الإثنين , 25 نوفمبر 2024
أخبار عاجلة

تغيير الدستور…ضرورة يفرضها الواقع السياسي!!…بقلم الناشط السياسي محمد البراهمي

تعيش تونس مرحلة فارقة ومفصلية في تاريخها الحديث بعد الخامس و العشرين من جويلية 2021 ووضعا إستثنائيا، وفي خضم هذه التحولات التي تشهدها البلاد ارتفعت أصوات تدعو إلى إستفتاء لإختيار نظام جديد عوضا عن النظام السياسي القائم، وذلك بهدف إقرار نظام واضح المعالم سواء كان رئاسيا أو برلمانيا خلفا لهذا النظام “الهجين والغريب” الذي أقره دستور سنة 2014 والذي أوصل البلاد إلى هذا النفق المظلم الذي لا تلوح بوادر نهايته في الأفق على المدى القريب.. النظام السياسي فاشل، ولم يعد بإمكانه أن يلبي احتياجات التونسيين و لم يحقق الإستقرار السياسي المنشود.. اليوم وصل هذا النظام إلى نهايته وانهياره، وهذا توصيف للواقع، فالنظام السياسي الهجين أضاع مركز القرار، حتى مع وجود رئيس جمهورية ولكنه محدود الصلاحيات و بالتالي تغيير الدستور ضرورة يفرضها الواقع السياسي ..

إنّ الطبقة السياسية التي حكمت تونس بعد 2011 لم تأتِ بأي مشروع دولة حقيقي، ولم يكن لديها رؤية عقلانية للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ويُمكن معرفة ذلك من خلال حقيقة أن الأحزاب الحاكمة لا تمتلك برامج سياسية مكتوبة، وهذه ربما حركة مقصودة لأن ذلك يُتيح المزيد من الحُرية للأحزاب التي سرعان ما انغمست في وحل الفساد وهدر المال العام ، وإطلاق الوعود الخاوية، وأبقت الدولة في حالة من الركود والجمود، وهكذا سارت العملية السياسية التونسية في السنوات الأخيرة بشكل فوضوي، وتداخلت معها جميع أنواع الفشل والمصلحة النفعية الحزبية و المحاصصة بشكل عام، وقد سعت الأحزاب السياسية الحاكمة إلى تلويث عقول الناس بالخطابات الديماغوجية والوعود الزائفة من أجل كسب أصواتهم وتحويلهم إلى بيادق تحركهم متى ما أرادت، بمعنى أنها عمدت على تجهيل أكبر قدر ممكن من الجماهير لضمان دعمهم الطوعي وأصواتهم في الانتخابات، وقد نجحت في ذلك كثيرًا، وجعلت العديد من الناس يتعاملون مع الساسة بقدسية تامة، ويرفضون نقدهم أو التعرض لفسادهم، وبالتوازي مع ذلك، تبنت السُلطة الحاكمة أسلوب التحايل والتكاذب على الناس من أجل الاستمرار في السلطة والتفرد بها، وهذا الأسلوب عطل الحياة وازدهارها، ووضع المُقدمات لانهيار النظام السياسي أخلاقيًا، وتحوله إلى منظومة معزولة منبوذة لا ترى في الوطن إلا نفسها وامتيازاتها، ولم تكن تظاهرات 25 جويلية 2021 إلا دليل على حجم الكبت والرواسب السياسية المُحتقنة في النفوس، والتي لم يعد الناس تحملها..

لم يكن مفاجئا فشل النظام السياسي التونسي في احتواء التناقضات بين الفرقاء السياسيين، ولا عجزه عن ردم الفجوة بين المواطن والحكومات المتعاقبة و الطبقة السياسية ، فالرهان كان دائما على عامل الزمن لكشف عورة هذا النظام السياسي الذي أسسته صفقات وتوافقات بين زعماء سياسيين تهيمن على مخيلتهم عقلية الغنيمة والبحث عن ضمانات لبقاء هيمنهم وسطوتهم على العملية السياسية، وليس التفكير بتأسيس دولة تكون ضامنة لحقوق المواطن التونسي.. النظام السياسي فاسد والجميع يعرف ذلك بمن فيهم الفاسدون أنفسهم، فساد النظام عميق وقديم ويحمي نفسه والمشاركين فيه بقوة، و الدعوات الحالية لتعديل النظام السياسي تؤكد فشل من قام بوضع دستور 2014، ، و تؤكد أنّ نظام الحكم البرلماني المعدّل الذي تبنته تونس في دستور 2014، أحدث شتاتاً برلمانياً عمّق الأزمة في البلاد و خلق تداخل معقد في الصلاحيات وتشتيتها.. ، و خلّف عجز في إدارة دواليب الدولة، خلال العشرية الأخيرة..و بالتالي لابدّ من تغيير دستور 2014، بما يضمن نظاماً جمهورياً ديمقراطيّا اجتماعيّا يُؤسّس للاستقرار السياسي ويلبّي طموحات الشعب في الكرامة التي أساسها الحرية والعدالة الاجتماعية، فضلاً عن مراجعة القانون الإنتخابي.. لقد آن الأوان لتغيير الدستور ، و تركيز الحديث على ضرورة البدء بتعديله وإعادة النظر في تأسيسه لنظام سياسي لا يُعبّر عن عقد اجتماعي، وإنما يُعبّر عن رغبة طبقة سياسية في كتابة دستور على مقاس ترويكا ذلك الوقت، فخطيئة كتابة الدستور قبل بناء مؤسسات الدولة وترسيخ حضورها في مجالات الحياة العامة، يجب أن تكفّر عنها جميع القوى السياسية الفاعلة والمؤثرة في المجتمع و في الساحة السياسية ، إذ لم يعد مبرراً التمسك بدستور يعترف الجميع حتّى من ساهموا بكتابه بعدم صلاحيته للبقاء ، وبات عائقاً أمام أي محاولة لإصلاح النظام السياسي وتحقيق الإستقرار المنشود .. و الغاية من جعله دستوراً جامداً معناها الإصرار على بقاء تشوهات ولادة هذا الدستور، في الوقت الذي يُعد هذا الأمر المبرر الرئيسي في الدفع نحو تغييره، لأنّها تعبير واضح وصريح عن مدى قصر نظر القوى السياسية والأطراف التي ساهمت في كتابته ورغبتها في أن تكون الفترة الانتقالية هي الحاكمة والمتحكّمة في مستقبل الحياة السياسية ، وهذا خلاف منطق التاريخ الذي تخبرنا تجاربه بأنَّ معيار تطوّر تجارب الأمم ورقيّها مقترن بظروف المستقبل وليس وفق شروط الماضي، و الدستور قابل للتطوير بتطور الزمان.. و بالتالي وجوب تغيير الدستور يجب أن يستحضر فشلَ تطبيق النظام السياسي الهجين والذهاب نحو نظام سياسي جديد عوضا عن النظام السياسي القائم، وذلك بهدف إقرار نظام واضح المعالم سواء كان رئاسيا أو برلمانيا خلفا لهذا النظام الهجين والغريب الذي أقره دستور سنة 2014 والذي أوصل البلاد إلى هذا النفق المظلم الذي لا تلوح بوادر نهايته في الأفق على المدى القريب..

لم يُخفِ الرئيس سعيّد من البداية أنّه يريد تغيير النظام السياسي رأسا على عقب، وأنّ ديمقراطية العشريّة السابقة ليست سوى شكل من أشكال التغطية على الفساد والاستغلال، وهي أداة بيد اللوبيات أكثر من كونها وسيلة للتغيير، ربما لم يلتفت الجميع لأفكاره التي كانت أقرب إلى نموذج مثالي في الحكم يريد أن يوسّع السلطة بين الناس بدل أن تحكمهم فئة محدودة صعدت بالأساس لتحقيق أهداف مناقضة لمصالحهم، و قد وجد نفسه في مواجهة طبقة سياسية ترفض التنازل عن أفكار ليبرالية تطمح فقط إلى السلطة.. لا أحد يستطيع إخفاء حقيقة أن النظام السياسي الحالي تشكل وفق مُخططات رخوة، لا تنسجم مع أسس النظام الديمقراطي السليم، وبدأ هذا الخطأ مع كتابة الدستور 2014، وقد فصّل هذا الدستور الملغم نظام سياسي مُعقد قائم على التقسيم المحاصصاتي للسلطة و تفكيك مؤسسات الدولة ، ومنح الساسة امتيازات فاحشة، ورسخ أقدام نُخب وأحزاب سياسية فاسدة، لم ينتج عنها إلا فساد دمر الحرث والنسل وحطم اقتصاد تونس ، وبدد ثرواتها وضاعف البطالة والمشاكل الاجتماعية، حتى أصبحت آفة الفساد في المشهد التونسي جزءًا بنيويًا في النسيج السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.. يُعرف الدستور على أنه القانون الأسمى في الدولة والذي يتم من خلاله تحديد شكل الدولة وحكومتها ونظام حكمها وطبيعة السلطات واختصاصاتها والعلاقات فيما بينها وحدودها إلى جانب تحديده لحقوق المواطنين وضمان أداء هذه الحقوق لهم، و إنّ دساتير الدول يتم صياغتها بما يتفق مع الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية لكل دولة وبطبيعة الحال فإن هذه الظروف تتغير لذا لابد من تعديل الدستور بما يتفق مع الظروف المتغيرة سيما وأنّ دستور أي دولة من الصعوبة وصوله إلى درجة الكمال مهما كانت درجة إتقان صياغته..بُني دستور الجمهورية الثانية على سياسة “تجزئة المجزء” و” تفكيك المفكك” بين السلط، تشريعية، تنفيذية ، و في مناخ من انعدام الثقة بين الفاعلين السياسيين و خاصة بين ما تسمى بالقوى التقدمية من جهة و حزب النهضة من جهة أخرى، عللت كل الأطراف هذا التوجه في صياغة دستور 2014 بدعوى الخوف من شبح عودة الدكتاتورية و حكم الفرد الواحد حتى استحال أخذ القرار وتعذر رسم سياسة تصلح لإنقاذ البلاد من حالة العطالة و العجز طيلة السنوات العشر الماضية.. إذ يحمل دستور تونس بذرة تناقضاته من نظام أكبر البواقي الإنتخابي القائم هو بدوره على تشتت المشهد الحزبي حتى لا يتغول أي حزب على المشهد الحزبي و يتمكن من الإستفراد بالحكم لوحده، إنه في الحقيقة هاجس الخوف من الآخر و غياب للثقة بين الفاعلين السياسيين ممّا حول الساحة السياسية التونسية الى صراع ايديولوجي عقيم في غياب البرامج و الحلول للأزمة الاقتصادية و الاجتماعية العميقة.. لا يمكن فصل ما تعيشه تونس اليوم من غموض في قراءة الدستور و تأويله في اتجاهات مختلفة و متناقضة في كثير من الأحيان ،عن حالة دستور تونس الملغم بتأويلات متعددة أصبحت ملجئ السياسيين لتمرير رؤيتهم للحكم حتى أصبح تأويل الدستور فضاءا للصراع السياسي عوض صراع البرامج و الرؤى.. إنّ الدستور بشكل عام هو مجموعة من المبادئ الأساسية ، والهدف الأساسي منها هو صياغة قوانين و أنظمة تهدف إلى تطوير البلاد وخدمة الناس جميعا، و بالتالي الدستور ليس قرآناً مُنزلاً أو قدراً محتوماً، أو وثيقة مقدسة تسعى لترسيخ القديم وعرقلة تقدم المجتمع أو يُفصّل على المقاس ، وأي دستور كهذا يجب التخلي عنه خدمة للشعب و لمصلحة تونس.. فالدستور قابل للتطوير بتطور الزمان.. إنّ تغيير الدستور ضرورة يفرضها الواقع السياسي.. و لم يعد مبرراً التمسك بدستور بات عائقاً أمام أي محاولة لإصلاح النظام السياسي.. و إنّ أحد أهم مداخل إصلاح النظام واستقراره هو الإقدام على تغيير الدستور بما يوضح صلاحيات كل سلطة، و يعبر عن إرادة الشعب..

كان التونسيون يمنون النفس بدولة ديموقراطية توفر لهم احتياجاتهم، وتحفظ لهم كرامتهم وتعوضهم الحرمان في إطار دولة ديمقراطية عصرية متطورة ذات سيادة وطنية، ولكن حصل العكس تمامًا، وباتت الدولة تتهاوى ، وسرعان ما وقعت بين رحى سلطة الفساد و تأييد المحاصصة الحزبية والتطبيع مع الفساد كمنهج للحكم، ليصل كل ذلك بتونس إلى حافة الإفلاس سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.. يقول ابن خلدون عن دور الفساد في انهيار الدول، إن “انتشار الفساد يدفع بعامة الشعب إلى مهاوي الفقر والعجز عن تأمين مقتضيات العيش، وهو بداية شرخ يؤدي إلى انهيار الحضارات والأمم”، لقد كان ابن خلدون محقًا في هذا الرأي الذي يعطي صورة مُختصرة عن الواقع المؤسف الذي وصلت إليه دولتنا اليوم نتيجة تراكمات الفساد و التعامل مع الدولة بمنطق الغنيمة و التوافقات المغشوشة والتنصل عن المسؤولية السياسية والأخلاقية التي ضاعفت الفقر والبطالة والحرمان الاجتماعي، والتي قادت الوطن إلى شرخ سياسي و إجتماعي عميق يتطلب عملية إصلاحية جذرية..

إنّها المؤامرة في حلقاتها الأخيرة بدأت تغرز أنيابها وتكشف عن وجهها القبيح ..في هذه المرحلة الإصطفاف والإخلاص لهذا الوطن هو كل ما نحتاجه ، و دعم تونس هو كل ما نحتاجه في هذه الفترة التي نواجه فيها مخططًا خارجيًا يدعمه ضعاف نفوس في الداخل والهاربون في الخارج، فإمّا أن ندرك ذلك و نقف بكل قوة إلى جانب تونس و إرادة الشّعب في تقرير مصيره، وإلاّ سيكتب التاريخ فينا ما لا نحب.. و على العقلاء أن يصغوا إلى صوت العقل وينضمّوا إلى قوى الشعب التونسي لإعادة بناء دولته الديمقراطية، وعدم فسح المجال أمام قوى الردّة و رعاتهم في الخارج الذين يريدون عودة منظومة الخراب و نظامها الأعرج ، نعم إنّها رحلة شاقة لبناء الجمهورية الجديدة تستحق التضحيات لأنّ في نهاية المطاف ستنتصر إرادة الشعب التونسي.. و على القوى الوطنية المنحازة للشعب و للوطن و لمسار 25 جويلية أن يحددوا مواقفهم.. فتونس لن تبنيها الأيدي الآثمة، ولا النظريات الخائنة، ولا وشوشة الأوكار النائمة، ولا الغرف السوداء، بل تصنعها الإرادة الوطنية و الشعبيّة.. لابدّ أن يعي الشعب التونسي بحساسية المرحلة والتضامن مع الدولة حتى تنتصر في معركتها المعلنة على عدة واجهات لأن هذا الوضع سيقود البلاد إلى الخراب، و على التونسيين الأوفياء خوض معركة الإستفتاء الشعبي من أجل إنقاذ البلاد، إنّ نظام الحكم الحالي في تونس انتهى و على الوطنيين و الأغلبية الصامتة التي لم تصوت في الانتخابات الماضية أن يتحملوا جميعهم مسؤوليتهم في عدم ترك البلاد للعابثين و الفاسدين و تغيير هذا النظام السياسي التعيس الذي قاد البلاد إلى الأزمات.. إنّ الإستفتاء الشعبي هو الخيار الحاسم ليقرر الشّعب مصيره بنفسه و يعبر عن إرادته لبناء جمهورية جديدة بدستور جديد..

عاشت تونس حرّة مستقلّة
عاش الشعب التونسي العظيم

شاهد أيضاً

القضية الفلسطينية.. بين الصمت والتآمر والتضليل!!…بقلم الناشط السياسي محمد البراهمي

يرى كثيرون ان أصل الشرور في الشرق الاوسط في المائة سنة الاخيرة هو (اغتصاب فلسطين) …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024