تنبيهات أوّلية:
1_ لا يمكن التعمق في هذه التدبرات، دون قراءة «المقدمة المنهجية للتدبرات» (المنشورة بـ”المحور العربي“). 2_ من الضروريّ قراءة الدرس الأول والدرس الثاني من «مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم» للمنظّر الكبير: محمد باقر الصدر، قبل قراءة تطبيقاتنا التّدبّريّة. 3_ لا يمكن للقَسَم القرآني أن يكون إلا بالمقدس( وهو «الإنسان» الكامل)، بل بالأكثر قداسةً(في جنس الإنسان): ﴿ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ؟!﴾(البقرة، 61). فالله تعالى، الكريم، المعطاء، الجواد، لا يمكن أن يُهديَنا قَسَمًا بحجارة أو «غاز» أو تحول فيزيائي… وذلك لا يمنع أن نقبل كثرة الظهورات وكثرة البُطون، فقَدْ ورَد في ذلك حديث نبوي صحيح. |
المحور الرئيس لتدبر سورة الفجر: 1_﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْر؟﴾ (الفجر،5) 2_ ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ؟﴾ (الفجر،6) |
المقولات الرئيسة: ــ مقولة «الطغيان». ــ مقولة «التكريم الآدمي». ــ مقولة «الحِجر». ــ مقولة «التراث». ــ مقولة «دك الأرض» سبيلا لتبديل الأرض «غير الأرض».
|
موضوع السورة الكريمة : تتناول سورة الفجر حضًّا على المعالم الاقتدائية و السَّوْقيّة التي تمثل »حِجْرًا « (عقلا وحكمة يهدفان إلى الهيمنة على الواقع و توجيهه ضمن »الرؤية « الإسلامية ) . إنها سورة تكثف شروط التمهيد لـ»فجر» «التغيير» الجذري للبنيان الاجتماعي الإنساني الذي سيفجر فعلا طاقات البشرية ﴿ تَفْجِيرًا ﴾، ويحررها من ﴿الْأَغْلَالَ ﴾ التي كانت عليها.
|
السور الشقيقات:
سورة البقرة(وهي شقيقة كل السور، وأمها)، سورة الماعون، سورة الهمزة، سورة الحشر…
- القَسَم بما فيه امتثال تدريجي لمنابع القدرة على التغيير:
أقسام سورة الفجر ليست مجرّد تبيان لقدر المُقْسَم بهم ﴿وٱلۡفَجۡرِ والليالي العشر والشفع والوتر والليل إذا يسري)، بل هم ضرورات ينبغي امتثالها ذهنيّاـ نفسيا، امتثالا تدريجيّا، أوّلا: »القسم أن يقع في قلبك الشيء فتظنه ثم يقوى ذلك الظنّ فيصير حقيقة» [1]. ثم أن يصبح هؤلاء المُقسَم بهم، بما هم شروط ومقومات ومضامين تقرب للفجر التغييري:﴿أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ؟!﴾ (سورة هود،81). فالقَسَم هو »القدْر » (أي القيمة والمضمون المتعالي بالإنسان والناس) و »الخُلُق » و »العادة» [2] ، أي أن تُصبح مضامينُ المُقْسَم بهم في سورة الفجر وقيمُهم وذكاؤهم السَّوْقي ــ التاريخي في تغيير البشرية، خُلقًا فينا وعادةً ثانية / أوليّةً تمنحنا القدرات التمهيدية والقدرات التأسيسية للتغيير الخيري.
فإذا «تقاسمنا»، جميعا، أو بنسبة كبيرة أو نوعية، مضامينَ هذا القَسَمْ ( بما هو وقوع تدريجي في القلب، ثمّ خُلُق وعادة) تكوّن لدَينا »الحِجْر » (سورة الفجر،5) أي العقل التاريخي القادر على التغيير القُطري والإقليمي والعالمي، الفردي والجمعي.
والآن،﴿ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ ﴾ المُقسَم بهم !
2_ ﴿ أَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ ﴾ المُقسَم بهم في سورة الفجر:
إن الفجر الفَلَكِي حامل لأفعال الخير والشر البشريين. وكذلك كل ليلة فلَكية، و كل شفع وكل وتر عدديّيْن. ولن يُقْسِم الله تعالى إلا بالأعظم من مخلوقاته(الإنسان)، لا بالأدنى. ولن يجد مُقسَما به أعظم من الإنسان المعصوم، وهو الإنسان الأكمل ، أي ﴿أَهْلَ الذِّكْرِ﴾، حتى يَقتديَ به التّالون للذكر.
فالزمان والمكان، والحجارة والتراب، والهِلْيوم، مخلوقات سُخِّرت للإنسان صالحا كان أو شريرا. ولذلك يجب أن نبحث في مُفترَض احتماليٍّ في أكملية المُقسَم بهم بسورة الفجر، حتى نجعلهم مقتدانا في مطلوب السورة، أي علاماتنا لـ»الرؤية» الثورية الذكية فالتبديلية للأرض: ﴿وٱلۡفَجۡرِ و(…) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ (…)﴾ ، ضد ﴿ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِى ٱلْبِلَٰادِ﴾.
ولقد أقسم الله تعالى برسول الله وبعبد الله بن عبد المطلب معًا في سورة البلد: ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَد﴾[3] ، وأقسم بكل تفاصيل حياة الرسول(ص): ﴿لَعَمْرُكَ﴾ (سورة الحجر، الآية72 ).
المُقسَم بهم | الإِنباء ﴿بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ﴾ |
﴿ٱلۡفَجۡر﴾ | سيدنا محمد(ص) |
﴿لَيَالٍ عَشۡرٖ ﴾ | الأبناء العشر/ الأئمة العشر (ع) |
﴿ٱلشَّفۡعِ وَٱلۡوَتۡرِ﴾ | الإمام علي (ع)والصّدّيقة الزهراء (ع) |
﴿ٱلّلَيۡلِ إِذَا يَسۡرِ﴾ | المهدي(ع) إذ يسري من المدينة إلى مكة |
محمد (ص) هو «فجر» الإنسان ومبدؤه و أكمليته المطلقة، فهو أول المخلوقات أنطولوجيا: «أوَّل ما خلق الله نور نبيّك يا جابر»[4]. ولذلك يقول الرسول(ص) في الدعاء القرآني: ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين﴾(سورة الأنعام، الآية 163).
أما ﴿ٱلّلَيۡل﴾ فهو إسم ابنِ بعض أنواع الطيور[5] . ولا نجد طيرا إنسانيا أكثر تحررا من الرسول محمد(ص) و»لياليه» (عليهم السلام). وقد اعتبر القرآنُ الكريم الرسولَ الأعظم(ص) «طيرا»:﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ﴾ (سورة الشعراء، الآية 215 ). و»الليالي العشر» هم «الليالي» الذين انحدروا من الإمام علي (ع ): الحسن المجتبى، الحسين الشهيد، علي زين العابدين، محمد الباقر، جعفر الصادق، موسى الكاظم، علي الرضا، محمد الجواد، علي الهادي، الحسن العسكري،، عليهم السلام.
أما ﴿ٱلشَّفۡع﴾، فهو المعصوم الذي تلا «الفجر» (ص)، إذ أن «الشَّفْع « معناها الذي يتلو الأول[6]. فنحن نجد في سورة هود: ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ[=رسول الله]. وَيَتْلُوهُ [=ويَعقُبهُ، ويَشْفَعُهُ] شَاهِدٌ مِّنْهُ[= من كيانه، من أهل بيته] _ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ _ [= ومن قبله السُّنَّة الموسوية إذ شَفَع هارون موسى] إِمَامًا وَرَحْمَةً[ إذ كان علي إماما للمسلمين ورحمة للعالمين مقتديا برسوله]﴾.
وأما ﴿ٱلۡوَتۡر﴾ فهو المولود الوحيد لسيدنا محمد(ص) في استمرار الحياة، أي سيدتنا فاطمة(ع). وإذا كان منطق الأرقام يُسبِّق ﴿ٱلۡوَتۡر﴾على ﴿ٱلشَّفۡع﴾، فإن شَفْعَنا بسورة الفجر مُسبَّق على ﴿ٱلۡوَتۡر﴾، لأنه أسبقُ ميلادا من وَتْرِنا، وإن كانا متكافئين في الدرجة الوجودية.
إن «الليل» الفَلَكِي لا «يسري»، بل «يسري» الناس فيه. قال الأخفش العالم اللغوي: «الليل لا يَسْرِي وإنما يُسْرَى فيه. فلما عدل عن معناه، عدل عن لفظه موافقة»[7]. ف»ليل «رسول الله الذي «يسري» هو الإمام المهدي(ع) «يسري» من المدينة المنورة إلى مكة المكرّمة لعقد مؤتمره العالمي مع أصحابه الذين عدتهم عدة أهل بدر، ولإعلان ثورة المستضعفين العالمية على كل الظلم داكّة كل الجور ﴿دَكًّا﴾.
إن أهم «تراث» أهداه الله تعالى للآدميين هو «شجرةٌ» ﴿بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ ﴾ الأربعة عشر(البقرة، الآية 31 ) عليهم السلام. ومن سوء الحظ، أن المستكبرين «أكلوا» ذلك «التراث» المحمدي ﴿أَكۡلٗا لَّمّٗا﴾، أي حاولوا «استئصالهم «[8] ، عليهم السلام. وساعدهم على ذلك «السامريون» ، أي علماء السوء، بتشويه أسمائهم في مناقضة للفطرة: ﴿ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ !﴾ . فلقد «قَرَبُوا» هذه الشجرة النبوية فكانوا ﴿ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾ (البقرة ، الآية 35). فكانت مقاربة «ظالمة» لا مقاربة﴿بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، أي بـ»المودة» و «الطاعة». والمشكل أن الأكثرية صمتت، وهي شاهدة على الجريمة، وإنما قَتَل «ناقةَ» صالح «رهط» محدود، ولكن شمل العذاب الجميع لرضاهم وعدم رفضهم.
فيكون هؤلاء الذين نُقسِم بهم في سورة الفجر هم علاماتنا لـ»الرؤية»[9] في «فعلنا» في تلك الثورة الطاهرة الدّاكّة ﴿دَكًّا﴾ للكيانات «الطغيانية» بكل أنواعها: «العادي» و»الثمودي» و»التفرعني «: ﴿وٱلۡفَجۡر﴾ (و…). أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ(…)﴾. ففعلنا الثوري المهدوي إنما هو فعل الله بواسطتنا: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾(التوبة، الآية 14). فعند تماهينا ﴿بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ ﴾ الأربعة عشر، أي بعناوين هؤلاء ومشروعهم وقِيَمِهم، يكون الحضور الإلهي في الفعل الثوري أعظم: « كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها «. وذلك يعني أن الله تعالى سيؤيدهم بالملائكة صفوفا عقلانية كاملة النجاعة في عمليتي «الدكّ» و»البناء»: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾[10]. جاء في الحديث القدسي الرمزي: «إذا تقرب العبد إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعا «[11].
3_ أهمّ البنيانات الطغيانية:
تلخص سورة الفجر البنيانات الطغيانية في : العاد و الثمود و الفرعون .
_ «العادُ»: هو البنيان السياسي الذي يعتمد في طغيانه على القوى البشرية في غضبيّتها البحتة، حيث تكون قوى سَبُعية صِرْفة .
_ «الثّمود» : هو البنيان السياسي الذي يعتمد في طغيانه على القوى الاستخراجية، من معادن و طاقات و صخور و غير ذلك.
_» الفرعون»[12] : البنيان السياسي الذي له «أوتاد» في بلاد واسعة، بحيث تنسّق «الأوتاد « التابعة مع «الفرعون» / «المركز» من أجل تبادل المصالح و تنمية الطغيان و جعله مستمرا. و ذلك يتطلب الإكثار من »الفساد » كمّيا و كيفيا. فالفرعون هو أكثر البنيانات الطغيانية «فسادًا، لأنه توسعي ينزع إلى توطيد «الأوتاد» بحِمى واسع من العالم، و»الأوتاد» هي أقاليمه التابعة .
هناك سَوْق مشترك في الثورة ذات الرؤية الربانية على هذه البنيانات الطغيانية. ولكن داخل السَّوْق المشترك، نجد خصوصيات في التعامل مع كل بنيان، تحدد معالمها الكبرى سور معينة من القرآن الكريم كسور هود والأعرلف وطه والقصص.
4_ دكّ الأرض وتبديلها:
كل تلك البنيانات الطغيانية ستنهار إذا أقسمنا صادقين بمقاسم سورة الفجر التغييري، أي بشروط التّغيير الكلية الجذرية: ﴿ أَنبِئُونِي[ =أبرزوا لي في أفعالكم التاريخية] بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ (البقرة، الآية 31).
و «جهنم» في سورة الفجر (﴿وَجِيٓءَ يَوۡمَئِذِۭ بِجَهَنَّمَ﴾) ليست »النار» الأخروية، لأن هاته الأخيرة يؤتى إليها، لا العكس. فـ «جهنم» هنا هي إحراق المستضعفين كل الإمبريالية وكل الصهيونية باعتبارهما آخر مراحل الطغيان. واختيار هذا الإسم الفارسي بسورة الفجر إنما يعني أن بداية هذه الثورة العالمية ــــ المهدوية تكون من بلاد فارس: « قالَ ناسٌ من أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وآله وسلَّمَ: ( يا رسولَ اللَّهِ مَن هؤلاءِ الَّذينَ ذَكرَ اللَّهُ إن تولَّينا استُبدِلوا بنا ثمَّ لا يَكونوا أمثالنا؟). قالَ: وَكانَ سلمانُ بجنبِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وآله وسلَّمَ ، قالَ: فضربَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وآله وسلَّمَ فخِذَ سلمانَ، وقالَ: ( هذا وأصحابُهُ. والَّذي نفسي بيدِهِ، لو كانَ الإيمانُ معلقا بالثُّريَّا لتناولَهُ رجالٌ من فارسَ «[13].
فالثورة الإنسانية «المُنْبِئَة» ﴿بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ﴾ هي الثورة التي بها تُدك ﴿ٱلْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ﴾، ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ﴾ (سورة ابراهيم، الآية 48)، من أرض الامتلاء بالطغيان إلى أرض الامتلاء بالقسط والعدل: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ (الحديد، الآية 25). هنالك يرجع «الآدمي» من جديد إلى جنته بعد أن خرج منها إذ أكل من شجرة ﴿هَٰؤُلَاءِ﴾، أصحابِ الأسماء: ﴿يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ (27) ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ (28) فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي (29) وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي(30) ﴾.
5_ إطعام الطعام و تجنب أكل التراث:
«الإطعام» هو إذلالٌ للمطعم اذ يبقى مجبرا على البقاء منفعلا لا فاعلا.
أما «إطعام الطعام»، فليس هو إطعام المسكين و اليتيم و الأسير، بل هو إطعام طعامهم، أي توفير الظروف المناسبة التي تجعلهم «طاعمين»، أي ذوي أمن غذائي ومعاشي وصحّي.
فلنتجنب مصير العاد و الثمود و الفرعون، ينبغي إكرام اليتيم، أي توفير الظروف اللائقة له حتى يكون إنسانا ذا «مشيئة» و «كرامة»:﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ…﴾ (سورة الإسراء 70). كما ينبغي «الحض» على طعام المسكين أي «إطعامُ طعامِه» : ﴿وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا. إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورًا﴾ (الإنسان،8 و9). فليس الأمر إطعاما للمسكين، بل حضّ على شروط إطعامه، أي إطعام لطعامه، بما هو حث للظروف المعاشية العامة و الخاصة بمن كان مسكينا حتى يتنقل بسرعة من حالة المسكنة.
من ناحية أخرى ينبغي تجنب »أكل التراث » أي سوء التدبير في الميراث العائلي، أوالقومي أو سرقته أو الاعتماد المفرط عليه في الكسب، و كذلك تجنب »حب المال »﴿حُبّٗا جَمّٗا ﴾ (سورة الفجر،20).
فالمطلوب هو حب الغايات النبيلة من الاستثمار المالي لا حبه لذاته. و «التراث» عموما هو ملك الأمة، و»أكله» إنما هو سرقته من قبل أقلية، و ينبغي في «العرش» الإسلامي »قَطْعُ أياديها »الماسكة بـ» التراث» (المائدة، 32 ).
و الأزمات المعاشية : ﴿..فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُ.. ﴾ (الفجر، 16) ، لاتعود إلى عزم إلهي ظالم، يلغي مبدأ «التكريم الآدمي»، و حاشا الله تعالى من الظلم، بل تعود إلى الفساد المعاشي البشري والعزائم المعاشية و الكسبية الفاسدة التي تتسبب في ضرب تكريم» بشر كثيرين : ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ﴾ (الإسراء، 70). فلا تُكْرِمُ تلك العزائمُ اليتيمَ و لا تطعم طعامَ المسكين، و «تحبُّ المال» من أجل المال و «تُبْخِسُ» فيه الناس إذ »ما جاع فقير إلا بما متع به غني «.
6_ أكل التراث أو السرقة مقولةً قرآنية :
لا نستطيع أن نفهم مقولة « السرقة» في القرآن الكريم، ومن ثمة مقولة « السرقة» في السنة والاجتهاد، إذا لم نعد إلى كل سياقاتها القرآنية. فقد وردت بهذا اللفظ في ثلاثة سياقات، بسورة المائدة وسورة يوسف و سورة الممتحنة.
ففي سورة المائدة، تتأطر مقولة «السرقة» بالمقطع الذي يبدأ بالآية 22 و ينتهي بالآية 40. وهو مقطع يتناول «الفساد» البشري مبتدئا بـ»الإمّة»[14] القابيلية/القايينية[15] التي ترتّب عنها الحسد والقتل، ومرورا بـ»السعي في الأرض فسادا « (المائدة 23) أي «الإكثار الفرعوني من الفساد» (أي التحمية العالمية للفساد)، كما في سورة الفجر(الآية 12).
فكما أن «أكل التراث» فعل ذو مدى اجتماعي واسع أو مرتبط بـ»التّحْمِية الأَوْتادية»-التوسعية الفرعونية في سورة الفجر الآية 12، نجد أن «السرقة» في سورة المائدة مرتبطة بالفساد في الأرض (المائدة ،33) أي بحِمى الدولة الطغيانية البسيطة أو حِمَى «الدولة الأوتادية» ذات الإمكانيات النهبية الأوسع.
فـ»السرقة» مفهوم يرتبط بالمدى الاجتماعي أو بحِموية الدولة البسيطة أو حِموية «الدولة ذات الأوتاد» ( وخاصة الدولة الطغيانية منها، أي الفرعونية، إذ أن إمكانيات «السرقة» بالدولة الإسلامية ذات الأوتاد ضعيفة).
ومن ثمّة فينبغي أن نميز بين «السرقة» وبين الاختلاس والنشل (ذات المدى المحدود)، وغيرهما من أنواع نزع الملكية الأصلية، ولكل واحد منها عقوباته الخاصة.
فـ» السرقة» (بما هي «الاعتداء» على ملكية الأمة أو الدولة) ذات «أياد» (المائدة، 32) تتحكم في سيرورة الدولة البسيطة، أو ذات»الأوتاد» (الفجر، 10). (باعتبار أن «الأوتاد» هي «أياد» أضخم حِمويا وقدرةً معاشية وقهرية تستزلم الفرعون/المركز)، أو هي «أياد» تريد أن تعيد «الفساد» تدريجيا أو نسبيا إلى دولة الانتقال اليوسفي أو دولة الاكتمال المحمدي(الصحيفي أو المهدوي). فـ»السرقة» بما هي «اعتداء» مفترض على حق الأمة أو الدولة، كان الافتراض أن إخوة يوسف فعلوه إذ ربما أخذوا «سقاية دِين[16] الملك الإصلاحي»، أي إحدى الأدوات الرئيسية لـ»بسط القسط» في تلك السنوات الانتقالية الصعبة بمصر، ولذلك كان ردّ هؤلاء الإخوة: ﴿تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض﴾ (يوسف، 73).
لقد سمى عبد المطلب (ع) أحدَ أبنائه «مِذْحَج» أي «النصير» في اللغة اليمانية، إذ كان يربيه على نصرة محمد(ص) وحمايته منذ ولادته(ص). ولكن حبه للمال والجاه ﴿حُبّٗا جَمّٗا﴾، جعله يتخلى عن «الملة» الهاشمية ـــــ الإبراهيمية، متقربا إلى بني أمية، فزوجوه ابنتهم، ومنحوه من مالهم الربوي المتحالف مع الكنز الربوي الخيبري، وتخلى عن تسمية أبيه ليسمي نفسه: «عبد العزى»[17] ، ليصبح عدوا لرسول الله(ص). ولذلك سماه الله تعالى ب﴿أَبِي لَهَبٍ﴾ ، أي أحد آباء الكنز الربوي ـــ الجهنمي: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ، فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ. هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ، فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾(التوبة، الآيتان 34و35). و لـ «عبد العزى» ـ «يدان» ﴿ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ ، واليدان هما: يد »الدُّولَة» الربوية ويد »القهر» السلطوي، أي ﴿ماله﴾ و﴿ما كسب[ من قدرة سياسية واجتماعية]﴾(سورة المسد، الآية2). و﴿تَبَّتْ﴾ و﴿ تَبَّ﴾ تفيدان ضرورة قطع هاتين اليدين بنسق معاشي»إكراميٍّ» و»عرش» سياسي محمدي «يدكّ» »البخس» و الدولة المعاشية ﴿ دكًّا دكًّا﴾.
أما ﴿امْرَأَتُهُ﴾ فهي الشراكة النسائية في أبوة «اللَّهَبِيّةِ» الاجتماعية. وأما ﴿جِيدِهَا﴾ فهو «الفعل» الإعلامي والفني في تلك الشراكة بإحالة «الجِيد» إلى الصِّواتَةِ. وأما الـ﴿حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ فهو الأفعال الإعلامية والفنية «الصلاحية» المضادة لتلك الشراكة الإعلامية والفنية الشيطانية.
وإذا كانت «السرقة» في الدولة الإصلاحية «اليوسفية» (= الانتقالية) لا تتجاوز في عقوبتها سجنا مطوّلا أو ما يشبهه، فإنها في دولة «التمكين» المحمدية حيث البسط الجذري للعدل وهيمنة الحِجْر(=العقل، العرف،…)، ستكون قطع كل «الأيدي» أي التي يمكن أن تسمح بظهور السرقة والسارق والسارقة. «والأيدي» هي إمكانيات مِلية – رمزية و انتحالية وإعلامية وتقانية وسلطوية وكنزية. وقد تكون هذه «السرقة» دينية (تشويه الدين الحقيقي، وتوظيفه في خدمة الطغيان والطاغوت) أو معاشية (مناجم، آبار نفط وغاز، بحر أو مسطحات مائية، مال عام، ديوانية (دين الملك، بلغة سورة يوسف، الآية 71) أو تَهُمّ سيادة الدولة والأمة عموما. فـ»القطع لأيدي السرقة» يمكن أن يكون استباقيا– أوّليّا – ابتدائيا، ويمكن أن يكون جزائيا – استتباعيا: ﴿ وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا [من ناحية] نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِ [من ناحية أخرى] ﴾ (المائدة، 39 )، وذلك لفرض هيمنة العدل على الأرض كافة: ﴿أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ؟ ! ﴾(المائدة، 40). فلهذا «القطع لأيدي السرقة» علاقة بتوطيد ﴿أَرۡض﴾ جديدة، أي بـ»أوتاد صالحة» (= أقاليم بالسلم العالمي ﴿كافة﴾ متكاملة).
7_ «التكريم» إمَّة «القرية» العدلية:
«التكريم الآدمي» هو الحمل القروي/ التَّقْرَوي(= الاجتماعي) الخالي من الظلم والفساد التراثي و»المنبئ» باسم إمام مجعول لـ»الأُناس» بـ»القرية» (سورة الإسراء، الآية71). هو تمكن بني آدم المتساوي والمتنامي من حظوظ الحق والعدل والاقتدار و الأمن بالأرض والسماوات
﴿القرية﴾ هي النسق التَّقْرَوي (=الاجتماعي). فـ «التَّقرِّي» هو التجمع[18].
يقوم »التكريم الآدمي» على « التفضيل الآدمي «: ﴿ هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا﴾(البقرة، الآية 29)، ثم: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا ﴾ (البقرة، الآية 34)، و على «المشيئة»: ﴿ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا﴾(البقرة، الآية 35) أي هيمنا على الأرض بمشيئتكما الذكورية والأنوثية من أجل السعادة الإنسانية. فـ»التكريم الآدمي» يقوم وعيا على التكافئ الجنوسي. والتكافؤ التَّقْرَوي(﴿تكرمون اليتيم﴾)، و عدم «أكل التراث» ﴿أكلا لما﴾ إلى حد تهديده ب ﴿الصّريم﴾ أي الانقراض: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ﴾، وعدم «الفساد» (الفجر، الآية12)، وعدم «منع الماعون»[19]، حتى يبقى الرزق من الطيبات بعيدا عن الطغيان فيها (طه، الآية 81).
ولن تتكامل هذه «القرية» ولن تستمر إلا إذا «أَنْبَأَتْ» ﴿بأسماء هؤلاء ﴾ الأعيان الأربعة عشر (الفجر الآيات من 1 إلى 4) الذين لا تكون «الآدمية « الخالصة إلا بهم. فإذا أنبأ ﴿كلَّ أُنَاسٍ ﴾ قريةٍ عدليةٍ ﴿ بِإِمَٰمِهِمْ﴾ ﴿ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَٰبَهُمْ [يملؤون تاريخهم عدلا وقسطا] وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾(سورة الإسراء، الآية 71) .
فهنالك بتلك «التقرية» لا ظلم ولا جور ﴿تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ ﴾ و﴿ تَحَاضُّونَ (تحضون) ﴾ على «إطعام طعام المسكين»، ويكون مبوؤكم ﴿ مُبَوَّأَ صِدْقٍ ﴾ (سورة يونس، الآية93)، أي بيئة دون «أكْلٍ لمٍّ» للتراث و دون ﴿ دُولَةَۢ بَيۡنَ ٱلۡأَغۡنِيَآءِ ﴾ (الحشر، الآية 7).
خلاصة:
تَزْرَعُ فينا سورة الفجر تماهيا بالمعصومين الأربعة عشر، بواسطة القَسَم بهم، حتى يكون «فعلنا» الثوري «الدّكّي» فـ»التبديلي» حاملا للرؤية النبوية: ﴿ألم تر﴾، وتمهيدياــ مهدويا ، أي إلهياــ تاريخيا، ناجعا: ﴿كيف فعل ربك﴾ بالأنواع الطغيانية. تؤكد سورة الفجر أن الهدف النهائي من «الفعل» المهدوي هو إقامة القسط والعدل ودك «الأكل اللّم» للتراث البيئي والبشري ﴿دكًّا﴾ واستئصال الفقر والهامشية من أجل قرية (= اجتماع) «تكريميةٍ» دستوريا،»إكرامية» أفعالا.
|
عود على بدء: بين مقدمة السورة وخاتمتها:
لا تنسوا أن منهجنا سُوريّ، وأن السورة نسق دائري مفتوح . _ هل علمتم من هم ﴿عِبَٰادِي﴾ بخاتمة السورة الذين تَدْخُل فيهم كل نفس مطمئنة؟ ﴿أنبئوني بأسماء هؤلاء ﴾، أي تبينوا مشروعهم . _ إنهم ﴿ٱلۡفَجۡر، ولَيَالٍ عَشۡرٖ، وٱلشَّفۡع وَٱلۡوَتۡر، وٱلّلَيۡل إِذَا يَسۡر﴾ في مقدمة السورة. و»الاطمئنان» المتكامل لا يكون إلا باستواء الحِجْر لدى الأفراد وجميع الأمم. إنهم ﴿ أسماء هؤلاء ﴾ الذين يجب أن تُنْبِئ اللهَ تعالى بهم لتصبح ذا «حِجْر»، ف» ترى»﴿كيف﴾ تفعل لتدك الأرض الاستكبارية ﴿دَكّٗا دَكّٗا ﴾ ، لشارك في «تبديل» الأرض الجَوْرِيّة بالأرض العدليةــ القسطية. ﴿ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ﴾ أي فادخلي في أسماء الفجر و الليالي العشر، أدخلوا قريتهم القسطية ــ العدلية، ﴿ ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ﴾: وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ[«المخلص» باللغة العربية السريانية] لِقَوْمِهِ ، فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ . فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا [أنفجر من الموسى اثنى عشر إماما]. قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ[كل أناس بمرحلة إمامية معينة] مَّشْرَبَهُمْ [تأويلهم المرحلي] . كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ[ مثل الكيانات الطغيانية الثلاثىة]﴾(سورة البقرة، الآية 60). |
باردو، أوت/أغسطس(رمضان) 2016
…………………………………………………………………………………
[1] الفيروز أبادي، القاموس المحيط، الجزء الرابع، ص 164
[2] الفيروز أبادي، م، س، ص 164 أيضا
[3] انظر تدبرنا في سورة البلد.
[4] صححه الألباني، السلسلة الصحيحة ، 1/820 .
[5] ابن منظور ، لسان العرب، المجلد 11، دار صادر،بيروت 1997، ص 609.
[6] ابن منظور الإفريقي ، م.س، المجلد 8 ص183.
[7] انظر ابن عجيبة، البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، المكتبة التوفيقية، القاهرة، 2002، تفسير سورة الفجر، وانظر ابن منظور الإفريقي، مادة ل. ي. ل.
[8] راجع ابن منظور، مادة: «أ كـ ل «.
[9] انظر الصدر (محمد باقر)، أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف. وانظر تدبرنا في سورة الكهف .
[10] »الصف « مصطلح عسكري في الأصل، في إحالة إلى الاصطفاف المهدوي العالمي.
[11] رواه البخاري…
[12] لا نجد كلمة »فرعون » في اللغة المصرية القديمة، وهو في العربية لا تدل على حاكم مصر القديمة بالضرورة، بل تعني إجمالا الطاغية ذا الحمى التوسعي…( راجع: الفيروز أبادي، القاموس المحيط، الجزء 4، ص 256).
[13] رواه الترمذي والبخاري ومسلم…
[14] »الإمّة» مقولة قرآنية تعني النواة المركزية لـ»الملّة»، وهي التي تتحكم في تبلور الملّة وهيمنتها وتفاصيلها.
[15] »قايين» هو الابن غير الصالح لآدم، في اللغة العربيةـالسريانية.
[16] « الدين « هنا بمعنى الديوان أي البيرقراطية في لغات أوروبا الغربية.
[17] انظر مقولة «العزى» في تدبرنا بسورة النجم.
[18] راجع مادة ق ر ي في لسان العرب.
[19] انظر تدبرنا في سورة الماعون.