أحاول أن أقنع نفسي بأن الأنظمة العربية التي بدأت مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني ستراجع حساباتها بعد معركة “طوفان الأقصى”، كما أن أول من بدأ التطبيع مع هذا البلد سيعيد النظر في طبيعة القرار، الذي اتخذه منذ أكثر من 40 سنة وبدا اليوم أنه لم يكن القرار الصائب أبدا.
المعادلة واضحة المجاهيل، يعتقد أنصار التطبيع أن الكيان الصهيوني سيمكّن الفلسطينيين من حقوقهم كلما تم إدماجه ضمن الدول المحيطة به، وأن الإصرار على انتزاع الحق منه بالقوة لن يجدي نفعا لأنه بالضرورة الأقوى والأكثر تسليحا وهم الأضعف والأقل قوة في جميع المجالات، ويفترض هؤلاء أن الصهاينة عقلانيون وسيوازنون مستقبلا بين المصالح التي سيربحونها جراء التطبيع المكثَّف معهم وحقوق الشعب الفلسطيني، فيضطرون إلى تمكينه من إقامة دولة مستقلة على جزء من أرضه، وينظر هؤلاء، من ناحية أخرى، إلى ما يمكن أن يحققوه جراء هذا التطبيع من إرضاء الغرب عنهم، وبخاصة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي ووصفهم بالمنتمين إلى المجتمع الدولي المتحضّر البعيدين عن التطرف ودائرة الشعوب الغريزية المنغلقة، التي ما فتئت تضع الغرب ضمن دائرة المستغل المتجبّر والمستعلي على ثقافتهم، المحتقر لوجودهم كحضارة ذات قيم وكأُممٍ لها شخصيتها المتميزة، وأمام عبارات الثناء التي يتلقاها زعماؤهم بين الحين والآخر، وقبول الاشتراك معهم في بعض المشاريع الكبرى والعملاقة أحيانا، والكف عن النظر إليهم بدونية واحتقار، يعتقد المندرجون ضمن مسار التطبيع أنهم أنقذوا أنفسهم وشعوبهم من البقاء ضمن دائرة الخوف والتخلف، فالغرب اليوم يحميهم ويمنع عنهم الاعتداء، ويسمح لهم بالدخول إلى دائرة التقدّم والاستفادة من أرقى ما أنتجه من وسائل رفاه وازدهار في كافة المجالات.
ضمن هذه الحالة الذهنية يعيش المطبعون، وهو ما يفسّر تعاملهم ببرودة وأحيانا بلامبالاة مع معركة تاريخية تجري اليوم في فلسطين عنوانها “طوفان الأقصى”، تصل في قيمتها الإستراتيجية إلى مستوى كبرى المعارك التي عرفها التاريخ، كـ”اليرموك” بالنسبة للمسلمين و”بواتييه” (بلاط الشهداء) بالنسبة لمسيحيي غرب أوروبا و”ستالينغراد” بالنسبة للروس و”ديان بيان فو” بالنسبة للفيتناميين، يقلّلون من قيمتها إلى درجة الاستهزاء، ويمضون غير مبالين في طريق تحالفهم مع مغتصبي الأرض والمقدسات إلى درجة تصنيفهم ضمن المظلومين لا الظالمين.
هل يصحو هؤلاء ويصحّحوا المسار الذي سلكوه أم أنهم سيستمروا في طريقهم غير مبالين، معتقدين أن موجات الطوفان لن تغمرهم ذات يوم؟
يبدو، بالفعل، أن دول التطبيع اليوم أمام مأزق خيار إستراتيجي حقيقي سيحدّد مصيرها لعقود قادمة: إما تواصل السير في هذا الطريق وهي تعرف نتائجه مسبقا، أو تغيّر المسار أو تصححه إلى حين، وأمام حسابات الربح والخسارة على المديين المتوسط والبعيد، ستكون، بالفعل، في وضع غير مريح، ولعلي من الآن أقول أنها تدرك خسارتها على المدى البعيد، إن واصلت على هذا النهج، إنها تعلم أن الغرب غرب والشرق شرق، وتعلم أن الغرب سيهدّدها بكل الوسائل إن هي عادت من منتصف الطريق، ولذلك، تجدها اليوم تسعى للامتداد شرقا لعلها تجد التوازن المناسب في محاولة للجمع بين المتناقضات، أن تكون مع نفسها وعمقها التاريخي الطبيعي بقيّمه السامية وحقوقه المشروعة في أوطانها وفي فلسطين، وأن تكون صديقة الغرب المغتصب لهذه الحقوق والساعي إلى مسخها وإدراجها ضمن منظومته القيمية.
إنها بالفعل معضلة مركّبة الأبعاد ليس من السهل الخروج منها، والأمر يتطلب وضوحا كبيرا في الرؤية لمرحلة ما بعد “طوفان الأقصى”، ولما بعد قوة أمريكا والغرب، ولما بعد قوة القوى الجديدة الصاعدة وقدرتها على المناورة وإدارة الصراع، لذا، فإن الرّهان اليوم هو على النخبة الفكرية والإستراتيجية لدى هذه الدول المطبّعة، إن هي تستطيع تفكيك شفرة الوضع المركّب الحالي واستشراف القادم من الأوضاع أم لا؟ إنها وحدها القادرة على فهم الأبعاد الخفية من معركة “الطوفان”، وعلى ضوء ذلك، يمكنها أن تتصرف، وفي كل الحالات، ما زال لدينا أمل.