الدكتور بهيج سكاكيني |
جباية الاموال هي الصفة المميزة التي دمغت وتميزت بها إدارة ترامب منذ مجيئه الى الان فهو لم يترك بلدا زارها الا وطلب منها المساهمة في المجهودات الحربية الامريكية أو دفع الجزية تجاه حمايتهم من عدو وهمي يتبدل ويتغير بحسب الظروف المكانية والزمنية ويتضح بعد فوات الاوان للمغفلين أن الولايات المتحدة هي من خلقت هذا العدو بإعلامها ومراكز أبحاثها الاستراتيجية الذي يغذى طبعا بمئات الملايين من الدولارات التي تدفع سنويا من قبل شركات المجمع الصناعي العسكري وكل الشركات المرتبطة بهذا الاخطبوط الذي يشكل دم الشعوب ومقدراتها الطاقة اللازمة لكي يبقي على دوران عجلات شركاته.
وضمن عملية الجباية فقد تم تحصيل ما يقرب من ترليون دولار من أبقار دول الخليج إما بضربها مع بعضها البعض وإدارة الصراع بينها أو بتخويفها من “البعبع” الايراني وهذا لا يلقى فقط الاذان الصاغية بل وأيضا الاشتراك والتهليل والتخويف من “الشيعة” وإثارة النعرات المذهبية على مستوى المنطقة بأسرها. وعمل أو حاول العمل بالمثل مع كوريا الجنوبية واليابان عن طريق تخويفها من كوريا الشمالية وترسانتها النووية الى الحد الذي أقدمت فيه الولايات المتحدة بنصب منظومة صواريخ مضادة للصورايخ على أراضي كوريا الجنوبية دون علم مسبق للحكومة في كوريا الجنوبية مطالبة إياها بدفع مليار دولار لحمايتها وهي ما رفضته حكومة كوريا الجنوبية.
والدول الاوروبية والاتحاد الاوروبي طبعا لم ولن تستثنى من هذه الجباية المستمرة منذ ان أقيم حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة تحت ذريعة التصدي للاتحاد السوفياتي والمد الشيوعي في اوروبا. وبالرغم من التعهد الامريكي بحل حلف الناتو على اثر انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك جمهوريات وحل حلف وارسو إلا ان الولايات المتحدة أبقت على حلف الناتو وليس هذا فحسب بل سعت ومنذ رئاسة بيل كلينتون الى ضم عدد من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة الى هذا الحلف بالرغم من المعارضة الاوروبية لذلك لما يشكل هذا عليها من ضغوط إقتصادية وعسكرية وسياسية أيضا.
والزيارة المرتقبة للرئيس ترامب الى القارة الاوروبية لحضور قمة الناتو في بروكسل في 11 من الشهر الجاري ستثير نوع من الحساسيات وإختلافات في وجهات النظر وخاصة بين الرئيس ترامب والمستشارة الالمانية ميريكل وقد سبق لترامب أن اهان ميريكل في السنة الماضية وطالب المانيا بدفع مئات المليارات للحلف التي تخلفت عن دفعها سابقا. ويقال ان ترامب الى جانب انه سيهدد الدول الاوروبية بالتزام بدفع تعهداتها المالية والتي تقرب من 2% من الناتج القومي للبلد فإنه يحمل دفتر حسابات خاصة بالمانيا وقد يطالبها بدفع ما يقرب من 300 مليار دولار كمستحقات سابقة عليها ان تدفعها. المانيا لعبت البقرة الحلوب الاوروبية منذ فترة طويلة سواء بحجم مساهماتها المالية في حلف الناتو وتحمل كل التبعات المالية الى ضم المانيا الشرقية اليها الى جانب الاموال التي دفعتها للابقاء على اليونان بعد إفلاس الدولة وكذلك المليارات التي دفعت لايطاليا والبرتغال لدعم إقتصاديات هذه الدول المتهالكة.
من المؤكد ان الرئيس ترامب سيعيد تهديداته لدول الحلف “إدفعوا وإلا…” وهي العبارة التي يشتهر بها عند القيام بعملية الجباية المالية. هنالك ما يقرب من 20 دولة من دول التحاد الاوروبي لم تلتزم بدفع مساهماتها المالية الى الحلف وخاصة بعد الركود الذي صاحب اقتصادياتها في عام 2008 والتي ما زالت تعاني من أثاره لغاية الان. هذا الى جانب ان بعض دوله اصبحت تعي تماما ان حلف الناتو لم يعد حلفا دفاعيا كما كان يدعي قبل 1990 عندما كان الاتحاد السوفياتي ما زال متواجدا وهنالك بعض التململ الاوروبي الذي بدأ يظهر مؤخرا بعدم الانجرار وراء السياسة العدوانية الامريكية التي تضر بعلاقاتها الاقتصادية مع روسيا الاتحادية الى جانب تعريض امنها القومي الى الخطر في حالة نشوب صدامات عسكرية مع القوات الروسية فأوروبا هي من سيكون المتضرر الاول والاخير بحكم قربها الجغرافي من روسيا.
يجدر بنا ان ندركه ان حلف الناتو ليس حلفا دفاعيا كما يريد البعض توصيفه وخاصة بعد 1990 فمعظم عملياته العسكرية كانت وما زالت تمثل حروبا امريكية بإمتياز للحفاظ على مصالح الولايات المتحدة بالدرجة الاولى والمشاركة الاوروبية لم تكن دفاعا عن المصالح الاوروبية ولا أمنها القومي. وبمعنى آخر وأدق فإن دول حلف الناتو تقوم بدفع تكاليف الحروب الامريكية للمصالح الامريكية دون ان تحصل على اية فائدة تذكر ليس هذا وحسب فإن مساهماتها تاتي على حساب بؤس شعوبها نتيجة هذه الحروب وما تجره من أفواج من اللاجئيين الى بلادهم وهذا بالضبط ما حدث نتيجة العدوان على ليبيا وسوريا خاصة حيث توجه مئات الالاف من اللاجئين والنازحين الى الدول الاوروبية. والجميع يدري الازمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي عايشتها بعض الدول الاوروبية وما تزال، الى جانب نمو التيارات والاحزاب اليمينية المتطرفة في المانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان وغيرها والتي حققت نجاحات غير متوقعة في الانتخابات المحلية وحتى الرئاسية والتي بنيت على خطاب الكراهية للاجانب واللاجئين. وقد كادت الازمة التي اثارتها موجات اللاجئين في المانيا الى سقوط محتم لحزب ميريكل في الانتخابات. ليس هذا وفقط بل أن موجات اللاجئين كادت تعصف بوجود الاتحاد الاوروبي بأكمله نتيجة الاختلافات الحادة بين دوله في التعاطي مع قضية اللاجئين. هذا الى جانب العمليات الارهابية التي تعرضت لها بعض المدن الرئيسية لبعض الدول الاوروبية من الارهاب المهاجر والعائد الى جحوره.
وإذا ما اخذنا كندا كمثال فإن الارقام الرسمية للميزانيات التي اقرها البرلمان الكندي تشير الى ان تكاليف إرسال الجنود الكنديين الى جانب المواد التسليحية وغيرها كانت بمقدار 15 بليون دولار على مدى 12 عاما للعدوان والاحتلال الامريكي لافغانستان. وهذا المبلغ دفع بدلا من الولايات النمتحدة دون اية فائدة للشعب الكندي. ومع كل هذا فإن الامريكيين لم يستحوا لتقديم شكوى لهذا الحليف. وكذلك فإن المشاركة الكندية بالاعتداء على يوغسلافية وثلاثة اشهر من القصف الجوي عام 1999 قد كلف الخزينة الكندية أكثر من مليار دولار وهذه لم تفعل شيئا للكنديين ولكنها ادت الى توسيع النفوذ الامريكي في البلقان. ولقد شاركت كندا في غزو هايتي في 29 فبراير من عام 2004 لاسقاط النظام واستبداله بعميل امريكي وكذلك ساهمت في العدوان على ليبيا وشاركت ضمن التحالف الدولي التي تقوده امريكا في العراق وسوريا بكلفة اكثر من مليار دولار. كل هذه الحروب كانت حروبا امريكية بامتياز شاركت بها دول حلف الناتو لتحقيق الاستراتيجية الامريكية لا غير. ويحق لاي باحث او مواطن لهذه الدول ان يتساءل ما هو خطر ما يدور في افغانستان على الأمن القومي الكندي او الاسترالي او الالماني مثلا؟
يرى البعض ان التهديدات التي يطلقها الرئيس ترامب بين الحين والاخر تجاه دول حلف الناتو قد تودي الى إنهيار هذا الحلف وخاصة وأن ترامب الذي رفع شعار “امريكا أولا” ووضعه حيز التنفيذ بالانسحاب من العديد من الاتفاقيات والتفاهمات الدولية حتى مع اقرب الحلفاء ووضع قيود تجارية عليها، وما الذي يحصل في حلف الناتو الان الا حلقة في هذا المسلسل. ويبقى السؤال الى اي مدى من الممكن ان تتحمل اوروبا مثل هذه المعاملة من قبل الولايات المتحدة وتتجه الى إقامة حلف أمني خاص بها وهي فكرة كانت قد طرحت في السابق وتجد لها مؤيدين في الاوساط السياسية الاوروبية.