د. نعمان المغربي (باحث في علوم الأديان المقارنة، تونس)
منهج التدبر:
سنحاول هنا استنطاق السورة والآية مستأنسين بآيات من السورة نفسها وأحيانا من سور أخرى وقولنا سيكون مستندا في كثير من الحالات إلى تدبر النبي وآل بيته أهل الذكر وإلى القاموس اللغوي وإلى متعمقة عدة.
وقولنا ليس “على نحو الجزم وليس أنه هو المراد لا غير إذ أن مثل ذلك هو من التفسير بالرأي” المنهي عنه.
فما نقدمه هو “ما يصله نظرنا فنقوله على نحو الإحتمال” فقولنا إنما يراعي شروط اللغة العربية وعلوم القرآن وعلوم الحديث إلى حد بعيد.
والمنهج الإحتمالي هو تجسيد عملي “لمقتضيات تعدد البطون القرآنية “إضافة إلى الظواهر القرآنية وله مبرراته الشرعية وأثر ايجابي في الإعانة على فهم البطون الأخرى للظواهر القرانية إذ أن للجزم في طرح تفسير ما آثارا سلبية في تجميد الذهن عليه وإغلاق أبواب التدبر ولو لا شعوريا كما أن هذه الميزة تجعل لهذا المنهج تحقيقا علميا بعيدا عن تحميل الآراء على المنطوق القرآني.
وسنحاول هنا أن لا نغفل الجانب العقيدي ولا الأخلاقي ولا الفردي ولا الإجتماعي ولا التاريخي ولا التزامني ولا القيادي ولا المجموعي في رؤيتنا.
ولن نبلغ هنا مقدار صاحب المنهج الإحتمالي (روح الله الموسوي) ولكن لعلنا نكون من الذين إذا أحبوا قوما كانوا منهم.
وسنتعامل مع أي سورة يقيض الله لنا إمكانية التدبر فيها على أنها كل يدور حول محور رئيس.
تدبّر طالب التيسير في فضاء القرآن الكريم
تدبر في سورة الفاتحة: ملخص القرآن الكريم والإسلام العظيم
فضل فاتحة الكتاب:
تسمى هذه السورة أم القرآن لاحتوائها على مجامع المعاني التي في القرآن[1] الكريم. فهي ملخص مطالب الله الرحمن الرحيم من الإنسان. وهي تسمى سورة الكنز لأنها خفيفة اللفظ ولكنها ثمينة النتائج لمن سعى في امتثالها.. وهي الوافية لأنها تفي بالمعرفة الضرورية للإنسان وتفي بحسن عاقبته وبطيب حياته وهي سورة الحمد والمثاني لأنها تثنى في كل صلاة، أو لأنها نزلت مرتين[2] فهي مفتتح كل خير. فينبغي أن تفتتح القرآن المكي كما ينبغي أن تفتتح القرآن المدني، فهي ملخصه. وتسمى أيضا الشافية لأنها إذا امتُثِلت شفت الإنسانية من كل أدوائها.
لماذا القرآن الكريم؟ ولماذا الفاتحة؟
القرآن الكريم أي القرآن المعطاء:﴿وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحظورًا﴾(سورة الإسراء، 20).
وقد كان إنزاله وتنزيله على أشرف خلق الله تعالى، صلى الله عليه وآله، بداية، وعلى المستمعين إليه، ثانيا، يقصد «هداية الخلق وإرشادهم وتكميلهم بسياقتهم إلى الله تعالى ودار كرامته، على أتم وجه وأشرفه»[3] .
ونسبة سورة الحمد إلى القرآن الكريم «كنسبة الإنسان وهو العالم الصغير إلى العالم. وهو الإنسان الكبير وكما أن الإنسان الكامل كتاب وجيز ونسخة منتخبة».
«يوجد فيه كل ما في الكتاب الكبير الجامع، الذي لا رطب ولا يابس إلا ويوجد فيه، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها (…) فكذلك فاتحة الكتاب، مع قصرها ووجازتها توجد فيها مجامع مقاصد القرآن الكريم، وأسرارها وأنواعها، وليس لغيرها من سائر السور القرآنية هذه الجامعية كما ليس لواحد من صور أجزاء العالم ما للإنسان من صوره الجمعية الإلهية»1.
فجميع المعارف القرآنية والعلوم الكلية المنتشرة في هذا السفر الكريم موجودة في سورة الكنز إذ فيها أسرار المبدأوالمعاد وعظم سلوك إلى ربه2. فهي «تعادل كل القرآن»3. وبناءا على ذلك كانت مشتملة على غاية الكمال الإنساني.
وجه في نظم السورة الكريمة:
إذا نظر العاقل في وجودات العالمِين نظرة الفهم والتمييز علم فقرها إلى بعضها، وأيقن أنها في سلسلة الحاجة والفقر «منتهية إلى موجود قديم قادر، يفعل الخيرات كلها»4 فالكل ينطق بإسمه أي بعنوانه، مبتدأ ومنتهى والكل يفتقر إلى رحمانيته ورحيميته لكي يكون في الوجودات ومراتبها: (بسم الله الرحمن الرحيم) (سورة الحمد).
ولما كانت معرفة الرحمان الرحيم نعمة حليلة ومعدن السعادات، كانت هداية السورة الكريمة لنا بأن ننطق بكلمة الجمال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(سورة الحمد)، معلنين فقرنا الجميل إلى الله تعالى وسعادتنا بجماله وبوجودنا بين مخلوقاته جميعها، دون استثناء ودون تمييز.
فإذا انتبهنا إلى وجود التظالم، كانت دعوتنا إلى العدل والنصفة والقانون: «مالك يوم الدين» (سورة الحمد). وذلك ما يملؤنا بالأمل في انتصار الحق والعمل من أجله ليلا نهارا.
فإذا كان هذا الامتلاء الإستيقاني الدافع للأعمال الزاكيات، إنتقلنا من هوية الله تعالى إلى أَنْتِيَّتِهِ، أي من العلم به إلى حبه والعبودية الحق له، فقلنا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (سورة الحمد).
ولما نرى اعتراض الأهواء داخل النفس الواحدة وبين أركان الاجتماع، سألناه تعالى الإعانة على الطاعات «بجمع الأسباب لها والوصولات»1 فقلنا بحب وصدق: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (سورة الحمد).
باكتناه مقام الاستعانة نعرف أننا لا نأمن الفترة ولا الصدوق أحيانا نجد منه تعالى شمسا وكواكب منيرة من البشر الهداة المطهرين تطهيرا نعلم بها الصراط الموصل لرضا الله تعالى، فقلنا بفطرتنا وعقلنا ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَصِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾(سورة الحمد) وسألناه صادقين أن يمنحنا إرادة الابتعاد الناجز عن الذين يكونون مهديين فيزرعون فينا لون الغضب الإلهي، وعن الذين يكونون في مرتبة إدراكية دنيا فيضلون: (…) ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ (سورة الحمد).
أزمنة سورة الحمد:
يشتمل القرآن الكريم على هداية الإنسان إلى فلاحه عارضا له مبدأه، وضرورات السعادة في دنيا رأي الوسط ثم ما ينتظره في معاده. ولما كان القرآن الكريم، كان ضروريا أن تكون مُلَخِّصَتُه (سورة الفاتحة) كذلك: «أما اشتمالها على علم المبدأ فقوله تعالى ﴿الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾إشارة إلى العلم بوجود الحق الأول، وأنه مبدأ سلسلة الموجودات، وموجد كل العوالم والمخلوقات. وقوله ﴿الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ﴾إشارة إلى العلم بصفاته الجلالية وأسمائه الحسنى. وقوله ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾هو إثبات كونه سببا غائيا للمخلوقات كلها، كما أنه سبب فاعلي لها جميعا، ليدل على أن فاعليته على غاية الحكمة والتمام، ورعاية المصلحة للأنام وأما اشتمالها على علم الوسط فأن قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾إشارة إلى الأعمال والأحوال التي يجب أن يكون الإنسان عاملا بها ومديما عليها، ما دام كونه في هذه الحياة الدنيا (…) وأما اشتمالها على علم المعاد وهو العلم بأحوال النفس الإنسانية الكاملة في العلم والعمل، المبرأة من آفة الجهل ونقص العصيان، فقوله: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ إشارة إلى علم النفس وهي صراط العزيز الحميد»2.
فبالنفس الإنسانية الكاملة، المنهم عليهابكل الكمالات الإنسانية، يبدأ مساق الخلق الفقير إلى الخالق الكريم وتتغير صورة العالم تماما ويكون عصر الإنسان.
«بسم الله الرحمن الرحيم» هي ملخص الملخص. فالبسملة هي ملخص الفاتحة، أي ملخص الملخص، لأن الفاتحة هي ملخص القرآن الكريم.
يقول سيدي، روح الله، رضوان الله تعالى عليه: «بسملة كل سورة متعلقة بالسورة نفسها. وعليه يكون لبسملة كل سورة غير ما لها للسورة الأخرى»1.
وقد ثبت تحقيقا أن «كل دار التحقق، من الغاية القصوى للعقول المهيمنة القادسة إلى منتهي النهاية لحذاء العالم الهيولي والطبيعة، هو ظهور إسم الله العظم، ومظهر تجلي المشيئة المطلقة، وهي أم الأسماء الفعلية. كما قالوا: “ظهر الوجود بسم الله الرحمن الرحيم فإذا لاحظنا كثرة المظاهر والتعينات، فإن كل إسم هو عبارة عن ظهور ذلك الفعل أو القول الذي يقع بعده»2.
فأول خطوة في السير هي أن يفهم السالك قلبه «أن جميع التعينات ظاهرة باسم الله بل إنها جميعا إسم الله»3إذ أن جميع العالمين «الملائم على ذات الحق تعالى المقدسة»4
الله تعالى والإنسان الحامد:
(الحمد) هو إشارة إلى العوالم الغيبية العقلية وهي صرف الحمد لله ومتحامدة ولسان حمده لسان الذات5 وأما جملة (رب العالمين) إشارة إلى ظهور اسم الله تعالى في مرآة الطبيعة بما يناسب مقام الربوية حيث رجوع النقص إلى الكمال والملك والملكوت6.
إن الموجودات كلها وبتوجهها إلى غاياتها و«إخراج كمالاتها من القوة إلى الفعل، مسبحة، حامدة كما قال تعالى ﴿وَإِن مِن شَيءٍ إِلّا يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ﴾(الإسراء 44). فتسبيحها إياه تنزيه عن الشريك وصفات النقص والعجز باستنادها إليه وحده ودلالتها على وحدانيته وقدرته، وتحميدها إظهار كمالاتها المترتبة ومظهريتها لتلك الصفات الجلالية والجمالية»1.
فيكون الله تعالى هو الحامد والمحمود لأنه هو الميسر والهادي لقول الحمد وفعله كانت له صفة ﴿الرَّحْمَـٰنِ﴾مقدمة على صفة ﴿الرَّحِيمِ﴾لأن التجلي بمقام الرحمانية هو مطلب «سبقت رحمته غضبه» (في الحديث الشريف) أما الرحيمية فهو المقام المتقرّب الله تعالى من لإنسان الحامد المهتدي في الدنيا والآخرة. وأما ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾فهو «تمام دائرة الوجود المذكور في ﴿بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ﴾على نحو الإجمال»2. …
————————————————-
[1] الشيرازي صدر الدين، تفسير القرآن الكريم المجلد 1، دار التعارف بيروت 1995، ص5.
[2]الشيرازي صدر الدين، تفسير القرآن الكريم المجلد 1، دار التعارف بيروت، ص5.
[3] الشيرازي صدر الدين، تفسير القرآن الكريم المجلد 1، دار التعارف بيروت، ص118.
1 الشيرازي صدر الدين، تفسير القرآن الكريم المجلد 1، دار التعارف بيروت، ص219.
2 الشيرازي صدر الدين، تفسير القرآن الكريم المجلد 1، دار التعارف بيروت، ص 219
3 الشيرازي صدر الدين، تفسير القرآن الكريم المجلد 1، دار التعارف بيروت، ص2195.
4 الشيرازي صدر الدين، تفسير القرآن الكريم المجلد 1، دار التعارف بيروت، ص220
1 الشيرازي صدر الدين، تفسير القرآن الكريم المجلد 1، دار التعارف بيروت، ص130
2 الشيرازي صدر الدين، تفسير القرآن الكريم المجلد 1، دار التعارف بيروت، ص233.
1 الموسوي (روح الله)، سر الصلاة أو صلاة العارفين دار التعارف، بيروت، 2001، ص141.
2 الموسوي (روح الله)، سر الصلاة أو صلاة العارفين دار التعارف، بيروت، 2001، ص141.
3 الموسوي (روح الله)، سر الصلاة أو صلاة العارفين دار التعارف، بيروت، 2001، ص141.
4 الموسوي (روح الله)، تفسير آية البسملة دار الهادي، 2000، ص78.
5 الموسوي سر الصلاة م،س،ص 142.
6 الموسوي سر الصلاة م،س،ص 142.
1 ابن عربي، تفسير القرآن الكريم، دار الكتب العلمي، بيروت، 2001 ص 29.
2 الموسوي (روح الله)، م/س،ص 143