يهرب الصوفيّة وخصومهم عادة الى ما يمكن أن نسمّيه كلمة سواء. يقول الصّوفية : “من ذاق عرف” وكذلك يقول من يخالفونهم ويختلفون عنهم. هكذا أسلم يحسب هؤلاء وهؤلاء. لا الصوفي مستعدّ للتّفريط في معرفة يذوقها ولا هو مستعدّ لعرض ما يذوق على عقل ولا غيره يسلّم بمعرفة لا يذوقها ولا تصادف مقدّمات هو يعتمدها ليعرف والرّأي أنّ هذه المقدّمات منطقية وعقلانية.
هذا وضعٌ غيرُ سويّ ولا أرى أنّ مجهودا كافيا يبذلُ لتجاوزه وكثير من اللّوم يقع على الصّوفية. ذلك أنّه لا جرأة كافية بينهم لطرح سؤال المعرفة انطلاقا ممّا يجرّبون ويذوقون. التصوّف في الدائرة السنّية عملي تمريني بلا نظريّة ولا نظر فكري وفلسفي وحتّى المحاولات التي يبذلها بعض المتصوّفين لا تلقى رواجا كافيا ولا تظفر بإضافات نوعية تعضدها وتقوّيها. كلّ ما يحصّله الصوفي في سلوكه الصوفي زيادة يقينه هو بما هو فيه. يعرف الصّوفي بالتجربة والتمرين ولكنّه يعجز عن بناء نظرية متكاملة في المعرفة. حال جماعة العرفان في البيئة الشيعية أفضل وإن كان هؤلاء لا يشكّلون أغلبية داخل الفضاء العقدي الشيعي. هناك استثناء ايراني متين ومفيد ولكن يلزم وقت وعمل دؤوب ليتحوّل العرفان الايراني عرفانا شيعيّا. التصوّف السنّي أضخم وأوسع الآن من العرفان الشيعي ولكن العرفان يطوّر نظرية في المعرفة وينقسم الى عرفان عملي وعرفان نظري. لا يقف جماعة العرفان عند “من ذاق عرف”. هم يتجاوزون الى القول أنّه ولأنّ معرفة حصلت فهي ولا شكّ تقوم على قوانين وتصادف سننا لا بدّ من الإهتداء اليها وفي هذا الطّريق يمضون وحسب اطّلاعي المتواضع فإنّ ما يبلغونه في هذا الإتّجاه ليس بالهيّن ولا القليل. ليس هناك تصوّف نظري أو فلسفي في الدّائرة الصوفية السنّية يضاهي عرفان الشيعة النظري.
طبعا هناك خصوصية ايرانية ولا شكّ فالتقليد الفلسفي الإيراني قديم ومتين ولا عقدة للايراني عندما يتعامل مع جهابذة الفلسفة الغربيين. ملكوا هم أيضا ويملكون من يضاهيهم وأكثر وعندما ينكبّون على بناء نظرية معاصرة للمعرفة يجدون في ميراثهم الفلسفي ما ييسّر الطّريق. لا علاقة لما يُسهم به الإيرانيون في هذا المضمار بمفردات المذهب ولا علاقة بمفردات الدّين حتّى في المستوى الأوّل والمباشر. هذا الجهد المبذول يعني الجميع أي أنّه يعني كلّ من يعي بأنّ معركة المعرفة معركة حاسمة وأنّ نظريّة المعرفة كما ركّبها الغربيون تبلغ حدّها بل وتتآكل.
لماذا هي معركة حيويّة ومصيريّة؟ لأنّ مردّ كلّ أمر إنساني الى المعرفة ولا تقوم حضارة من الحضارات الّا على هندسة معرفية. هناك اسهامات معتبرة للسوداني أبي القاسم حاج حمد رحمه الله والأخير ركّز باقتدار على أنظمة المعرفة انفصالا واتّصالا واختلافا وتكاملا وصراع وتناف. كان يفترض أن تتأسّس على هذه الإسهامات رؤية ونضالية معرفية ولكنّ شيئا من هذا لم يكن لأنّنا اخترنا الطّريق الأسهل، طريق السّياسة وأحزابها وطريق القتال وما يطلب من عدّة وعتاد. الطريق الأقصر والأسلم هو طريق الأكاديميات والابحاث المتينة ومراكز الدّراسات المتخصّصة ولو أنفقت الصّحوات والحركات الإسلامية عشر ما انفقته بين سياسة وسلاح، لو أنفقت هذا العُشر في البحث وبناء النّخب وتشبيك الطاقات البحثية لأنجزت الكثير ولكنّها استبدلت ذلك بخطاب دعوي ضعيف بغاية الحشد ومضت في مغامرات ورّثتنا ما نحن فيه. ولو اعتنت بالتصوّف لتغيّرت أولويّاتها باتّجاه التصوّف ولفهمت حينها أنّ المعركة حقّا ومنذ ثلاث قرون على الأقلّ هي معركة المعرفة.
هي لم تنظر أصلا في التصوّف ولم تبحث وأنّما استعاضت عن ذلك بسخرية منه وباحتقار وازدراء متّهمة ايّاه بالعجز والأنزواء واللّافاعلية بل زادت واختزلته في زردة وشعوذة والواقع أنّه آخر ما بقي من عبقريّة الإسلام. واقعا والآن وبعد تجارب بلغت الأقصى تبيّن أنّ هذه الحركات هي العاجزة وهي التي بلغت أبعد حدود اللّافعل بتحوّلها الى فعل مضادّ وهي التي تُنبذ وتحتقرُ وتهان. لو عادت الى الوراء قليلا ونظرت في التجربة المحمّدية المؤسّسة لفهمت أنّ رسول الإسلام إنّما فتح لنظرية معرفة جديدة بمقدّمات ومقاصد وأنّ كلّ ما أُنجز تاريخيا ارتبط بهذا التّأسيس المعرفي. من جهة أخرى هو لم يقل أنّه عرف لأنّه ذاق ولم يجتمع الذين اجتمعوا حوله ليصف لهم ما ذاق. قال للقريب وللبعيد أنّه يخرج من ظلمات الى نور وقدّ بالنور وللنور منظومة مُكتملة.
طبيعي ولأنّ الوجود يقوم على التّعاقب أن يكون بعد النّور ظلمة وليس في الأمر ما يُدهشُ وليس فيه ما يبعث على يأس ولا ما يثبّط. يكون نور بعد ظلمة حجبت نورا سابقا وهكذا الى ما لا نهاية. النور دوّار تماما كالظلمة ولكن ما وجب الوعي به أنّ مسألة النور والظلمة وما يكون بينهما مرتبطة بالمعرفة. كلّ الباقي من توازنات حسّية ومادية وموازين قوى وصراعات ليس الّا صورا لوقائع المعرفة وحالاتها. من يقوى إنّما يقوى بالمعرفة ومن يضعف فإنّما يضعف بسببها.
أعتقد أنّ الخلل الذي أصاب المسلمين باكرا جدّا وتجلّى تاريخا بعد حين مرتبط بتحوّل في النظرة جعلهم يحسبون الاسلام نظرية في الحكم والانتظام والإدارة والسّعي في القوّة والسؤدد والواقع أنّه نظرية في المعرفة تسندها منظومة معنوية. تقويم الخلل ليس ممكنا باستئناف صراعات القوّة وباستئناف سلطة وحكم اسلاميين. هذا التّقويم ليس ممكنا دون فتح معرفي وازن ومتين ومؤثر. ليس القصد استعادة معارف ولّى زمنها وإنّما ابداع نظرية في المعرفة تكون قادرة على منافسة السّائد من نظرية منذ قرون وهذا السّائد ليس علميّا ولا هو عقلاني كما يحسب البعض. يبرّر بعلم وعقل وموضوعية، هذا صحيح ولكنّ الأصل فيه تغليب خيار على خيار وعندما يغلب خيار تحضر كلّ الوسائل للتّمكين له وإظهاره وفرضه والإقناع به. لا الإيمان علمي ولا الكفر علمي ولو كان الأمر يُحسم بعلم سينتفي الإثنان وليس منتظرا أن ينتفي هذا وذاك فهما أيضا دوّاران ويطلب أحدهما الآخر. لا علاقة للبرجوازية بحقّ وحقيقة وجدارة معنوية وقيمية ولكن البرجوازية فرضت أن يكون احتكار منها للحق والحقيقة والمعنى والقيمة. فرضت ذلك لتداعي نظرية المعرفة الدينية.
هل المعرفة كُتب؟ لا. هذه معرفة على الرّفوف والمطلوب معرفة تمشي وتتحرّك. كان الرّسول قرآنا يمشي على الأرض فلمّا انتقل ما نفع القرآن كثيرا وقد اكتمل نزولة وتمّ الدّين. ربحنا اكتمال التنزّل وتمام الدّين وخسرنا المشي والماشي. وما الماشي قائد جند ولا هو موزّع مال ولا هو ملك أو أمير يدير الشؤون. هو نبيّ أي مؤتمن على المنظومة وهو عارف وجبل معنويّ. لذلك فالحلّ في استعادة النبوّة ومشيها والمطلوب بعد أطنان من تفسير القرآن ومن وقناطير من أحكام فقة يفصّل في الحلال والحرام، المطلوب تدبّر في النبوّة وحفر في معناها وتدرّب عليها بأقدار.
وحده التصوّف يرى من هذا ويقول منه وهو عندما يقوله يقوله بصوت خافت. ذلك أنّ مياها كثيرة جرت منذ انتقال النبي وأنّنا حوّلناه طللا، تارة نبكيه وتارة نشكر سعيه والعام أنّنا نحسبه ساعي بريد أنجز المهمّة على أحسن حال ومضى. نحن نصلّي عليه ولا نصلّي أي أنّنا لا نفهم هذه الصّلاة صلة به ووصلا لمن انقطع منه فينا. كان دور النبيّ، لو القصد فقط أنّ يبلّغ رسالة، سيكون أبلغ لو كان ملكا من الملائكة ولكنّه كان انسانا يشبهنا كثيرا، يأكل ما نأكل من طعام ويمشي في أسواقنا ويتزوّج من النّساء. هو تجلّ لأمر بسيط وعظيم في آن: النبوّة ممكن انساني. صحيح أنّه مبلّغ ولكنّه أيضا مدرّب على النبوّة ومفجّرٌ لممكنها في الإنسان. هذه أبلغ زاوية نظر نقنع من خلالها بإنسانية الدّين والإسلام. لا نقنع بمعارف ولا بفتوحات ولا بفقهاء.
ليس التصوّف جوهرا الّا وعيا بمحورية النبي في منظومة الإسلام وليس الّا اقتناعا بأنّ هناك معرفة حيويّة وأصيلة لا نبلغها الّا بمقدار نبوّتنا الذاتية والنبوة من المتاح للانسان ومن المشاع. لا بمعنى أن يضطلع هذا الانسان برسالة يبلغها ولا بمعنى أنّه يعيد تعريف الحلال والحرام ولكن بمعنى أن يقتبس من نور النبوّة ما يستضيء به، يستنير وينير. نعم إنّ التصوّف يشكّل رمزيا محاولة هامّة لاستعادة النبيّ ودوره والذين يمضون في التصوف بتجرّد وصدق وصبر يبلغون من المقام ما نحسب أنّه حكر على الأنبياء ولماذا يكون حكرا عليهم ويدُ الله مبسوطة ويتولّى الإنسان بالألطاف والرّحمات. لولا وعود التصوّف وبشاراته لحسبت الإسلام تهوّد فاليهود يرون يد الله مغلولة. أشهدُ الله أنّني اذ أحدّث في هذا لا أشهد ما أحدّث فيه وعنه في نفسي. فقط أتدبّر سير العارفين الكمّل وأخلص الى أمور مفيدة. ما يصرحون به وهم يصرّحون بالقليل لا يفسّر بهلوسة وهذيان وخبط عشواء. لا. هم عباقرة ابتلاهم الله بجمهور مستغن مكتف يحسب أنه يفهم ويعلم. انا أتدبرهم سائلا فقيرا وأفهم عنهم الكثير بحمد الله. أهمّ ما أفهمه انّهم يختزنون نظرية عظيمة في الوجود والمعرفة والإنسان وجب الإشتغال عليها وتسييلها بلغة مُبتكرة وهذه هي الورشة الواعدة حقّا للمسلمين وغيرهم.
قريبا جدا سنشهد انهيار ما بنته الليبرالية الغربية من أسباب قوّة تغوّلت بها وعبرها وأذلّت بها عريق الأديان والثقافات. سينهار الأسطول المفاهيمي الذي اعتمدته هذه الليبرالية وستنهار نظريتها في المعرفة ومقاربة الإنسان. حينها تكون فرصة التصوّف ولا أقول الدّين فقد اخترقت الليبرالية الغربية الأديان وفصلتها عن هندستها الأصيلة بل وظّفتها في حروبها. ليس التصوف تعبيرة اسلامية وكفى. هو الهندسة الأولى لكلّ دين وفي كلّ مذهب ودين صوفية ومتصوفون. اذا سلّمنا بأنّ الحضارة التي تغرق ببلوغها الحدّ مادّية فإنّ ضدّها الحتمي روحي صوفي.
الوسومالتصوف الهذيلي منصر
شاهد أيضاً
كتب د. الهذيلي منصر: فتنة “الحرف” أو في استحالة “البسّ”…كربلاء الأخرى
هناك نصوص عظيمة وأعمال فنيّة عبقريّة وتجارب روحية ودينية عميقة لم تكن لتبلغنا ولم نكن …