بقلم: د. نعمان المغربي (مختص في علوم الأديان المقارنة، – تونس)
عفا الله عنه وحفظ أهله، آمين
بين «غار»«البراءة» و«مغارات»«التعاهد» مع المشركين«المُعْتَدِين»: بين البُنيان السياسي الإسلامي والبُنيان السياسي الضِّراري
9. السَّوْق الشرعي العاقل من أجل استمرار البُنيان الإسلامي
- مقولة«البُنيان» في القرآن الكريم:
«البُنيانُ»، مقولة قرآنية، وَرَدَ في سُورة الصف (4) وسورة الصافات (97) وسورة الكهف (21) والنحل (26)، وكان التوسع فيه أكثر مع سورة التوبة (108، 109 و110).
إذا اعتبرنا جرد هذه الآيات، وانتزعنا منها شبكة ارتباطات مفهوم «البُنيانُ» بالمفاهيم المحايثة له في كامل القرآن الكريم، يمكننا اكتشاف أن «البُنيانُ» هو سيرورة هيمنية لا مركزية لسَوْق الاجتماع وِفق تأسيس وقواعد ملّية وانتحالية ونفسية وأمرية (سياسية) ومَعَاشية معينة. ويمكننا تبيّن التمايز بين البنيان الاجتماعي الإسلامي ونظيره الشركي بهذا الجدول:
البنيان الإسلامي | البنيان الشِّركي | |
التأسيس القلبي | تأسِيس على التقوى والرضوان الإلهي (التوبة، 109) | رِيبة في القلوب (التوبة، 110) |
الأمْر | ﴿الَّذينَ غَلَبوا [تولّوا] عَلى أَمرِهِم [على منهاج التمهيد للولاية العليا لأهل البيت]﴾(الكهف، 21) | التربّص من أجل «الظهور» (التوبة،8) |
العلاقة بأولي الأمر المعصومين | – ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيهِم مَسجِدًا﴾ [بُنْيانًا على صراطهم](الكهف، 21) | – ﴿ابْنُوا لَهُ [إبراهيم] بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ (الصافات، 97)
– لا يُراعون «الإلّ» المحمّدي/ العلوي (التوبة، 8 و10) |
القواعد | – ﴿صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ (الصف،4) | – ﴿اتَّخَذوا مَسجِدًا (…) تَفريقًا بَينَ المُؤمِنينَ﴾ (التوبة، 107) |
سيرورة القلوب (البنيان النفسي) | – ﴿فيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أَن يَتَطَهَّروا﴾ (التوبة، 108) | – مسجد الكُفر (التوبة، 107)
– الكذب (التوبة، 12، 107) – لا تزال الريبة (التوبة، 110)/ المكر (النحل،26) |
العَقد | البراءة (التوبة، 1) | – التعاهد السري ثم العلني مع الشرك/الضرار (التوبة، 107).
– ﴿ لا يَرقُبوا فيكُم إِلًّا وَلا ذِمَّةً﴾ (التوبة، 8) |
العلاقة بالاستكبار والكنز | – البراءة (التوبة، 1)
– تقطيع قلوب التعاهديين مع الاستكبار والكنز (التوبة، 110). |
إرصادًا لمن حارب الله ورسوله مِنْ قَبْلُ (التوبة) والتعاهد السرّي ثم العلني معهم |
مدى الاستمرار التاريخي | ﴿وَيَأبَى اللَّـهُ إِلّا أَن يُتِمَّ نورَهُ وَلَو كَرِهَ الكافِرونَ﴾ (التوبة، 32) | – ﴿فَخَرَّ عَلَيهِمُ السَّقفُ مِن فَوقِهِم﴾(النحل،26)
– ﴿فَأَتَى اللَّـهُ بُنيانَهُم مِنَ القَواعِدِ﴾ (النحل،26) |
- الخصائص التوقيفية الأوّلية للإيلاف المحمدي:
لقد انتقلت دولة رسول الله، صلى الله عليه وآله، من طور دولة المدينة البسيطة توقيفيًّا[1]، إلى طور الدولة «الإيلافية»[2]، أي دولة إقليمية ذات مركز (المدينة المنورة وصحيفتها[3])، وذات وحدات تتفاوت في مدى انسجامها مع أحكام الإسلام ومع الصحيفة ومدى قبولها للفقه الإسلامي وولاية الفقيه والولاية المشتركة القائمة على فكرة «النقباء» النبوية.
وكان هذا الإيلاف، ضمن مرحلة انتقالية، حتى كانت سورة التوبة مطالبة الوحدات الحِموية الجديدة (مكة، الطّائف، القبائل، اليمن، البحرين، عمان…) بـ«البراءة»، أي الامتناع عن رواسب «البُنيان» الاجتماعي والديني الشِّركي من أجل الوصول إلى «الطهارة»:﴿فيهِ [في البنيان الجديد] رِجالٌ يُحِبّونَ أَن يَتَطَهَّروا﴾ (التوبة،108).
وفي هذا السياق كانت مطالبة سورة التوبة «المؤلَّفَة قلوبهم»(التوبة،60) أي المنخرطين في الإيلاف الإسلامي، والمهاجرين والأنصار أيضا، بـ«البراءة» الانتحالية والملّية و«التعاهدية» والبُنيانية.
يذكّر اللهُ تعالى «المؤلفةَ قلوبهم» بإيلاف سيدنا قريش، قصيّ (قريش) بن كِلاب، عليه السلام، وهو جد رسول الله، صلى الله عليه وآله، الرابع. فقد كانت القبيلة مرة تحت سيطرة عرب الجنوب، ومرة تحت سيطرة عرب الشمال، حتى كانت تحت سيطرة خزاعة. وكان قصي عبقريا، فتودَّد إلى سيد خزاعة، ثم صاهره فتزوج بنته. ولما مات، رأى أنه أولى بالكعبة وبأمْر مكة، وبحكمته أخرج خزاعة المحتلة لمكة. فكان أوّل بني كعب بن لؤي مُلْكًا، أطاع له قومه، فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة، فحاز شرف مكة كلها، وكانت له دُويلة، «وعَسر على من دخل مكة من قريش، وبنى الكعبة، ورتب قريشا على منازلها من النسب بمكة»[4]، فهو الذي قَرَّشَ بني كعب أي جَمّعهم فسمّي «قريش»، ولذلك كان البنيان الاجتماعي المكي باسمه. فهي ليست قبيلة قريش، وإنما قبيلة النضر، في الحقيقة، وإنما لتأسيبسيّته البنيانية أعيدت تسمية القبيلة باسمه التأسيسي – التقريشي. وأوفد الرسل إلى الممالك بأطراف الجزيرة والقبائل، حتى أن الإيلاف القريشي يعتبر، توقيفيّا، جمّاعا لعدة وحدات سياسية ومصارف تجارية، ولكنه حمويا لا يشمل سوى مكة. وكان مركز إيلافه «دار الندوة»، فعلّم المكيين من السياسة ودعا إلى الإيمان، مما مهَّد لنحلة رسول الله، صلى الله عليه وآله، السياسة، فهذا العبقري من ذاك.
يذكّرهم الله تعالى بإيلاف قصي، عليه السلام، بإيلاف ذلك القُريْش (=المُجَمّع، الموحِّد) الذي جعلهم بأمنون في ذلك الزمان من الخوف من القبائل والممالك الأخرى، فدعاهم إلى عبادة ﴿رَبَّ هَـذَا الْبَيْتِ﴾ (قريش،3). فبسبب الشعور الوحدوي الذي زرعه قصي(ع)، الجَمَّاع للوحدات، الموحّد للشعب المَكّيّ، كان الأمن من الخوف وبسبب طاعة المكيين لحكمته المعاشية العَدْلية وسَوْقه التجاري باتجاه اليمن والشام ﴿رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾ كان الأمن من الخوف (قريش، 2 و4)، دون «ربًا» يمقته الرحمان، ودون كَنْزٍ يخرّب القواعد الاجتماعية ومسبّب للفقر. لذلك ينبغي أن يواصلوا اليوم في شكر الله على الإيلاف الجديد، إيلاف النبي، الأعظم من إيلاف قصي، عليه السلام، فهو حِمويّا أوسع، ومنفتح على كل العالم، وهو جوهريا متأسس على النبوة التي كان يفتقر إليها قصي، ذلك الولي الحكيم الفقيه المحمود بمدينته وعصره.
﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـذَا الْبَيْتِ﴾، أي ليطيعوا تربيته القرآنية-المحمدية حتى يكون الله تعالى ربًّا لهم، لا «التربية» و«الشرك» و«النفاق» و«شياطين الإنس والجن»، من العرب والروم وغيرهم. فلقد أعزّ الله قريشا، إذ أعاد تعظيم الكعبة التي في حِماهم، لتُحيي إليه مرة أخرى، بل من كل العالم لا من الجزيرة العربية فقط، وجعل القبلة إليها لا إلى بيت المقدس. وأعزّها أكثر، إذ جعل الرسول العالمي منها. وأعزّها أكثر، إذ جعل هذا الرسول العالمي لا يموت إذ يموت، لأنه أبو الكوثر، أبو الخير الكثير الذي لا ينتهي، فجعل الله تعالى من بيت الحجارة المقدسة وَليدًا هو علي بن أبي طالب (ع)، تزوّج الكوثر البشرية المحمدية، فاطمة عليها السلام، فكان منهما ميلاد ﴿هَـذَا الْبَيْتِ﴾ (قريش،3)، عِلاوة على «ذلك البيت» الذي أعاد بناءه قصيّ[5]. فالكعبة «بيت عتيق» (الحج، 29)، فهو ﴿أَوَّلبَيْتِ﴾ (آل عمران، 96)، فهو «ذلك» شارة للبعيد. فهو بيت عتيق، أي قديم جدًّا؛ أمَّا بيت محمد صلى الله عليه وآله، فهو بيت «الهذا»، ﴿هَـذَا الْبَيْتِ﴾،بإشارة القريب، أي البيت القريب، الجديد، المتجدد، الوَلود، وليد ذلك البيت، وينبغي أن تطوف «بهذا»، لكي «نستطيع» أن نطوف «بذلك»، والاستطاعة هنا بالمعنى الفقهي-التوقيعي، وبالمعنى الباطني – القلبي – الرمزي معًا، فهذه الاستطاعة لا تكون إلا بتلك.
يقول الرسول صلى الله عليه وآله: «اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرًا» (رواه الترمذي، ج5، ص31، الحديث 3258). فقد استعمل (ص) إشارة القريب: «هؤلاء»، ومفردها «هذا». وقال تعالى: ﴿لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ (الأحزاب، 33)، دون استعمال وسيط لفظي مثل «يا»، بل كان النداء مباشرًا: ﴿أَهْلُ الْبَيْتِ﴾.
وعبادة الله تعالى هي طاعته، لا تكون إلا بطاعة الرسول وأهل البيت عليهم السلام: ﴿أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ (النساء، 59)، فبذلك تتحقق ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـذَا الْبَيْتِ﴾ (قريش، 3)، ويكون النجاح في رحلة الدنيا والآخرة، فنتجنب شتاء الطوفان في الدنيا، فنكون من ﴿الَّذينَ ظَلَموا إِنَّهُم مُغرَقونَ﴾ (هود، 37). وقد ذكّرت سورة التوبة بمصير قوم نوح الشتائي: ﴿أَلَم يَأتِهِم نَبَأُ الَّذينَ مِن قَبلِهِم قَومِ نوحٍ﴾ (التوبة، 70)، ونتجنب كذلك صيف جهنم في رحلة الآخرة: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ (العنكبوت، 54).
فأطروحة إيلافِ قُصَي (ع) تطورت إلى إيلاف محمد (ص) ﴿إِيلاَفِهِمْ﴾، لأنه ﴿مِن أَنفُسِكُم﴾ (التوبة، 128). أي إيلافًا «بريئًا» من الشِّرك المعتدي والمشركين «الاعتدائيين» والتعاهدات النفاقية السرية، ثم المعلنة، حتى ننجح في رحلة الانتقال إلى دولة «الصالحين»/«المتقين»/«الوارثين» بأسرع الوسائل، حتى تُمْلأ كل الأرض عدلا، كما ملئت جورًا، وذلك بعبادة ربّ البيت الإنساني وربّ ذلك البيت الإبراهيمي العتيق (=آل محمد «الإِلّ»). فالبراءة من الشرك والنفاق، بُنيانًا اجتماعيا وبُنيانًا قلبيا، هي شرط نجاح هذا الإيلاف المحمدي الكريم، بطاعة الله ورسوله وأهل بيته، عليهم السلام. وبذلك نأمن شرّ كل «أبْرَهة» وكل «أصحاب فيل»، فجعل ﴿كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ﴾ ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ [إبراهيم] بُنْيَانًا [غير البنيان الإسلامي البريء] فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾ (الصافات، 98).
فبذلك يسهّل الله تعالى للمسلمين أن يصبحوا ﴿طَيْرًا أَبَابِيلَ﴾ (الفيل، 3)، فيقاتلُ اللهُ تعالى الفيلِيّين بأيديهم فتصبح الطواغيت في العالم ﴿كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ﴾ (الفيل، 5)، أي إنهم يُمحون من الأرض ومن التاريخ البشري، فأصبحوا كالتّبْن المهشم، كأنهم لم يكونوا بشرا، ليأكل حِمَتهُم وما فيه من إمكانيات ورثاء صالحون: ﴿إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ(29)﴾ (الدخان).
فمثلما ورثتْ مكةُ إيلاف قريش حُليَّ أصحابِ الفيل الحبشي، ووظّفته ليدخل إيلافها مرحلة القوة، كذلك سيرث إيلاف محمد، كل الدولة الساسانية وجزءً من دولة الروم، ثم بقيادة الإمام المهدي (ع) كل العَصْف الرومي وكل العالم الذي هيمن عليه الروم من غربه إلى شرقه. فمثلما: ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ، لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ﴾ (نهاية سورة الفيل وبداية سورة قريش، فهما كيان سُوَري واحد)، كذلك ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ (الفتح، 28). أي على العالم كله.
فعبد المطلب (ع) الذي ذكر رسول الله (ص) أنه سَنَّ خمس سنن أقرّها القرآن الكريم، و«يُبْعَثُ أمّةً وحده، عليه بهاء الملوك وسيماء[6] الأنبياء». قاد دُعاؤه[7] الإيلاف القرشيالجديد. وقد كان وزيره عبد الله، ابنه، وزيره في ذلك الحصار العصيب.هوصورةمصغرةليدمدمِ،صلى الله عليه وآله، سيدنا المهدي عليه السلام، في إيلاف العالم، كله، كافّةً، ذي البراءة التامة، والمطلقة، والناجزة، والنهائية المتكاملة، من كل رواسب الجاهلية والشرك والطاغوت والاستكبار والظلم والكنز والفسق.
فالكيان السُّوَرِي «الفيل-قريش» هو ملخَّص كثيف، عظيم، بليغ، لسورة التوبة[8]. وسورة التوبة هي ملخّص الإسلام مطوَّلاً.
لا يكون البنيان الاجتماعي الإسلامي إلاّ دون خوف، ودون جوع. فليس فيه فقر ولا فقراء. وجُلّ نقمة الكُبراء الجزيريين والمتماهين بهم من المسلمين الذين سيعاهدونهم سرًّا ثم علنا، هو رفضهم لعدليته وقسطيته ووجود التسوية (الاستواء) فيه وخلّوه من الفقر والفقراء: كذلك ﴿وَلَقَد قالوا كَلِمَةَ الكُفرِ وَكَفَروا بَعدَ إِسلامِهِم وَهَمّوا بِما لَم يَنالوا. وَما نَقَموا إِلّا أَن أَغناهُمُ اللَّـهُ وَرَسولُهُ مِن فَضلِهِ﴾ (التوبة، 74). كما نقموا من اتجاهه نحو التسوية بين الألوان في الجزيرة والعالم ونحوه نحو القضاء النهائي على الاستعباد: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾، وأقرّ في قانونه «المكاتبة»(محمد، 04)، بل جعل من مصارف الدولة مصرفا ﴿فِي الرِّقابِ﴾ (التوبة، 60)، وأن فيه بُنيانًا إدماجيّا للضعفاء بدنيا وعُمُريا بل دعاهم للمشاركة الاجتماعية والمعاشية والسياسية، فمنع عنهم ﴿الحَرَج﴾ أي «الأغلال» النفسية والاجتماعية والقانونية والعرفية-الجاهلية: ﴿لَيسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى المَرضى وَلا عَلَى الَّذينَ لا يَجِدونَ ما يُنفِقونَ [ليس له ما فوق الحاجة ليساهموا في نفقات الدولة والمجتمع] حَرَجٌ إِذا نَصَحوا لِلَّـهِ وَرَسولِهِ﴾ (التوبة، 91).
وقد حذرت سورة التوبة من مغبة «الربا» و«البَخْس»[9] و«الكنز»، فذكّرتهم: ﴿أَلَم يَأتِهِم نَبَأُ الَّذينَ مِن قَبلِهِم (…)وَأَصحابِ مَديَنَ﴾ (التوبة، 70)، الذين أنذرهم شعيبُ (ع): ﴿وَلا تَبخَسُوا النّاسَ أَشياءَهُم﴾(هود، 85). فقد كان قومه يتصوّرون أنّ «الإرادة» (وهي «الحرية» بتعبير آخر) تعني أن لا يقف شيء أمام معاملاتنا المعاشية، حتى وإنْ تسبّب ذلك في «البَخْس»: ﴿وَإِلى مَديَنَ أَخاهُم شُعَيبًا قالَ يا قَومِ اعبُدُوا اللَّـهَ [﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـذَا الْبَيْتِ﴾]، ما لَكُم مِن إِلـهٍ غَيرُهُ وَلا تَنقُصُوا المِكيالَ وَالميزانَ﴾[لا تنقصوا القيمة النقدية-التعاملية ولا ﴿الميزانَ﴾ الاجتماعي في مَدْين]، ﴿إِنِّيأَرَاكُمبِخَيْر﴾ [أي إذا «كان سعرهم رخيصًا» كما يفسر الإمام الصادق عليه السلام[10]]. وَإِنّي أَخافُ عَلَيكُم عَذابَ يَومٍ مُحيطٍ (84) وَيا قَومِ أَوفُوا المِكيالَ وَالميزانَ بِالقِسطِ وَلا تَبخَسُوا النّاسَ أَشياءَهُم وَلا تَعثَوا فِي الأَرضِ مُفسِدينَ(85) بَقِيَّتُ اللَّـهِ [شعيب وأهل بيته عليهم السلام] خَيرٌ لَكُم [في قيادة اجتماعكم السياسي والقانوني والمَعَاشي] إِن كُنتُم مُؤمِنينَ. وَما أَنا عَلَيكُم بِحَفيظٍ [فلا إكراه] (86) قالوا يا شُعَيبُ أَصَلاتُكَ تَأمُرُكَ أَن نَترُكَ ما يَعبُدُ آباؤُنا أَو أَن نَفعَلَ في أَموالِنا ما نَشاءُ[الليبرالية المطلقة. وذلك هو منطق معاوية مع أبي ذر في جدلهما حول الكَنْز الأموي بالشام] (…) (87)﴾ (سورة هود).
فقد كان شعيب، مثل رسول الله (ص) والإمام علي (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) وأبي ذر، رضوان الله عليه، ﴿عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّي﴾، يؤكد ضرورة البنيان المعاشي العَدْلي ﴿وَرَزَقَني مِنهُ رِزقًا حَسَنًا (…)إِن أُريدُ إِلَّا الإِصلاحَ مَا استَطَعتُ﴾ (هود، 88).
لم تكن عملية «تَقْريش» رسول الله، صلى الله عليه وآله، لإيلافه، عملية سَهْلة تاريخيا، إذ كان الاجتماع العربي-الجزيري اجتماعًا انقساميا، اجتماع الثأر والثأر للثأر، اجتماع السّبي للنساء حتى وإن لم يكنّ محاربات: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا. وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ [أخلاقيا وسياسيا ومعاشيا وانتحاليّا ودينيا، وعلى المستوى العالمي] فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾ (آل عمران، 103).
كانت حكمة النبي الأعظم، التاريخية، قادرة على تذليل الصعوبات التي أمام دولة إيلافية تُقرِّش وَحداتٍ مؤلَّفَةِ قلوب سُكانها حول مركز المدينة المنوّرة وصحيفتها: ﴿حَسبَكَ اللَّـهُ (…)وَأَلَّفَ بَينَ قُلوبِهِم. لَو أَنفَقتَ ما فِي الأَرضِ جَميعًا ما أَلَّفتَ بَينَ قُلوبِهِم، وَلـكِنَّ اللَّـهَ أَلَّفَ بَينَهُم. إِنَّهُ عَزيزٌ حَكيمٌ [ومنه كانت حكمة الرسول]﴾ (الأنفال، 62-63). وأحد تلك القلوب «المؤلّفة»، قلب أبي سفيان بن حرب، العدوّ اللّدود للبنيان الإسلامي-البرّائي، قبل فتح مكة المكرّمة وبعدها، ومعه أهل مكة، يعترفون بتلك الحكمة لما سألهم النبي «الرؤوف»، «الرحيم» (التوبة، 128): «ما تظنونني فاعل بكم؟»، قالوا: «أخ كريم، وابن أخٍ كريم»، قاصدين سيدنا عبد الله، وزير عبد المطلب، عليهما السلام. وإذا كان رسول الله، صلى الله عليه وآله، منع على أبي سفيان والوحدات المؤلّفة الكَنْزَ والربا، من أجل البراءة وتراصّ البنيان الاجتماعي حتى لا يتَخبّط بالشّياطين «مَسًّا»، بل يكون على «الميزان» (وتَخَبُّطُ «المسِّ» هو نقيض «الميزان»)، فإنه عوَّض لهم مرحليا، بسهم من سِهام الصدقات، وهو سَهم ﴿المُؤَلَّفَةِ قُلوبُهُم﴾ (التوبة، 60)، أي السهم التعويضي – المعنويُّ المخَصًّصُ لمن كانوا كانزين ومرابين وباخسين بالحِمى الذي عليه دولة الإيلاف المحمدي[11]. ولكنَّ جلهم لم يرضوا برحمة سيد ذلك الإيلاف فتربصوا ببُنيانه الاجتماعي.
- الخصائص التوقيفية العامّة لبُنيان الإيلاف المحمدي:
هذا «البُنيان» هو «مَسْجِدُ»، أي بُنيان قائم على الدين (التوبة، 107، 108)، تمامًا كالبُنيان الاجتماعي الذي يقترحه الذين يُريدون «خَلاقًا» [=نَصِيبًا] من مِلّة البنيان الاجتماعي الجاهلي، إذ يريدون «الاستمتاع» بخَلاف ﴿كَمَا استَمتَعَ الَّذينَ مِن قَبلِكُم﴾ (التوبة، 69). ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَأُولـئِكَ هُمُ الظّالِمونَ﴾ (التوبة، 23).
ولكنّ «مسجِد» هؤلاء المتولين لـ«الكانزين» السابقين[12]، فتأسيس «المسجد الضِّرار» (المُضَادِّ للمسجد الحقيقي) كان مبعثه ﴿ريبَةً في قُلوبِهِم﴾ (التوبة، 110)، ﴿وَارتابَت قُلوبُهُم فَهُم في رَيبِهِم يَتَرَدَّدونَ﴾ (التوبة، 45)، فلا يخافون من مغبة حَمْل «نار» رسول الله، ووصيه، وهما قسيما الجنة والنار: ﴿ريبَةً في قُلوبِهِم﴾ (آل عمران، 34). إنما «المَسْجِدُ» هو مؤسسة إنتاج «الإمّة» الدينية، و«المَسْجِدُ الضّرار» هو المؤسسة الموازية/المحادَّة لمؤسسة الحق الرحمانية/المحمدية.
وهذا الارتياب في رسول الله، صلى الله عليه وآله، جعلهم يعتبرون أنه «مَيّت» بُنيانيّا، وأن الالتزام بصحيفته وطاعة أحكامه «عبادة له». وأصبحت سُنتهم، شرطا من شروطنا تسلم الأمر، إلى جانب سنة النبي، بل على حساب سنة النبي وملغية لها في الحقيقة، وفي أكثر الحالات؛ والأمثلة عديدة فـ«المسجد الضرار» الضرار لم يكن في عهد النبي، وإنما كان بعده. أمّا «المسجد الحقيقي»، فهو على تأسيس التقوى من جانب أهله، والرضوان من جانب الله تعالى: ﴿لَمَسجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقوى مِن أَوَّلِ يَومٍ أَحَقُّ أَن تَقومَ فيهِ فيهِ﴾ (التوبة، 108)، وأهله ناسٌ على مَسعى «التطهّر»، أي «الجهاد الأكبر» ورياضة النفس التي تجلب السعادة و«الميزان القلبي» ومرونة «الطبع» و«الأخوة» مع الآخرين: ﴿فيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أَن يَتَطَهَّروا ﴾ [في هذا المسجد] وَاللَّـهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرينَ﴾ (التوبة، 108).
و«التطهّر»، مشروط بأن نكون «على خَيْر»[13]، أي إلى جانب «الكِسَاء» الطاهر، وإلى جانب أهل البيت الطاهرين، أهل الكِسَاء الطاهر، المدّثرين، المزَّمِّلين، المطهّرين تطهيرًا، عليهم السلام، مثل أم سلمة، عليها السلام[14]، حتى نأخذ الطهارة من الطهارة نفسها، لا من التنظيرات «الكاذبة» والخيالية عنها، أو المبتورة، فمن المطلق يكون الجزئي، بل يصيح الجزئي منه، بتماهيه في كون المطلق، ﴿فَأُولَـٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِم: مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقًا﴾ (النساء، 69).
والذين يغلبون على طريق التمهيد لدولة المهدي و«الصالحين»، (سورة الأنبياء، الآية75)، دائما يجعلون بُنيانهم «على أمْر» أهل البيت، عليهم السلام، أي على ولايتهم التشريعية والقلبية تأسيسيا وعلى مسارهم التمهيدي، فإذا «ظهروا» سلموا الولاية السياسية العليا إليهم ليكتمل إيمانهم وبنيانهم ضمن إيلافهم العالمي: ﴿عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾. قال الله تعالى: ﴿قالَ الَّذينَ غَلَبوا عَلى أَمرِهِم لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيهِم مَسجِدًا﴾ (الكهف، 21)، أي لتبْيين بنيانها على مِثلهم. فبُنيان الممهّدين هو مِن بُنيان أهل البيت عليهم السلام ومهديهم، عليه السلام، حقوقيا وصَحِيفيًّا (=دستوريّا) وقلبيا (=نفسيا)، فقد «أَعْثَرُوا» على أهل البيت (ع)، أي اكتشفوهم ودرسوا فكرهم الديني والسياسي والمعاشي والحقوقي والعرفاني متأكدين أن الله سيحميهم من الحصار الاستكباري-الرومي العالمي ومعهم «عاد» و«ثمود» و«المؤتفِكات» و«قوم إبراهيم» و«أصحاب مَدْيَن» (الطواغيت العربية بالعصر الحديث) كما تنبأت سورة التوبة (الآية 70) رغم تنازع الجميع-الكُفري على توجيه «أمْرهم» (=سلوكهم السياسي): ﴿وَكَذلِكَ أَعثَرنا عَلَيهِم[أعَدْنا اكتشاف أهل البيت (ع)]، لِيَعلَموا أَنَّ وَعدَ اللَّـهِ حَقٌّ [وعد الانتصار المهدوي-الصالحي الإلهي بظهور الإسلام على الدين كله] وَأَنَّ السّاعَةَ لا رَيبَ فيها، إِذ يَتَنازَعونَ [أئمةُ الكُفْرِ وبُنيانُهُمْ الرومي-اليهودي-العالمي] بَينَهُم أَمرَهُم [ولا يريدون السماح لهم بحقهم]، فَقالُوا [الأولياء الفقهاء العدول والمجاهدون]:﴿ابنوا عَلَيهِم بُنيانًا [ابنوا على قاعدة فكر أهل البيت الإنساني العبقري وعرفانهم بالله تعالى]. رَبُّهُم أَعلَمُ[15]بِهِم[فنحن غير معصومين، ولكنّ إعثارنا على أهل البيت، تكاملي، يتقدم باستمرار حتى يرحمنا الله بظهورهم] . قالَ الَّذينَ غَلَبوا عَلى أَمرِهِم[كانوا على نهجهم السياسي بمشروعية شعبية]: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيهِم مَسجِدًا﴾ (الكهف، 21).
يتميّز البُنيان الاجتماعي الإسلامي بأنه كان ﴿صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ (الصف، 4)، لأنه قائم على ﴿المِيزَان﴾: ﴿وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد، 25). و«الميزان» هو مَوَازين القسط.
أما البُنيان الشِّرْكي (=«المسجد» المغلَّف بالإسلام وما هو مِنه مثلا) بأنه ﴿يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ (البقرة، 275)، لأنه متأسس على الارتياب والرّبا. ويكون دائما ﴿إِرصادًا لِمَن حارَبَ اللَّـهَ وَرَسولَهُ مِن قَبلُ﴾ (التوبة، 107)، أي قَبْل فتح مكة وتأسيس الإيلاف المحمدي. فالمسجد الضرار (المسجد السقيفي) كان بُنيانًا يريد إلقاء أهل البيت في «الجحيم المَغَارٍيّ» ومعهم المجاهدون في سبيل الله. وقد قالت «أئمة كفر» بابل (العراق) الجاهلية مِن قَبْل عن إبراهيم: ﴿ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ (الصافات، 97). فهم إذا ظهروا، تتوقع سورة التوبة اضطهادَهم «الإلَّ» المحمديَّ (آل الرسول (ص)) و«ذِمّة» المسلمين المجاهدين الذين يرتبطون معهم بذمة الإسلام: ﴿كَيفَ [لا تبرؤون منهم] وَإِن يَظهَروا عَلَيكُم لا يَرقُبوا فيكُم إِلًّا وَلا ذِمَّةً(…) وَأَكثَرُهُم فاسِقونَ [منحرفون على الصراط المحمدي]﴾ (التوبة، 8)؛ ﴿لا يَرقُبونَ في مُؤمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولـئِكَ هُمُ المُعتَدونَ﴾ (التوبة، 10). والتكرار يفيد التأكيد والخطورة القصوى.
إن البنيان المحمدي الشريف، وُجد ليبقى، لأنه من الله تعالى، «الباقي» الحقيقي، حتى وإن أُلْقِي في الجحيم المَغارِيِّ-الأمويِّ-العباسيِّ-الأيوبي-العثماني-«النّهضوي» (المتغرب = «المتروّم») ظاهريا، حتى يظهره الله تعالى على الدين كله. ولكن أهل البيت (ع) والمجاهدين، رضوان الله عليهم، ينبغي أن يسعوا إلى التمهيد لعصر الظهور، بتأسيس البنيان السياسي القائم على قواعد أطروحة البنيان الإيلافي المحمدي-المهدي؛ أو على الأقل بالحضور الممكن في «الأمور الجامعة»[16] (الممارسات الانتحالية والمعاشية والنَّظْميّة والإعثارية على أمر أهل البيت (ع))؛ أو تقطيع المسار «التعاهدي» مع المشركين والمستكبرين والروم، بالجَوْسِ خلال بُنيانات الطواغيت وبلاطاتهم وأَحْمِيَتِهم[17]، فالبُنيان «المَغَارِيُّ» سقط، وانهار سقفه وقواعده، في «شهره الرابع»، ولكنه استمرّ في «القلوب»، فهو سِحْرٌ مستمر بأساليب ومدارس متخبطة بالمسّ الشيطاني (متناقضة): ﴿لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الذِي بَنوا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾، فالبُنيان «المَغَارِيُّ» لم يعد بُنيانا تاريخيا-سياسيا ولا اجتماعيا ولا مَعَاشِيا ولا انتحاليا، ولكنه بقي بُنيانا نفسيا مرتكزًا على قاعدة «الارتياب» في عصمة الرسول وأهل البيت وعصمة الأشهر المطهَّرِين الأربعة، بمن فيهم معاوية بن أبي سفيان، إذ قال له الشهر الثاني: بعد أنْ أقنعه بمظاهره القيصرية: «لا آمرك ولا أنهاك»، عكس ما فعله مع كل ولاته، ثم مَدَح سياسة أجداده: «لحُسْن مَوَارده ومَصَادره جشمناه ما جشمناه»[18].
إنهم يسمحون لأنفسهم بالقدح في بعض تاريخ الرسول، ولكن لا يجوز القدح في كل تاريخ «الأشهر» الفِسقيين/المَغاريّين، ويمكن بناء عمارة مسجدية على قبورهم وعلى قبر ابن تيمية، والصلاة عليها، ولكنّهم لا يجوّزون بناء مقامات على قبور أهل لبيت عليهم السلام، والصلاة فيها. ويجوّزون إلقاء قبور أهل البيت في جحيمهم، وحرثها وتفجيرها، ولكنهم لا يجوّزون تفجير قبر معاوية وقبر ابن تيمية.
ولذلك على المجاهدين أن يسعوا إلى «تقطيع القلوب» التي صنعوها، بالسعي في إيجاد قلوب جديدة (مناخات نفسية وانتحالية وفكرية ومِلية وتدبيرية ونَظْمية، إسلامية): ﴿لا يَزالُ بُنيانُهُمُ الَّذي بَنَوا ريبَةً في قُلوبِهِم إِلّا أَن تَقَطَّعَ قُلوبُهُم، وَاللَّـهُ عَليمٌ حَكيمٌ﴾ (التوبة، 110). وعملية «التقطيع» تتطلب حسب الآية علما وحكمة، وصَبْرا، أي تمثلا لتلك الصفات التي يحبها الله تعالى. فهو «تقطيع»، وليس عُنفا، قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: «إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق»«إن الرفق ما دخل شيئا إلا زانه». فهو، صلى الله عليه وآله، حسب سورة التوبة: ﴿رَءوفٌ رَحيمٌ﴾ (التوبة، 128)، وكان يدعو في كل عنف اضطهادي عليه: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون!»، حتى طلب منه تعالى التخفيف على نفسه، لأنهم لا يحبون المغفرة: ﴿استَغفِر لَهُم أَو لا تَستَغفِر لَهُم. إِن تَستَغفِر لَهُم سَبعينَ مَرَّةً فَلَن يَغفِرَ اللَّـهُ لَهُم [لأنهم لا يريدون المغفرة]. ذلِكَ بِأَنَّهُم كَفَروا بِاللَّـهِ وَرَسولِهِ [فقد قطعوا بأيديهم طريق المغفرة]﴾ (التوبة، 80). ورغم أنه يعرف، صلى الله عليه وآله، أنهم لن يقبلوا أن يكونوا من المستغفِرين، واصل حتى وفاته يستغفر لهم، لأنه لم يكن ﴿إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء، 107)، للناس جميعا، لمؤمنهم وكافرهم، لمن أحبه ولمن حاول قتله. فقد كانت كل حكمة خلق الله تعالى للنوع الإنساني، متجسدة فيه.
[1] دولة بسيطة توقيفيّا: Etat simple formellement.
[2]«الصحيفة» هي دستور دولة المدينة المنورة.
[3] الإيلاف: Fédération / Confédération.
[4] المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج2، ص58. والعسكري (مرتضى)، عقائد الإسلام من القرآن الكريم، المُجَمَّع العالمي لأهل البيت، قم، 1996، ص2017 وص235.
[5] كلمة «بَيْت» لها مَعْنيان: «الأسرة» و«المنزل».
[6] الطّريحي، م. س، المجلد 6، ص13.
[7] دعا عبد المطلب: «إن تعفُ فإنهم عيالك، يا رب إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك. لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبدا محالك».، فأرسل عليهم الطير الأبابيل [العسكري (مرتضى)، م. س، ص220].
[8] راجع: «تدبر في الكيان السُّوَري: الفيل والقريش (ع)».
[9]«البَخْسُ»: هو لدى «العقل» الترجمي العربي التابع منذ عصر النهضة: «فائض القيمة»، في ترجمة ركيكة حرفية لـ«Plus Value»!!
[10] رواهُ الصدوق، رضوان الله عليه.
[11] وهو سهم فيه عِلْمٌ نَفْسِيٌّ وحكمة تاريخية: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلفُقَراءِ وَالمَساكينِ وَالعامِلينَ عَلَيها وَالمُؤَلَّفَةِ قُلوبُهُم(…)وَاللَّـهُ عَليمٌ حَكيمٌ﴾(التوبة،60).
[12] لقد حذف «الشهرُ»/«المَغَارِيّ» الثاني سَهْمَ «المؤلفة قلوبهم» لأن بُنيانه المعاشي سمح له برجوع «الكنز»، فبدأت مراكماته الأولى بمَعَاش المسلمين. ومِن ناحية أخرى، جعل معاوية فوق المحاسبة، بعد أن جعله واليًا (بينما كان عليه أن يجعل أبا ذر واليا على سوريا)، وذلك ما يفرض عليه أن يخرج بني أمية من «المؤلفة قلوبهم» إذ أصبحوا حكّاما لمن كانوا يضطهِدونهم في مكّة وخارجها…
[13] انظر حديث الكساء الذي روته، أم المؤمنين هند أم سلمة.
[14] انظر حديث الكساء الذي روته، أم المؤمنين هند أم سلمة.
[15]«يا علي لا يعرفك إلا الله وأنا، ولا يعرفني إلا الله وأنت» (حديث نبوي). ولكنّ «الرِّفْقَةَ» (سورة النساء، الآية 69)تساعدنا على الإعثار عليهم، حسب وعد الآية 21 من سورة الكهف.
[16] جاء في سورة النور: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾(الآية 62).
[17] … ولذلك كانت تحمية سيدتنا زينب عليها السلام لفضاء في ضواحي دمشق الأموية، حتى لا تكون تحمية الأمويين للشام كاملة، ويصل «تعاهدهم» مع الروم إلى مدى خطير جدّا.
[18] رواه ابن أبي الدنيا، وجاء في مختصر تاريخ دمشق.