أدرك العدو الصهيوني أن قوى المقاومة العربية والفلسطينية، في الجوار القريب وفي المدى البعيد، قد طورت قدراتها العسكرية، ونَوَّعَت أسلحتها، وحدثت ترساناتها، وخرجت من أطرها القديمة ووسائلها التقليدية، وبدأت ضدها حروباً جديدةً، بأشكالَ مختلفةٍ وصورٍ مبتكرةٍ، لم يعد ميدانها البرُ فقط، وسلاحها البندقية والقنبلة والصاروخ، والدوريات والاشتباكات والعبوات، وإنما تعدتها إلى مجالاتٍ جديدةٍ وميادين مختلفة، تجاوزت فيها أيضاً حروب السايبر وعمليات الاختراق والقرصنة، التي برعت فيها ونجحت، وحققت خلالها انجازاتٍ نوعية واختراقاتٍ خطيرةً، كَبَّدت العدو الصهيوني خلالها خسائر فادحة، وأدخلته في دوامة قلقٍ وخوفٍ دائمين، وأعيته كل محاولات الحماية، ومخططات بناء برامج وقائية وأنظمة جُدُرِ ناريةٍ عن حماية مؤسساته ومشاريعه، وبرامجه وأسراره، ومنتجاته وابتكاراته.
اليوم تدخل المقاومة العربية بكل جرأةٍ وشجاعةٍ، وقوةٍ واقتدارٍ، ميدان الحروب الجوية، وتقتحم الفضاء المفتوح والسماء المكشوفة، وتصل بطائراتها المسيرة إلى الكثير من الأهداف والمواقع الإسرائيلية المحددة مواقعها، والمرصودة أماكنها، والتي يصعب على العدو إخفاؤها أو تغيير مواقعها، أو تمويهها وحجب احداثياتها.
وقد أصبح لكل قوى المقاومة بنوكاً زاخرة بالأهداف الإسرائيلية، وعامرة بالتحديثات وقادرة على متابعة التغييرات الطارئة والتبديلات الهادفة، ومحاولات الخداع والتمويه، ولعلها لم تعد خائفة من إعلان أهدافها، وتوقيت غاراتها، وتحديد جهات قصفها، في دلالةٍ واضحة إلى قدرتها وتمكنها، وطمأنينتها ويقينها، فهي لم تعد تخشى العدو أو تخاف من تفوقه، أو ترتدع من سلاحه وتجبن عن مواجهته، بعد أن بات لديها ما يَفُلُ سلاحه ويحد قدراته، ويعطل إمكانياته، بل وما يرصد طائراته ويتابع الحركة في مطاراته.
ليست المسيرات الثلاث التي أطلقها حزب الله فوق منصة الغاز الإسرائيلية في مياه البحر المتوسط هي التي أخافت العدو وأربكته، وكشفت عن قدرات أعدائه الكبيرة وإمكانيات المقاومة المتعاظمة، وإن كانت قد أقلقته فعلاً بسبب قدرتها على الوصول بنجاح إلى هدفها المرصود، وعجز الرادارات الإسرائيلية والأمريكية التي كانت متواجدة في عرض البحر عن اكتشافها، فضلاً عن اعتراضها واسقاطها، مما يشير إلى أنها مسيرات حديثة، وأنها ذات تقنياتٍ عاليةٍ، وأن حزب الله لديه المزيد منها، زودته بها إيران أو تمكن من شرائها بنفسه، كما أصبح قادراً على تصنيعها وتطويرها، وتعويض النقص فيها.
بداية القلق والمخاوف الإسرائيلية كانت قبل سنواتٍ مضت، عندما نجح الحوثيون في استهداف مجمعات آرامكو النفطية السعودية، التي وصلتها طائراتهم المسيرة أكثر من مرةٍ وقصفتها، وعطلت العديد من أجزائها، قبل أن تتمكن من الوصول إلى مياه الخليج العربي، وتضرب سفناً راسيةً في فنائه، وتحلق فوق مطارات المنطقة، ما أدى إلى توقفها عن العمل مؤقتاً، وتعطيل برامجها، وتحويل مسارات الطيران المدني، الأمر الذي ألحق خسائر بالملاحة الجوية، وتسبب في أضرار مادية كبيرة.
هذا إلى جانب المخاوف الأمنية التي أخذت تتصاعد وتكبر، وتأخذ مناحي مسعورة في التسلح وبناء المنظومات المضادة، التي لم تتمكن حتى الآن من إظهار فعاليتها، وإثبات قدراتها أمام هذه المسيرات الصغيرة الدقيقة، التي غدت كالطيور المحلقة، تتحكم في طيرانها، وتعدل مسارها، وتموه حركتها، وتعرف أهدافها، وتطير على ارتفاعاتٍ مختلفةٍ تعقد وسائل اكتشافها وسبل ملاحقتها، بالإضافة إلى التنافس الشديد في تصنيعها وتطويرها، حيث باتت تقنياتها سهلة ومتوفرة، ومصانعها كثيرة وعديدة، وتجارها الذين يبغون الربح ويبحثون عن الكسب، لا يبالون بمن تقع في أيديهم هذه المسيرات.
ليست هذه محاولة للغرور أو الحرب الدعائية، أو التباهي بالقدرة واستعراض القوة، بقدر ما هي عرض للمخاوف الإسرائيلية الحقيقية، التي عبر عنها الكثير من ضباط جيشهم وخبرائهم ومراسليهم ومحلليهم العسكريين، الذين لا يخفون مخاوفهم من أن المعارك القادمة مع قوى المقاومة ستكون معارك جوية، وستكون فوق مناطق استراتيجية، وأخرى فوق مناطق سكنية وتجمعاتٍ مدنية، الأمر الذي من شأنه أن يعطل قدرات الجيش النوعية، ويشل قدراته الدفاعية ويعطل أذرعه الهجومية.
لا يخفي العدو الصهيوني أنه حاول ضرب مقرات القيادة الجوية، ومراكز التصنيع والتطوير، ومحطات الإطلاق والإدارة، واستهدف الشحنات الواردة وقتل عدداً من الخبراء والمصنعين، لكنه يعترف أنه عجز عن تعطيل برامج السلاح الجوي لدى قوى المقاومة، التي تمكنت من امتلاك العديد منها، ما يجعلها قادرة على الوصول إلى كل الأهداف القريبة والمحيطة، ولعل تجربة البالونات المفخخة والطائرات الورقية المحملة بمواد حارقةٍ، تجعلهم يدركون خطورة المسيرات ومدى قدرتها على إلحاق الرعب بين السكان، إذ ستكون قادرة على التدمير والقصف، والحرق والتخريب، والقتل والإصابة، فضلاً عن احتمالية تزايد مرضى الحالات النفسية، الذين أرعبتهم الطائرات الورقية، وجعلت عيونهم تدور في محاجرها وهي تتطلع إلى السماء تترقب الشهب الساقط وتخاف من اللهب الصاعد، وتتحسب من كل طائرٍ في السماء، ويظنون أن كل صيحةٍ هي عليهم.
لا ندعي القوة ولا نتظاهر بالتفوق، لكننا بالتأكيد نظهر عزمنا، ونبدي إرادتنا، ونكشف عن نوايانا، ونقول بالفعل قبل الكلام، وبالعمل أكثر من الادعاء، أننا نصر على حقوقنا، ونناضل من أجل تحرير أوطاننا وتطهير مقدساتنا، وأننا نقاوم أعداءنا مهما كانت قوتهم، أو تعاظم سلاحهم واشتد بأسهم.
إننا ونحن أصحاب الأرض وأهل الحق، قادرون على أن نجترح كل يومٍ سلاحاً جديداً، من الصخر نشقه، ومن الحجر نصنعه، ومن طين الأرض نشكله، لنواجه به عدونا، ونستعيد به حقنا، فلا نستسلم له عن ضعفٍ، ولا نهادنه عن عجزٍ، ولا نفرط له في شبرٍ من أرضنا، أو جزءٍ من حقوقنا، مهما علا وبغا واستعلى وطغى، والسماء مدانا والفضاء مجالنا، والأرض ميداننا والمستقبل لنا، وعيوننا بعد السماء على البحر إن لزم الأمر نشقه، ووعداً إلى النصر نخوضه.
moustafa.leddawi@gmail.com