة تجاه الاحتلال السعودي لليمن(بينما اليمن لم تحتل السعودية، وكانت هجوماتها مجرد مرادّات ردعية)، وتجاه جوع اليمنيين وأمراضهم وتدهور وضع الطفولة بينهم، بسبب ذلك الاحتلال.
ونجد وزارة الخارجية تصطفّ إلى جانب حلف شمال الأطلسي في صراعه مع روسيا على أكرانيا، بتصويتات الأمم المتحدة، بينما كان عليها أن تلزم الحياد(في حين أن الدول التطبيعية العربية لم تصوت في الجمعية العامة ضدّ روسيا!!). ولم يلغ الرئيس قيس سْعَيّد وضعيّة الدولة التونسية بماهي عضو ثانوي قار في حلف شمال الأطلسي(«عضو أساسي غير حليف») سنة 2015 في عهد الباجي قايد السبسي بصمت مُبارِك من النهضة وورثة الدساترة. وكان وزير دفاع قيس سعيد إلى جانب وزير الحرب الصهيوني في أفريل 2022 باجتماع لحلف شمال الأطلسي مساند للحكومة الأكرانية المتصهينة.
وتحت غطاء ممارسة الشعائر الدينية، استقبلت الحكومة التونسية في ماي 2022 الجاري العديد من رموز الصهاينة، جاؤوا جوا مباشرة من الكيان الصهيوني، دون المرور بمطارات وسيطة. وعدم تفنيد الحكومة الخبر دليل على صحته.
ولم تعاقب الرئاسة وحكومتها التجارَ و الفنانين التونسيين الذين مازالوا يزورون الكيان الصهيوني. ولم يعاقِب وزيرُ الشباب والرياضة لاعبةَ التنس أنس جابر لِلَعبها مع لاعبات صهاينة. وعدم تفنيد الوزير خبر تطبيعية اللاعبة دليل آخر على صحته.
خاتمة:
أريدُ أن ألفِت نظر الرئيس إلى أنَّ الأوْلى ليس تغيير النظام السياسي وتغيير الدستور، وإنما الأوْلى أن يُنصّب رئيس حكومة من نوع عبد الجليل البدوي وحسين الديماسي من أجل مواجهة الأزمة الاقتصادية أولا، ومن أجل إرساء منوال تنمية عَدَالي جديد ثانيا… لا أن يبقى في سياق استراتيجيا تَرَفيّةٍ لنْ يَهتم بها شعْبُنَا المكتوي بارتفاع الأسعار وحجم البطالة. وكما خسرنا عشر سنوات من فرصة شعبنا الثورية، ها أننا سنخسر سنوات أخرى.
وإذا كان الاتحاد الأوروبي وأعوَانُهُ التونسيون أحرقوا محاصيل الحبوب في ولاية باجة سابقا، فلنْ يحرقوها الآن، لأنَّ سُوقَ أكرانيا وروسيا مغلقة، فالأوروبيون الآن في حاجة لأي كميات إضافية. ولكنهم وأعوانهم سيحرقون فضاءات أخرى. وعلى الرئيس أن ينتبه لذلك.
إن فرصة التدارك بقيس سْعَيّد هشة لعدم وجود البصيرة الثورية والكتلة التاريخية ولعدم وجود توجه شعبي في اختيارات الرئيس.
نداء للرئيس:
حَذَارِ أيها الرئيس من شعبنا، فإن صَبْرَهُ ليس بدون حدود. وباعتبار أنه غير مؤطَّر دينيا، وحزبيّا، وبالجمعيات المدنية، فإنني أخاف من غضبه الفوضوي… والوقتُ يَمرّ بسرعة رهيبة!!
فلا تُضع الوقت. واقرأ جيدا سورة يوسف لتعرف سبل الإصلاح لـ«المُلْك»، أي لـ«الدولة» ، ولـ«العَرْش» أي لـ«السلطة». فهنالك تكتشف أن الوزير يوسف سَبَّق الأهم على المهمّ، والاقتصاديَّ على أي شيء آخر…
ياربي قَدِّر الخير لبلادي!!