كان يُقال أنّ الكيان الصهيوني يحتاج لديمومة الحرب لضمان استدامة البقاء، هذا في وقتٍ كان يملك فيها القدرة والقوة والذراع الطويلة، وقد عزز هذه النمطية روح الهزيمة التي شاعت في جنبات الأمة، بفعل التخاذل وانبطاح ما بات يُعرف بأنظمة الاعتدال، وكان هذا على قاعدة أنّ”إسرائيل” قوةٌ لا تُقهر أمنياً وعسكرياً، وهي بدورها كانت تسعى لتكريس هذه الفكرة وترسيخها كعقيدة في الوعي الجمعي للأمة، وذلك عبر العدوانية المتحفزة والعدوان الدائم، ولكن اليوم قد انقلبت الصورة، وأصبحت”إسرائيل” تسعى لترميم صورة الردع التي شرختها التواريخ المتتالية، وكلما حاولت الترميم ازدادت الشروخ على عكس المأمول، ففي التاريخ الأخير على غزة، تعمق الشرخ في صورة الردع “الإسرائيلي”، وفي المحاولة الأخيرة في سوريا بعد صمتٍ قهريٍ طويل، ازدادت الأمور سوءً، والجبهة اللبنانية مغلقة بطبيعة الحال، وهذا يعني أنّ العدو يمتلك القوة لكنه يفتقد للقدرة، وقد أصبحت ذراعه الطويلة تعاني من شبه شللٍ رعاش، وبما أنّ هذا يشكل خطراً استراتيجياً على وجود الكيان، فقد يستعيض عن ذلك بالتطبيع بالتوازي مع الاستعراض والإيهام بالقدرة.
بعيداً عن مفاجآت القدر لـ”إسرائيل” حيث يجعلها تُقدم على حماقة أخيرة بافتعال حربٍ تتوسع جبهاتها، أو حماقةٍ يرتكبها نتن ياهو تحت ضغط المزايدات الداخلية، فإنّ “إسرائيل” -وعلى عكس ما يُشاع بانّها ستقوم بعدوانٍ يعيد إليها قوة الردع مرةً واحدة-، فلن تقدم على أيّ مغامرةٍ من هذا النوع، لأنّها تدرك أنّ الجبهات مغلقة جنوباً وشمالاً، وأنّ المغامرة جنوباً قد تزيد شروخها شروخاً، وأنّ المغامرة شمالاً ستكون آخر المغامرات وآخر الحروب، لذلك فالأرجح أن تتوغل “إسرائيل” بشكلٍ ناعم عبر إظهار العلاقات السرية مع حلفائها العرب، بكل ما يعنيه ذلك من مكاسب على المستويات السياسية والثقافية والاقتصادية والمالية والأمنية، ولكن هذا التوغل الناعم يحتاج إلى مطرقةٍ غليظة وخشنة، للإيهام بصدقية قاعدة القوة التي لا تُقهر والذراع الطويلة، وبما أنّ الساحات جميعاً مغلقة، من غزة إلى لبنان فسوريا وصولاً إلى إيران، فإنّ العراق قد يكون الساحة الأمثل لتمرير هذه الاستراتيجيا، حيث أنّ بعض غاراتٍ على بعض المواقع بحجة مصانع صواريخ إيرانية ستؤدي الغرض، وفي ذات الوقت تقوم باستهداف بعض قطاعات الحشد الشعبي، الحشد الذي يعتبر نفسه طرفاً في الصراع معها.
كما أنّ استهداف الحشد سيكون هديةً ثمينة للحكم السعودي، الذي اعتبره ترامب ضرورة للحفاظ على وجود”إسرائيل”، والحقيقة أنّ وجود كلاهما ضرورة لوجود الآخر، فآل سعود و”إسرائيل” خرجا من ذات الجحر الذي لَدَغَنا مرتين، لذلك فإنّ على العراق أن يكون حذراً، خصوصاً مع التهويل الذي يمارسه الإعلام العبري عن وجود مصانع للصواريخ الإيرانية في العراق، فإغلاق السماء العراقية في وجه”إسرائيل” سيجعل منها قرداً في قفص يكتفي بالقفز والزقيح، فالدرس المُستفاد من العدوان الأخير والفاشل على سوريا، أنّ صراخ القرود قد يصبح متعذراً ذات يوم، حتى في إطار المزايدات الانتخابية الداخلية، فأن تُسقط سوريا كل الأهداف المعادية في السماء قبل الوصول لأهدافها ودون استخدام منظومة أس300، وتعلن ذلك في ظل اكتفاء العدو بنفي إسقاط طائرة حربية ثم الصمت المطبق، يعني أنّه تجرّع مرةً أخرى ذلّ الانكسار، بعكس الجيش السوري الذي يملك القدرة والقوة والذراع الطويلة، والأهم الإرادة الصلبة للذهاب بعيداً جداً، فالجيش الذي انتصر على طوفان الإرهاب على مدى ثمانِ سنوات، لن يضيره بلل الطائرات”الإسرائيلية”، واستفاد نتن ياهو قطعاً أنّ هناك قراراً سياسياً سيادياً سورياً بالذهاب بعيداً وبعيداً جداً.
وبالعودة للعراق، فإنّ الرئيس الأمريكي الجشع الذي يحب لعبة الابتزاز، يكرر سراً وعلناً ضرورة أن يدفع العراق تكاليف احتلاله، كما أنّه يدرك حاجة نظام المحاصصة القائم له للبقاء والاستمرار، حيث كشف موقع “إكسيوس” الأمريكي مطالبة ترامب للعبادي في مارس الماضي بدفع تعويضات الاحتلال، وكان ردّ العبادي “بأنّنا نعمل عن كثب مع الشركات الأمريكية التي تعمل في العراق”، أيّ أنّ العبادي لا مانع لديه من الدفع تحت وهج الحماية الأمريكية ورغبته في تمديد ولايته، وهذا يعيدنا ثانياً لفائدةٍ متوخاة من القصف”الإسرائيلي” للعراق، حيث سيلجأ ساسته لترامب لوقف الهجمات “الإسرائيلية”، وهذا ما سيرتب ابتزازاً جديداً للعراق، كما في ظل الحديث عن سكة حديد تمتد من إيران إلى سوريا مروراً بالعراق، سيجعل محطته في العراق خاصرةً رخوة للطيران”الإسرائيلي”، لذلك فإنّ إخراج الولايات المتحدة من العراق سيكون خطوة في الاتجاه الصحيح، فمنطق حمايتها للنظام تكذّبه الوقائع والتواريخ، والحقيقة أنّ النظام القائم على المناتشة والمناوشة لا يستحق إلّا حمايةً أمريكية، بينما الأنظمة الوطنية تستحق حماية الشعوب.
نبأ برس