يقول المثل: “إنّ المطرَ لا ينْزِل بلْ ينْهمِرُ”
يبدو أنّ تونس منذ عام 2011 قد زاد فيها الانْهِمار في منسوب الاستحمار السّياسي والعطالة في عقول أغلب النّخب السّياسية والاجتماعية والإعلامية. وهذه المعضلة تدل على أنّ ظاهرة الاستحمار تحولت عندنا، نتيجة أسباب تاريخية وأيديولوجية وأنثربولوجية مختلفة، إلى مستوى القدْسنة (Sacralisation) ، وباتت تشكّل أحد خصائص مناسكنا الطقوسية الدنيويّة التي يحجّ إليها السّياسيون بشكل دوري كلما عاشت بلادنا رجّة سياسية أو إنتخابية أو فضيحة اقتصادية في ظل قوانينا “الهجينة” ونتيجة إثارة “الغبار الإعلامي” التي شرّعت به هذه النخبة ثقافة الانحطاط السّياسي وزرعت من خلاله “جذور عشب” الفتنة والتشظّي الاجتماعي.
على الرّغم من أنّ الوضع في تونس، بشكل عام، مازال متحركًا ـ غير قابل للضّبط والتنبؤ بمآلاته ــ وغير محسوم في تشكّلاتها الحكومية ومفاوضاته السّياسية والتوافق بين كتله النيابية، فإنّ بعض السّياسيين عادوا إلى عصبياتهم “الشعبوية” والأيديولوجية المغلقة، سواء من خلال التصريحات الإعلامية أو التدوينات الفيسبوكية التي أصبحت فائضة عن الحاجة، وعادوا بنا إلى المشهد السياسي الانتكاسوي، وإلى حالة اللايقين والتلميح بالتزاوج بين الأضداد، فعمت حالة التوتر والعراك المفتعل والسّباق في طريق الخداع حتى وصلنا إلى طريق مسدود لا نعرف إلى أية أهداف نحن سائرون !
يبدو أنّ هذه النخبة في تونس لم تستوعب الدّروس الإنتخابية الأخيرة(أكتوبر 2019) و”حكمة الجماهير”، وأنّ شبابنا لم يعد يقوم مقام “العقل المتلقي” ولا يحتاج إلى “خبراء” أومحللين ومؤطرين سياسيين ( ذئاب في ثياب حملان) لم يتخلصوا بعد من انتماءاتهم التقليدية ( السياسوية والاجتماعية والدينية) التي فقدت فعاليتها، وأصبحت خارج السّياقات المستحدثة ــ إقليميا ودوليا ــ وباتت تهدّد شرعيّة المؤسّسات “الديمقراطية” في الدّولة وتنبؤ بتآكلها القانوني والرّمزي.
وطالما أن نخبنا السّياسية مازالت موبوءة بالمصلحة الشخصية ومطبّعة مع ثقافة الاستحمار السياسي وراضية بأن يقودها رأس المال “المتلبرل” في السّياسة والاقتصاد والثقافة، ولوبيات الفساد مازالت مهيمنة وصاحبة القرار في اختياراتنا السياسية والاقتصادية، فسيظل المجتمع معطوبا على نحو يصعب إصلاحه ما لم تتغيّر هذه العقول وتتحرّر من مسلماتها السياسية التقليدية وعنترياتها “الثوريّة” العُجْلى وغير الموزونة وفاقدة البوصلة العقلية والشرعيّة الشعبية الحقيقية.
لقد كانت بينية “العقل السّياسي العربي” تقوم على منطق الاخلاف وشخصانية مؤسّسات الدّولة دائما، كما نعرف، ومازل أبناء العائلة الواحدة ــ أحيانا ــ يتنازعون حول أحداث وقعت منذ عشرات السّنين، بل منذ قرون. وإذا ما بقينا نتوارث هذه الثقافة الاسترجاعية والدورانية في الاستحمار السّياسي جيلا بعد جيل، مثلما حدثنا عنها العلامة “عبد الرحمان ابن خلدون”، فسنظلّ نعيش نفس الأعراض الانتكاسويّة ونعاود إنتاجها، ولن يظفر مجتمعنا التونسي إلا بسيادة هجينة لدولة بلا روح.
وهل يمكن لعاقل أن يصدّق أنه يمكن للثّورة السّياسية مهما كانت خلفيتها الأيديولوجية، وفي مختلف دول العالم، أن تقدّم لكل الأشخاص والتيارات السّياسية الأطباق التي يرغبون فيها؟!